مع القرآن الكريم
(أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ ءَايَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) [البقرة 187].
جاء في كتاب «التيسير في أصول التفسير» لمؤلفه العالم في أصول الفقه أمير حزب التحرير عطاء بن خليل أبو الرشتة (حفظه الله تعالى وسدد خطاه):
يبين الله سبحانه في هذه الآيات:
-
إن الله سبحانه قد أحلّ مباشرة الزوج لزوجه في ليلة الصيام، فقد جعل الله كلاً منهما ستراً لصاحبه ينكشف عليها وتنكشف عليه فكأن كلاً منهما لباس لصاحبه.
(الرَّفَثُ) أصله من رفث في كلامه وترفث أي أفحش وأفصح بما يكنى به والمراد به هنا الجماع.
-
إن الله سبحانه قد علم أنكم تخونون أنفسكم وتوقعونها في الظلم بمباشرة النساء في ليالي رمضان، وأن الله سبحانه قد تاب عليكم وعفا عنكم فلم يؤاخذكم بما فعلتم ويعاقبكم عليه بل تجاوز عما فعلتموه والآن جعله حلالاً لكم فلا إثم في مباشرة النساء في ليل الصوم.
روى أبو هريرة (رضي الله عنه) قال: “كان المسلمون إذا صلوا العشاء الآخرة حرم عليهم الطعام والشراب والنساء حتى يفطروا، وإن عمر بن الخطاب أصاب أهله بعد صلاة العشاء وأن صرمة ابن قيس غلبته عينه بعد صلاة المغرب فنام ولم يستيقظ حتى صلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) العشاء فقام فأكل وشرب، فلما أصبح أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأخبره بذلك فأنزل الله: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ) الآية” (الدر المنثور، تفسير الطبري).
(تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ) الاختيان من الخيانة كالاكتساب من الكسب، أي تخونون أنفسكم وتظلمونها بالجماع في ليل الصيام.
(بَاشِرُوهُنَّ) أي جامعوهنّ في ليالي الصيام وهو أمر إباحة، والمباشرة كناية عن المجامعة لالتصاق بشرتيهما، وقرينة الإباحة هي ورود الأمر بعد حظر فيعود الفعل إلى أصله أي الإباحة كما هو مفصل في أبحاث القرائن في كتب الأصول.
(وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ) اطلبوا ما قسم الله لكم من الولد، فالمباشرة لا تكون لقضاء الشهوة وحدها بل لابتغاء ما وضع النكاح لأجله وهو التناسل “تناكحوا تناسلوا فإني مفاخر بكم الأمم يوم القيامة” (أبو داود، والنسائي، وأحمد، وابن ماجه، وابن حبان) وهو هنا للندب، وقرينة الندب مدح الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لطلب الولد (التناسل) على النحو المبين في الحديث.
-
يبين الله سبحانه متى يجب أن نمسك عن الطعام والشراب ومباشرة النساء بقوله سبحانه (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) أي إلى طلوع الفجر الصادق وهو البياض عند الأفق على شكل خيط أفقي فيفرق بين الليل والنهار، وقبل ظهور هذا البياض على شكل خط أفقي يكون قد ظهر بياض على شكل خط عمودي عند الأفق وهو ما يسمى بالفجر الكاذب، والطعام والشراب والمباشرة لا تنتهي بهذا الفجر الكاذب بل بطلوع الفجر الصادق الذي بيناه.
“عن عدي بن حاتم قال: لما نزلت هذه الآية (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ) عمدت إلى عقالين أحدهما أسود والآخر أبيض فجعلتهما تحت وسادتي، قال فجعلت أنظر إليهما فلما تبين لي الأبيض من الأسود أمسكت فلما أصبحت غدوت إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأخبرته بالذي صنعت فقال: إن وسادك إذن لعريض، إنما ذلك بياض النهار من سواد الليل” (البخاري، ومسلم، وأبو داود، والدارمي) [وسادك عريض: كناية عن كثرة النوم، لأن من عَرُضَ وساده طاب نومه. أو كناية عن عِرَضِ قفاه وعِظَمِ رأسه، وذلك دليل الغباوة (القاموس المحيط)].
“ثم إن الله سبحانه أنزل بعد ذلك (مِنَ الْفَجْرِ) كما روى البخاري في صحـيـحـه عن سهل بن سعد” (البخاري). فكانت بياناً للمجمل (الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ).
-
(ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) يطلب الله سبحانه أن نتم الصيام إلى الليل وهو يعني أن يدخل جزء من الليل ولو يسير لأن النهار متصل بالليل، فحتى يكمل صيام النهار لا بدّ من تلامس بين النهار والليل، وهذا يعني بدء الليل حتى يصح الفطر “إذا أدبر النهار من هنا وأقبل الليل من هنا فقد أفطر الصائم” (البخاري ومسلم).
ومن هنا كانت القاعدة (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب) فلا يمكن أن يكتمل النهار دون دخول جزء ولو يسير من الليل لملامسته له، ولذلك قالوا “الغاية تدخل في المغيّا” وعلى نحو هذا قوله تعالى (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ) المائدة/آية6 فلا يمكن أن تغسل اليد إلى المرفق إلا بدخول جزء من المرفق في الغسل ولو كان يسيراً.
-
ثم يبين الله سبحـانه حكماً آخر وهو استثناء المباشرة في ليل الصوم للمعتكف، فبعد أن ذكر الله إباحة مباشرة النساء في ليل الصيام بيّن أن هذا لا يشمل المعتكف فيحرم عليه الجماع ما دام معتكفاً إلى أن يقضي اعتكافه. وقد كان بعض المسلمين وهم معتكفون في المسجد يخرجون إلى بيوتهم فيباشر الواحد منهم امرأته ثم يغتسل ويرجع إلى المسجد لإكمال اعتكافه، فنزلت الآية تحرم عليهم ذلك ما دام لم يقضِ مدة اعتكافه.
(وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ) أي وأنتم معتكفون فيها، والاعتكاف في اللغة الاحتباس ولزوم المكان، وهي في الشرع لزوم المسجد لأعمال مخصوصة.
وتقييد الاعتكاف في المسجد كما في الآية يدل على أن الاعتكاف لا يكون إلا في المسجد، لكن هذا الشرط في الاعتكاف لا يشمل النساء فالخطاب للرجال، ولا يشمل النساء بالتغليب لأن القرينة خصته بالرجال وهي (وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ) وهذا يعني أن (وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ) خطاب للرجال على الحقيقة لا يشمل النساء، وعليه لا يشترط المسجد لاعتكاف المرأة بل تعتكف في بيتها.
وقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يعتكف العشر الأواخر من شهر رمضان حتى توفاه الله -عز وجل- ثم اعتكف أزواجه من بعده، فالاعتكاف في شهر رمضان من السنة فيه أجر عظيم.
-
ثم يختم الله سبحانه الآية ببيان أن أحكام الصيام التي ذكرت هي حدود الله، أي كأنها حواجز بين الحق والباطل فمن تجاوزها دخل في دائرة الباطل.