الاقتصاد بين الرأسمالية والإسلام:
نذر الإفلاس وبشائر الصعود
يوسف أبو محمد
بعد وقوع الأزمة المالية الأخيرة، قال بعضهم إنها أزمة الرأسمالية، وبعضهم قال إنها أزمة النموذج الأميركي والنسخة الأميركية من الرأسمالية، وقالوا أيضاً إنها أزمة النظام المالي الذي يسير فيه الجشعون بلا حسيب ولا رقيب، وقالوا غير ذلك، والحق أنه مهما قالوا فإن الثابت أن الإدانة إنما هي للمبدأ الرأسمالي برمته، وأن كل ما يقال من أن الأزمة هي أزمة نظام مالي وأزمة ائتمان وأزمة للاقتصاد الأميركي إنما هو تأكيد وتفصيل، ولا يلغي القول بأن الذي يتحطم هو أركان مبدأ الرأسمالية، فالنموذج الأميركي هو نموذج ينتمي لتلك الحضارة، والحديث عن النموذج الأميركي لم يعد منطقياً خاصة وأن الاقتصادات الأوروبية والرأسمالية كلها أخذت تتصدع على التوالي، بل على التوازي، رغم بعض الفوارق سابقاً بينها في أسلوب تطبيق الرأسمالية. والسوق الحرة والنظام المالي والائتمانات والتعاملات البنكية التي وصفوها بالمنفلتة ما هي إلا تطبيق للرأسمالية بلا قيود أي كما هي، فالأنماط والأماكن والأسواق التي ضربتها الكارثة تنتمي للرأسمالية قلباً وقالباً وليست دخيلة عليها، بل إن الذي وقع إنما وقع والرأسمالية في أوج تطبيقها، وتفردها، وغياب أي نظام ينافسها عالمياً.
إذن فالصرح الغربي ينهار، وتلك الحضارة أفلست مع إفلاس البنوك والشركات، وأفلست مع إعلان GM إفلاسها، إذ إنها قد استهلكت نماذجها ولم تعد تستطيع تقديم المزيد، وهذه الحقيقة ليست آتية من باب التمني لزوال باطل الرأسمالية وإن وجد، ولا من باب التخمينات، بل إن نذر الإفلاس في هذا النظام باتت واضحة بشكل يصعب سترها بهياكله الكرتونية.
أساس عقائدي وفلسفي باطل:
إن المدقق في الأساس النظري الذي قام عليه النظام الاقتصادي الرأسمالي يجد فيه ملامح الخطورة على البشر بشكل عام من ناحيتين:
أ- طراز الفرد في الحضارة الرأسمالية: إن الحضارة التي فصلت الدين عن الحياة، كان من الطبيعي فيها أن يكون الفرد هو الذي يضع المصالح والقيم، وكذلك كان من الطبيعي أن تكون هذه قيماً مادية فقط ما دام الدين غائباً، وفوق ذلك فان حضارته قد غطته بغطاء واسع من الحرية ليتمكن من ممارسة قراره في هذه المصالح وفي السعي لها، ومن هنا كان لنا أن نستنتج كيف ستكون صورة النشاط الاقتصادي في تلك المجتمعات من حيث إنها انعكاس لفرد أناني مطلق اليدين لا يرى غير المادة هدفاً.
ب- الفلسفة الاقتصادية الرأسمالية: رأت هذه الفلسفة أن المشكلة الاقتصادية إنما هي مشكلة ندرة وسائل الإشباع بالنسبة للحاجات، وبالتالي هي مشكلة إنتاج وزيادة إنتاج، وهو ما يجب التركيز عليه، فكانت مؤشراتهم للاقتصاد هي مؤشرات الإنتاج كمعدل النمو والناتج القومي والناتج المحلي وغيرها هي المؤشرات الأساسية، والذي حصل عندهم أنه بدل أن يكون البحث في الإنسان وحاجاته ووسائل إشباعها وأن يكون بحث الإنتاج تبعاً لذلك، بدل ذلك ضاع الإنسان وحاجاته في ثنايا بحث الإنتاج، وتحول الأمر إلى بحث في الإنتاج غرضه تعظيم الأرباح لا إشباع الحاجات، ثم ما لبث الأمر أن تحول إلى بحث في الأرباح بمعزل عن الإنتاج، ولذلك صرنا نرى أسواق المال وما يعرف بالاقتصاد الوهمي وصارت النقود تلد النقود.
ومن هنا نرى أن قيمه الربح علت على كل قيمة وصار الربح هو الهدف الأسمى، وصارت هذه الأرباح تساهم في زيادة رأس المال وتعظيمه، حتى أصبح عملاقاً زاد من ضخامته آليات جديدة من آليات تراكم رأس المال مثل البنوك وشركات المساهمة، فكف رأس المال هذا عن أن يكون وسيلة مسخرة للإنسان وانقلب إلى أن يصبح الإنسان مسخراً له ولتعظيمه .
وعليه فإننا إذا زاوجنا بين الفرد الرأسمالي الذي سبق ذكره وبين فلسفة النظرة الاقتصادية سنبدأ برؤية ملامح الخطر، لأن الجشع والنهم الذي لا حدود له جعل الشعوب وأفراد الشعوب وثروات الشعوب هدفاً له ولزيادة أرباحه، ولهذا انطلقت الرأسمالية بالاستعمار وبمص الدماء ولم تتوقف، مدفوعة بقيم لا يكون فيها الإنسان سوى منتج أو مستهلك أو عامل، وتكون النتيجة أن تجوع شعوب ليشبع أفراد، وتشقى الكثرة ليزيد ربح غني واحد وتكثر ثروته.
الأزمات الاقتصادية والرأسمالية توأمان لا ينفصلان:
إن الأزمات الاقتصادية ما برحت الرأسمالية يوماً، فهي ليست أمراً عابراً فيها، وذلك أن مشاكل العجز بأنواعه والتضخم والبطالة والمديونية والفقر والركود وتآكل الأجور وغيرها… كانت ولا زالت جزءاً لا يتجزأ من الخطاب الاقتصادي في كل بلدان العالم المطبقة للرأسمالية على اختلاف النسب والتفاصيل لا فرق فيها بين دولة متقدمة أو متخلفة.
وإن الأزمة المالية الأخيرة والتي كانت بمثابة الزلزال وارتدادات الزلزال، ليست حالة فريدة في ظل هذا النظام الرأسمالي وإن تميزت بضخامة حجمها، فقد سبقتها الأزمات الكبرى التي وصمت هذا النظام، من أزمة الكساد الكبير عام 1929م عندما انهار سوق الأسهم الأميركية مسبباً الكساد والركود الذي عم العالم، إلى أزمة انهيار وول ستريت عام 1987م عندما خسر مؤشر داو جونز 22.6 % ومنه إلى الأسواق المالية العالمية، وأزمة عام 1997م عندما حصل هبوط حاد في أسعار الأسهم في الأسواق المالية الكبرى، بدأ في هونغ كونغ فاليابان فأوروبا ثم أميركا، وقيل حينها إن بورصة هونغ كونغ خسرت في يوم واحد ما يقارب تريليون دولار.
وقبيلها كانت أزمة النمور الآسيوية، وأزمة 2002م حيث تراجعت أسواق المال العالمية بعد التزوير في حسابات شركة إنرون، ثم أزمة الرهن العقاري وانخفاض الدولار وارتفاع الأسعار، وأزمة الغذاء، وما لم يذكر أكثر، إذ إنه على هامش الأزمات الكبرى توجد مئات الأزمات التي طالت الدول، كل بعينها، حتى جعلت التخلف لمعظم بلاد العالم كأنه تقسيم طبيعي، فبات لكل شعب ولكل سوق يوم أسود بل أيام سود تذكر فيه الخسائر الفادحة، وحتى صار بؤس العيش هو الأزمة التي تنام معها معظم الشعوب وتصحو، تلك الأزمات التي رافقتها وصفات البنك والصندوق الدوليين. والسبب في ذلك كله أن جزئيات الأزمة ومفرداتها موجودة في النظام الرأسمالي، واللافت أن الأسس نفسها التي يقوم عليها النشاط الربحي الرأسمالي هي ذاتها أسس الأزمات فيه، ولذلك يصعب إيجاد أي تحليل لكوارث هذا النظام الاقتصادية لا يتكلم مثلاً عن انعدام الرقابة على أسواق المال، أو أنشطة البنوك الاستثمارية، أو ارتفاع أسعار الفائدة، أو الأسهم والسندات ومضارباتها وسوقها الوهمي وغير ذلك، أو حرية السوق المفرطة… مع أننا إذا أمعنا النظر فإننا نرى أننا نتكلم عن أساسيات النظام الرأسمالي.
أزمة الإنسان مع الرأسمالية (الرأسمالية تستهلك العالم):
إن رأس المال الغربي قد صار من الضخامة بحيث أصبح عبئاً؛ لأن معدل الأرباح صار يقل كلما زاد استثمار رأس مال جديد في الاقتصاد الحقيقي في الدول الكبرى الرأسمالية، ومن هنا فإن ضخامته صارت ثقلاً، فكان الابتكار في نقله من سوق الاستثمار في الاقتصاد الحقيقي إلى سوق المال، ومن نقله محلياً إلى إطلاقه لجني الأرباح عالمياً فيما عرف بالعولمة، ولم تكن الخصخصة إلا استجابة من الاقتصادات التابعة في الدول الضعيفة لمتطلبات حركة رأس المال، وبالتالي كانت الخصخصة تعني إيجاد أسواق مفتوحة يمكن أن يتحرك فيها رأس المال، ولو أن ذلك يعني خصخصة القطاعات الضرورية للناس، ومع ذلك فان هذه العولمة قد شكلت للرأسمالية مقتلاً وذلك بإعطاء الأزمات إمكانية الانتشار السريع مثلما أعطتها إمكانية التوسع لجني الأرباح، وهو الأمر الذي جعل من أي رجة أو هزة قادرة على إصابة النظام برمته بالصرع. فالعولمة هي استمرار نهج الجشع مع اختلاف أفراد السوق من سوق محلي إلى عالمي، ومن كونهم أفراد إلى أفراد ودول.
ومن هنا كانت أزمة العالم والإنسان مع الرأسمالية، إذ على مدى فترات طويلة من هذا النظام أفلست دول وجاعت شعوب وافتقرت، ونهبت موارد ونضبت أخرى، وغرقت بلاد بالديون للدول الكبرى وبنوكها ومؤسساتها الدولية، وانهارت أسواق المال وارتفعت أسعار الغذاء وانهارت العملات وفقدت بلاد احتياطياتها، هذا هو واقع الحال منذ أن أصبح العالم يعيش في ظل الرأسمالية، أليست الأزمة الكبرى إذن هي أزمة الإنسان مع الرأسمالية وأصحابها أولاً وقبل كل شيء؟ ولماذا لا يفطن للأزمات بل لا يقال لها أزمات إلا عندما تصبح في عقر دار الغرب؟ وإلا عندما تتعلق برأس المال وكبار الأثرياء؟؟ وكأن الإنسان لا وجود له فيما سواهم.
الرأسمالية تفتك بأهلها:
ومن مؤشرات إفلاس هذا النظام وإفلاس حضارته أنه أصاب بضرره كل من طبق عليه وكذلك البلاد التي اعتنقته، وبعد أن كانت أزماته تصدر ليعاني منها العالم بالوكالة عن الدول الرأسمالية فقد جاء الوقت الذي يكتوي فيه أصحاب هذا النظام بناره التي اشتعلت في عقر دارهم. وإن نظرة سريعة إلى أرقام الفقر ومستويات البطالة وانخفاض الدخول وتراجع الاستهلاك تري ماذا فعلت حرية السوق والنظام الحر للبشر عبر سنوات من التحكم، فقد أظهرت دراسة جديدة للبنك الدولي سقوط مزيد من سكان الدول النامية في براثن الفقر من جراء الأزمة المالية العالمية. وتقول الدارسة إن تقديرات جديدة جمعها البنك الدولي لعام 2009م تظهر أن ضعف نمو الاقتصاد سيزيد عدد الأشخاص تحت خط الفقر المحدد عند مستوى 1.25 دولار في اليوم 46 مليوناً عما كان متوقعاً قبل تفجر الأزمة في 2007م. وهذا عدا 53 مليوناً سيظلون يعيشون على أقل من دولارين في اليوم. وأضافت الدراسة أن الأرقام السابقة لا تشمل ما بين 130 مليون شخص و155 مليوناً سقطوا في براثن الفقر في 2008م بسبب ارتفاع أسعار الغذاء والوقود (نقلاً عن رويتر).
ويقول رئيس البنك الدولي روبرت زوليك في بيان “في حين أن معظم العالم يركز على عمليات إنقاذ البنوك وبرامج التحفيز، لكن ينبغي ألا ننسى أن الفقراء في الدول النامية أكثر عرضة للخطر إذا انهارت اقتصاداتهم” وواقع الفقر هذا لم يطل البلدان التي يسمونها نامية فقط ، بل طال حتى الأفراد في الدول الأوروبية وأميركا، إذ بلغت طلبات الإعانة الحكومية في أميركا أكثر من 12 مليون طلب، أما أرقام البطالة فصارت بالملايين هي الأخرى، وعلى سبيل المثال فقد تم في أميركا تسريح أكثر من 6 ملايين عامل منذ نهاية عام 2008م وحتى الآن، ووصل معدل البطالة أكثر من 9.4% ولازال تسريح العمال بمئات الآلاف كل شهر جارياً، طبعا كل ذلك عدا عن إغلاق الكثير من المصانع الكبرى وأفرعها وتوقيف خطوط الإنتاج وتسريح الملايين من العمال في أوروبا وأميركا، وإفلاس شركات كبرى إذ أفلس حوالى 37 بنكاً في أميركا منذ بداية 2009م فقط، ويكفي إعلان إفلاس شركه جنرال موتورز تلك الشركة التي كانت رمزاً لقوة الاقتصاد الأميركي لنرى إفلاس وسقوط كل ما فاخرت به الرأسمالية. ثم إن الدول والحكومات لم تكن أمثل حظاً من الأفراد، إذ إن خطط الإنقاذ العملاقة أو بمسماها الحقيقي خطط الترقيع الهائلة لعورات نظام لا يمكن ستره قد أنهكت هذه الدول وأعيتها، وليس الأمر بحاجة لكثير من التفصيل إذ إن أميركا على سبيل المثال فاق دينها العام 13 تريليون دولار، وحسب توقعات بن برنانكي فإن الدين العام سيرتفع ليشكل حوالى 70% من الناتج المحلي الكلي عام 2011م، وهو الأمر الذي له تبعاته في إمكانية الدولة لاحقاً في تنفيذ سياساتها المالية وإنفاقها العام.
وشهد شاهد من أهلها
إذا كانت المحاكمة الفكرية للمبدأ الرأسمالي تري بطلان الأساس الذي قام عليه وكذلك التفاصيل، وإذا كان الواقع ينطق بفساد معالجاته وبؤس البشر في ظلها، فكيف إذن إذا كان ما سبق مشفوعاً بشهادات أصحاب هذا المبدأ فيه، وخاصة المدافعين عنه ورموزه، ولا نقول الفرد البسيط المتضرر أو المفكرين أصحاب الآراء الحرة، فهذا ساركوزي مثلا يصف الرأسمالية القائمة على المضاربة المالية بأنها «نظام غير أخلاقي» تسبب في «انحراف منطق الرأسمالية»، ويقول بأن «الرأسمالية لا بد أن تبحث عن قيم أخلاقية جديدة». أما بلير فقد دعا إلى نظام مالي جديد «يستند إلى القيم وليس الرغبة في تحقيق أعظم ربح ممكن في أقصر وقت». ثم هذا هو بوش يقول «لقد تخليت عن مبادئ اقتصاد السوق لإنقاذ نظام اقتصاد السوق». وحين سئل روبرت زوليك رئيس البنك الدولي عما إذا كانت الدول النامية ستواصل الإيمان بالسوق الحرة بعد هذه الفوضى، أجاب: «إن الناس نتيجة هذه الأحداث الصادمة قد صارت مشوشة، ليس فقط في البلدان النامية، بل وفي المتقدمة أيضاً» [واشنطن بوست 10 أكتوبر 2008م]. ويكفي اعترافات آلان غرينسبان الرئيس السابق لهيئة الاحتياط الفيدرالي الأميركية، الذي أقرّ بأنه أخطأ عندما وضع ثقته في أن الأسواق الحرة من الممكن أن تنظم نفسها دون أن تخضع للإشراف الحكومي، مع العلم أنه ظل يقاوم هذا التدخل على مدار ثمانية عشر عاماً قبل أن يغادر منصبه عام 2006م. بل إن الأمر لم يقتصر على وصف النظام برمته بل تعداه للكلام عن تفاصيل، يقول الكاتب الألماني جوهان فيليب مزايهرفون خبير البنوك ومدير بنك في فرانكفورت في كتابه-كارثة الفائدة -: «ومع استمرار وجود الفائدة تزداد المديونية وعدد العاجزين عن السداد، و نصل إلى ما يمكن أن نطلق عليه stagflation وهي الحالة التي نعيشها الآن كالشخص المشوه، وتنخفض الفائدة ببطء للأسف، ولكن تزداد حالات الإفلاس. كل حالة من حالات الإفلاس تعني تدمير مزيد من النقود وبالتالي تحقيق الاستقرار المنذر. وتتأجل الكارثة بسبب… الإفلاسات المتكررة… حتى نصل إلى كارثة اقتصادية سببها الفائدة المرتفعة لفترة طويلة، فكارثة الفائدة للكثيرين تؤدي إلى كارثة اقتصادية للجميع… لقد أصبح حالياً تفادي الكارثة غير ممكن… وستأتي نتيجة السياسة الاقتصادية الخاطئة التي تعتمد على نظام الفوائد، وهذه السياسة هي المسؤولة عن الكارثة).
استفراغ النماذج واستهلاك الرأسمالية لِنُسَخِهَا:
ليبرالية كانت أو كينزية أو ليبرالية جديدة، فقد استفرغت الرأسمالية نماذجها، ومع كل أزمة تضطر أن تغير مدرسة اقتصادية ونموذجاً جديداً، إلا أن الأزمات فيها تتواصل و تتعمق والفوارق تزداد، والشرر أصبح يطال الأغنياء والفقراء، ولم يعد يجدي نفعاً تغيير النماذج؛ وذلك ببساطة لأن المشكلة ليست أيّ النسخ هي التي تطبق من الرأسمالية، بل المشكلة هي الرأسمالية نفسها، وأي نموذج منها فانه سيبقى يتعامل مع الأزمة بالطريقة نفسها، إنها بالنسبة لهم أزمة رأس المال ومعه أصحابه وليست أزمة الإنسان، والدليل على ذلك واضح وهو أن الرأسمالية سواء كان نموذجها قديماً أو حديثاً فإنها تخدم رأس المال والأغنياء، وتجعل الغالبية وهم بقية الشعب والفقراء ممن لا يملكون رؤوس الأموال على هامش هؤلاء، لأن العمال والعمالة هم ملحق لعملية إنتاج المصانع والشركات واستثمارات الأموال، فهم شيء تابع لعمليات جني الأرباح من الإنتاج من قبل الأغنياء، وعندما يتحول السوق إلى أنشطة مالية بحتة في سوق المال فإن هؤلاء يخرجون من الصورة؛ لأننا لم نعد نتكلم عن الإنتاج والتشغيل والاستهلاك وإنما عن الأرباح فقط، وحتى عندما تحدث الهزات والنكبات ويأتي دور الدولة للتدخل فان الحديث عن أنه تدخل لتقليل البطالة وتحسين أوضاع الفقراء كذب صريح وتضليل واضح، إذ لم تتدخل أميركا مثلاً عندما حصلت أزمة المساكن وأصبحت العائلات تنام في السيارات والشوارع، ولكنها تدخلت بمئات المليارات لإنقاذ البنوك وصناعة السيارات بحجة البطالة وتقليلها، أو حتى بدون تلك الحجة، بل إنهم يتكلمون بصراحة عن أن عنايتهم بالمال ليصل ليد الفرد العادي إنما هو من أجل إعادة القدرة على الاستهلاك، وبالتالي إعادة تحريك عجلة الإنتاج وإعادة التشغيل ورفع نسبه النمو.
ما بين إفلاس الرأسمالية وسقوطها (الإسلام يتقدم)
إن للرأسمالية قدرة على المناورة والبقاء ولو لفترة وفق آليات ومعالجات داخلية خاصة ومتبدلة، والاستفادة من التطور العلمي المستمر والخارق، ونتيجة للإمكانات الهائلة التي يوفرها النهب والاستغلال الداخلي والخارجي للشعوب والأمم والبلدان الأخرى، وبسبب قذارة ووحشية الأساليب المستخدمة في الصراع والبقاء، ولذلك كله، فإننا عندما نتكلم عن إفلاسها كحضارة فإننا لسنا بالضرورة نتكلم عن سقوط فوري، لا شك أنها تترنح ولكن دولها لازالت قائمة وكذلك وهيكلها العام وإن أصبح خاوياً، وسقوطها مع سقوط كياناتها سقوطاً مادياً محسوساً قد يعتمد على أمور أخرى إضافة لإفلاس النظام ذاته، وإن كان هو من أهمها، غير أن ذلك لا يعني أن العالم لم يضق بها ذرعاً. إن الفقر والبطالة والجشع ومص الدماء قد أصبحت موضع سخط الشعوب، وكلمة الرأسمالية أصبحت رديف كل شر، هذه الحالة ليست الشعوب الغربية بمعزل عنها ولم يكن بمعزل عنها مظاهرات الملايين في شوارع فرنسا، وإذا كانت شعوب العالم قد ضاقت بالرأسمالية ذرعاً، فإن الأمة الإسلامية خصوصاً تضيف الآن إلى ذلك سعيها لإسقاط هذا النظام وإيجاد الإسلام مكانه، وقد باتت على وشك تحقيق ذلك بإذن الله، وإن الإفلاس الحضاري للرأسمالية ونقمة الشعوب عليها يقابلها الآن صعود الإسلام، إذ إنه مع كثرة الانتقادات التي وجهت للرأسمالية وخاصة في الأزمة المالية العالمية الأخيرة فقد صاحب ذلك ذكر الإسلام وتذكير بمبدئه ونظامه الاقتصادي، ولم يقتصر الأمر على طغيان ساحق لهذه الفكرة بين المسلمين في البلاد الإسلامية، وإنما تجاوز الأمر ذلك ليكون هذا الطرح من قبل مفكري الغرب أنفسهم واقتصادييه، سواء أكانت الدعوات لتناول أحكام الإسلام عموماً ومراجعة أنظمته الاقتصادية، أم كانت لتناول بعض أحكامه، أو حتى المشابهة لبعض المؤسسات المصرفية التي تطرح على أنها مؤسسات إسلامية مع ما في هذا النموذج من نقص. فمثلاً رئيس تحرير مجلة تشالينجر يوفيس فانسون كتب في افتتاحية المجلة من عدد أوكتوبر الماضي مقالاً بعنوان” البابا أم القرآن” أثار موجة عارمة من الجدل في الأوساط الاقتصادية تساءل فيه عن “أخلاقية الرأسمالية؟” ودور المسيحية كديانة والكنيسة الكاثوليكية بالذات في تكريس هذا الاتجاه والتساهل في تبرير الفائدة، مشيراً إلى أن هذا النسل الاقتصادي السيئ أودى بالبشرية إلى الهاوية”. وتساءل الكاتب عن موقف الكنيسة مستسمحاً البابا قائلاً: “أظن أننا بحاجة أكثر في هذه الأزمة إلى قراءة القرآن بدلاً من الإنجيل لفهم ما يحدث بنا وبمصارفنا؛ لأنه لو حاول القائمون على مصارفنا احترام ما ورد في القرآن من تعاليم وأحكام وطبقوها ما حل بنا ما حل من كوارث وأزمات، وما وصل بنا الحال إلى هذا الوضع المزري؛ لأن النقود لا تلد النقود”. وفي الإطار ذاته ولكن بوضوح وجرأة أكثر طالب رئيس تحرير صحيفة (لوجورنال دي فاينانس) رولان لاسكين في مقال له بعنوان “هل تأهلت وول ستريت لاعتناق الشريعة الإسلامية” طالب بضرورة “تطبيق الشريعة الإسلامية في المجال المالي والاقتصادي لوضع حد لهذه الأزمة التي تهز أسواق العالم من جراء التلاعب بقواعد التعامل والإفراط في المضاربات الوهمي غير المشروعة”. ومثل هؤلاء كثير لا يتسع المقام لذكرهم ولم تكن صحيفة Observatory Romano آخرهم ولكن قد تكون أكثرهم لفتاً للنظر في مقال بعنوان “مقترحات وأفكار من النظام المالي الإسلامي إلى الغرب المتأزم» أشارت فيه إلى حرمة الربا في الإسلام، ونوهت إلى أنه لا يمكن استخدام المال بحد ذاته كسلعة تدر أموالا أخرى، على حد تعبيرها.
الاقتصاد الإسلامي جزء من مشروع الأمة
في غمرة الأزمة المالية والجدل الهائل الذي دار حولها على مستوى العالم، وبروز الإسلام في كثير من تلك السجالات على أنه البديل، كان يطرح غالباً سؤال هو: أين النظام الاقتصادي في الإسلام؟ وكيف يمكن تناوله كوصفة للعلاج؟ وهل طرحه هو مسألة نظرية فقط؟ وهنا فإن ما لا بد من ذكره هو أن النظام الاقتصادي في الإسلام تجاوز بكثير مسألة أن يكون طرحاً فكرياً مجرداً، بل إنه بات مع أنظمة الإسلام الأخرى مشروعاً لنهضة الأمة يعمل عليه المخلصون من أبنائها ليل نهار، تلك الأمة التي صارت تنتظر اللحظة التي يطبق فيها الشرع ويعاد الحكم بأنظمة الإسلام جميعها بفارغ الصبر، ومن هنا فإن تباشير أن يحل الإسلام مشكلة العالم الاقتصادية باتت قريبة بإذن الله، لأن تطبيقه ليس برنامجاً حكومياً لحكومة من الحكومات تسن منه بعض القوانين، ولا هو مجموعة لوائح تتبناها مؤسسة اقتصادية، ولا بعض أحكام تنضبط بها شركة هنا أو بنك هناك، وإنما هو كما سبق ذكره مشروع لأمة تتعبد ربها من خلال تطبيقه، وتعمل من خلاله على تحرير نفسها والانعتاق من سيطرة الرأسمالية عليها.
الإسلام هو الذي يليق بقيادة البشر
الإسلام والإسلام وحده هو الذي يليق بحكم الناس ، ذلك أنه من عند الله خالق البشر والعالم بما يصلح لهم دنياهم وآخرتهم:
-
فالإسلام لم ينظر للمشكلة الاقتصادية إلا على أنها مشكلة إنسانية، فنظر للإنسان بإنسانيته وفرديته، فكان هو موضوع معالجاته ومحور البحث فيه، ولم يجعل الإنتاج ولا الأرباح ولا الأموال ورؤوس الأموال إلا تبعاً للإنسان وحاجاته وليس العكس، أي لم يكن الإنسان فيه ضائعاً في ثنايا المال.
-
والإسلام كذلك أعد إنساناً فريداً وفرداً مميزاً ليس لديه اضطراب في القيم، يأخذ من الدنيا التي سخرها الله له حلالاً بأبعد ما يكون عن الجشع والأنانية، فيحقق قيمة مادية في السعي ويحرص على تحقيق القيمة الروحية بالعطاء والإنفاق.
-
وهو كذلك أعد مجتمعاً مميزاً ينظر الكل فيه للآخر نظرة الأخ للأخ، وهو مجتمع تمت صياغته على أساس أن المسؤولية عن الغير من أهم السجايا، فليس فيه فرد مكشوف الغطاء ينهش منه الفقر والعوز.
-
ثم إنه وزع الثروة بنظام فريد، فضمن الحاجات وإشباعها بنظام فريد لا يسع المدقق فيه إلا أن يقول: سبحان الله، إنه حقاً نظام من عند الله، ورتب الملكيات كذلك بشكل لا يبقى معه شقي ولا محروم إن وجد، ورعى شؤون الغني والفقير، وكانت الدولة فيه مظلة واسعة للناس والرعية عيالها.
-
ثم جاءت أحكام الإسلام بشكل يقي وقوع الهزات، فلا توجد أزمات اقتصادية يسببها النظام أو أي شيء فيه، فلا وجود فيه لأزمات كالتي يشهدها العالم اليوم، و قد وضع للنقد نظاماً جعل أساسه مالاً حقيقياً هو الذهب والفضة، ونظم الملكيات وضبط أحكام الشركات، وأحكام التجارة الخارجية، وحرم استثمار المال بطرق غير مشروعة تلك التي شكلت أساساً لأزمات عصرنا الآن كالربا والاحتكار والشركات الباطلة وأسهمها…
-
وبعد ذلك كانت نظرته لبقية العالم على أنه مكان لحمل الإسلام ودعوة الخير، فمن دخل في الإسلام من الشعوب قاسم المسلمين في خيري الدنيا والآخرة، فلم يجعل الاعتبار الأول للميزان التجاري سواء حقق عجزاً أم فائضاً، ولم يقم علاقته على نهب الشعوب ومص دمائها.