نظام الخلافة الإسلامية هل فيه ثغرات؟
1994/09/20م
المقالات, كلمات الأعداد
3,050 زيارة
في عدد «الوعي» السابق (رقم 88) نُشر مقال مأخوذ من جريدة «زمان» التركية بقلم علي بولاش. تحت عنوان: (الثغرات القانونية في نظام الخلافة)، وكان قد كتبه بمناسبة انعقاد «مؤتمر الخلافة» في لندن 07/08/94، وكانت الصحف التركية اهتمت بشكل كبير بهذا المؤتمر ونظرت إليه بكل جدية. وقد لخّص بولاش رأيه في نظام الخلافة بقوله: (إن تطبيقه الآن يوجد لنا بعض المشاكل أُلخصها في النقاط الثماني التالية: 1- لا يوجد نظام محدد لانتخاب الخليفة. 2- الخليفة يحكم مدى الحياة، ومع ذلك لا توجد ضوابط لصلاحياته ونفوذه. 3- اختيار الخليفة يتم من أهل العاصمة ومن نخبة قليلة منهم. 4- لا توجد ضوابط تضبط عمل مؤسسات الدولة. 5- في الوقت الذي لا يحق فيه للخليفة أن يظلم أو يأكل الحقوق، وإذا فعل ذلك يفقد شرعية بقائه في السلطة، إلا أنه لا يوجد في نظام الخلافة طريقة عملية لعزله. 6- يوجد في الأحكام العامة التي جاء بها الإسلام حق المعارضة وحرية إبداء الرأي، ولكن نظام الخلافة لا يبيّن ضوابط لحماية هذا الحق وهذه الحرية. 7- في نظام الخلافة لا توجد ضوابط لتغيير السلطة السياسية عبر انتخابات حرة، ما يؤدي إلى مأساة سياسية في بعض الأحيان، كما حصل في استشهاد سيدنا عثمان رضي الله عنه. 8- الحديث الذي يشترط أن يكون الخليفة من قريش يفتح باب الخلافات القومية).
ونحن سنلخّص رأينا في هذا الموضوع سائلين الله السداد والتوفيق في القول والعمل لنا ولسائر المسلمين من أجل إعادة نظام الخلافة إلى التطبيق، ليعز الإسلام وأهله، ويذل الكفر وأهله، ويكون رحمة للعالمين.
1- إن البحث في هذا الموضوع هذه الأيام لم يعد بحثاً أكاديمياً، أو بحثاً فكرياً مجرداً، لقد أصبح بحثاً سياسياً حيّاً، وعملاً نضالياً يملأ الساحة الإسلامية فيبعث الأمل في نفوس المسلمين والرّعبَ في نفوس الكافرين.
2- إن الكتاب (على بولاش) استمد القسم الأكبر من تصوراته لنظام الخلافة ليس من القرآن والسنّة بل من ممارسات بعض الخلفاء، علماً أن فهم نظام ما لا يأتي من ممارسات من يطبقه بل يأتي من دراسة المصدر الذي يحوي هذا النظام. إن الذي يمارس التطبيق قد يسيء الفهم وقد يسيء العمل، وعند ئذٍ نحمّل التَّبعَة لمن أساء وليس للنظام نفسه. وهذه الإساءات تحصل في أي نظام مهما كان فيه من الضوابط إذا كان الذي يمارس التطبيق سيئاً. ولينظر السيد بولاش حوله في تركيا ولينتقل في نظرته إلى إيطاليا وسائر البلاد الأوروبية، وإلى أميركا الجنوبية والشمالية، حيث يُقال بأن الديمقراطيات الغربية بلغت شأواً كبيراً من التقدم والضوابط في النظام.
3- قبل أن نوضح النقاط التي أثارها الكتاب نود أن نلفت النظر إلى أن النظام الإسلامي يمتلك ميزات لا يمتلكها أيُّ نظام في العالم. من هذه الميزات:
أ- هو نظام من رب العالمين الذين خلق الإنسان ويعمل ما يصلحه وما يفسده (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ). (ألاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ). وهو النظام الذي قال عنه الله سبحانه: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الْإِسْلَامَ دِينًا). وإذا حصل من المجتهدين خطأ في فهم بعض الأحكام من هذا النظام فإنما يحصل في الفروع التي تبقى في إطار الأصول التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها.
ب- تنفيذ النظام الإسلامي يعتمد في الدرجة الأولى على «تقوى الله» عند الفرد المسلم. فالمسلم يؤمن أن هذا النظام هو أوامر ونواهٍ إلهية طاعتها هي طاعة الله ومخالفتها هي مخالفة لله. والمسلم يؤمن أن طاعة الخليفة (وجميع أولي الأمر الذين يحكمون بما أنزل الله) فرض لقوله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ). فالمسلم الورع ليس بحاجة إلى أن تضع عليه رقيباً من أجل الالتزام بالنظام، بل يكفي لأن يرى أن النظام هو شرع الله وأن يرى أن الحاكم (الخليفة أو من ينوب عنه) ملتزم بطاعة الله. قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه حين بويع بالخلافة «أطيعوني ما أطعتُ الله فيكم فإذا عصيته فلا طاعة لي عليكم».
ج- ويعتمد تنفيذ النظام الإسلامي في الدرجة الثانية على «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» وهذه القاعدة من صلب الدين، وردت في عدد كبير من الآيات والأحاديث. وهذا الأمر والنهي هو فرض على المسلمين من فروض الكفاية، أي هو واجب ليس على الحاكم وحده بل هو واجب على كل مسلم يرى المنكر حتى تتم إزالة هذا المنكر. ومن أصرح الأحاديث في ذلك قوله -صلى الله عليه وسلم-: «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان». فالأمة كلها تتعاون مع الخليفة في تطبيق النظام وتنفيذه، وهذا يوجد هيبة للرأي العالم بحيث لا يجرؤ العاصي على ارتكاب معصيته. وهذا التعاون من الأمة مع الحاكم هو عبادة يمارسها المسلم إرضاءً لله، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو من أسمى العبادات.
د- إذا لم يلتزم المرء النظام بدافع تقوى الله، وإذا لم تردعه هيبة الرأي العام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن الوقوع في المعاصي فهنا يأتي دور الحاكم، دور الشرطي الذي ينفذ عليه النظام بالقوة. وهذا الجانب موجود في الأنظمة غير الإسلامية، أي أن تنفيذ النظام في الأنظمة غير الإسلامية يعتمد على قوة الشرطي وصراحة القانون فقط ولا يعتمد على تقوى الله ولا يعتمد على قاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وحتى في هذا البند (قوة الشرطي وصرامة القانون) هناك فرق شاسع بين ما جاء في نظام الإسلام وما جاء في غيره. في الإسلام عدل القاضي بدل قوة الشرطي وعدالة القانون بدل صرامته لأنه قانون من عند الله.
الثغرة الأولى في نظام الخلافة، حسب رأي الكاتب بولاش، أنه لا يوجد فيه نظام محدد لانتخاب الخليفة. فلننظر في مصادر الشرع لنرى مدى صحة ذلك. مصادر الشرع الإسلامي هي القرآن والسنّة وما أرشدا إليه (أي إجماع الصحابة والقياس المبني على علة مأخوذة من النص).
في السنة جاء أنه لا بد للمسلمين من خليفة، وأنه واحد ولا يجوز أن يكون خليفتان في وقت واحد، وأنه يصبح خليفة عن طريق البيعة، وأن هذه البيعة تكون برضا المرشح للخلافة وباختيار المسلمين، وهذه البيعة تكون على التقيد بكتاب الله وسنة رسوله، وأن المقصود بالمسلمين الذين يختارون ويبايعون الخليفة هم كل المسلمين الذين تحت حكمه ذكوراً وإناثاً (يستثنى من ذلك الأطفال غير المميزين) أو من يمثلهم (أي أهل الحل والعقد).
ونذكر بعض الأحاديث النبوية في ذلك ففي صحيح مسلم أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال: «ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية» وهذا يوجب وجود خليفة بشكل دائم. وفي مسلم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبيَّ بعدي، وستكون خلفاء فتكثر، قالوا فما تأمرنا؟ قال: فوا ببيعة الأول فالأول» هذا الحديث ينص على أن الذي يسوس المسلمين هم خلفاء، وهم كثر، وهم واحد بعد واحد، وهم يأتون بالبيعة، وأن المسلمين مطلوب منهم الوفاء ببيعتهم للخلفاء، والمطالبة بالوفاء تفيد أن البيعة أعطيت بالاختيار وليس بالإجبار.وعبارة «فوا» تعم جميع المسلمين.
وفي صحيح مسلم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «إنْ أمِّر عليكم عبد مُجدّع يقودكم بكتاب الله فاسمعوا له وأطيعوا» أي أن البيعة تكون على الكتاب والسنة. وفي صحيح مسلم أيضاً أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «من بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر». وفي صحيح مسلم أيضاً: «إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما». فهذان الحديثان ينصان على أن الخليفة أو الإمام يأتي عن طريق البيعة، وأنه لا يجوز أن يكون في الوقت الواحد للمسلمين أكثر من خليفة واحد. وأن طاعة الخليفة واجبة قدر المستطاع. ويفيد الحديث الأول بوضوح أن البيعة بالاختيار وذلك من قوله: «من بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه» فثمرة القلب، أي صدق الولاء، لا تعطى بالإكراه.
وننتقل إلى الدليل الآخر، وهو إجماع الصحابة، فإن فيه تفصيلاً لكيفية انتخاب الخليفة. وإذا عرضنا بيعة أبي بكر رضي الله عنه، ثم بيعة عمر رضي الله عنه، ثم بيعة عثمان رضي الله عنه، ثم بيعة عليّ رضي الله عنه نجد قدراً مشتركاً في جميع هذه البيعات وهو ما نصت عليه الأحاديث. ونجد اختلافاً في الأساليب التي اتّبعت للوصول إلى تحقيق الغرض.
ففي بيعة أبي بكر رضي الله عنه في سقيفة بني ساعدة حصل نقاش وجدال حاد إذ أصر بعض الأنصار أن تكون الخلافة فيهم، وأصر أبو بكر وعمر وأبو عبيدة أن تكون في قريش، على أساس أن العرب لا تخضع إلا لقريش، وكانت نتيجة هذه المجادلة أن وافق الأنصار على بيعة أبي بكر وبايعوه، ثم بايعه سائر الناس في المسجد، فكانت بيعة السقيفة بيعة الانعقاد التي صار بموجبها أبو بكر خليفة، وبيعة المسجد هي بيعة طاعة وولاء.
ونلاحظ أن الاجتماع والنقاش في السقيفة كان ترشيحاً، كل جماعة تدلي بمرشحها، ثم حصل حصر المرشحين، ثم تم تنازل بعضهم لبعض، ثم حصلت البيعة من الموجودين. أهل المدينة كانوا أهل الحل والعقد بالنسبة للمسلمين، والذين حضروا السقيفة كانوا يمثلون أهل المدينة. وإذا كانت حصلت اختلافات على شخص الخليفة ولكنهم أجمعوا على وجوب نصب خليفة واحدٍ.
وفي بيعة عمر رضي الله عنه طلب المسلمون من أبي بكر، حين اشتد مرضه وأحس بدنوّ أجله، طلبوا منه أن يختار لهم خليفة، فرشح لهم عمر فقبلوا به، وبعد وفاة أبي بكر بايعوه.
ونلاحظ هنا أيضاً أن أهل المدينة (العاصمة) هم أهل الحل والعقد بالنسبة للمسلمين، أي ما يعقده هؤلاء يصبح معقوداً عن المسلمين وما يحلّونه يصبح محلولاً. وقد حصل ترشيح، وحُصِر الترشيح بمرشح واحد، ثم حصلت البيعة. الأسلوب اختلف عن أسلوب بيعة أبي بكر ولكن المضمون المطلوب شرعاً بقي هو هو.
وفي بيعة عثمان رضي الله عنه طلب المسلمون من عمر، حين طعن وكان مشرفاً على الموت، طلبوا منه أن يختار لهم خليفة، فلم يرشح واحداً فقط كما فعل أبو بكر بل رشح ستة، وقَبِلَ المسلمون (أهل المدينة) بهذا الترشيح، ثم قام المرشحون بحصرها بين اثنين: عثمان وعلي رضي الله عنهما. ثم قام عبد الرحمن بن عوف يسأل المسلمين، ووجد أن الغالبية تشترط على الخليفة أن لا ينقض السياسة التي سار عليها أبو بكر وعمر، ووجد أن كفّة عليّ أرجح في حال وافق كلاهما على خط أبي بكر وعمر، ولكن علياً لم يقبل الشرط وقبله عثمان، فبايع عبد الرحمن بن عوف عثمان وبايعه المسلمون وبايعه الإمام علي رضي الله عنهم أجمعين.
ونلاحظ أنه حصل ترشيح ثم حصل حصر للمرشحين ثم اختيار لأحد المرشحين وهو الذي نال الأكثرية من أهل الحل والعقد وهم الذين استطلع رأيهم عبد الرحمن بن عوف. وبايعه المسلمون.
وفي بيعة علي رضي الله، تم ترشيح علي وحده ولم يُرشح معه أحدٌ سواه. وقال لهم هو: (اختاروا غيري، فأنا لكم وزيراً خير لكم مني أميراً). ولكنهم أصروا عليه وبايعوه.
فهذه الطريقة التي مارسها الصحابة الكرام في بيعة الخلفاء الراشدين، والتي رغم اختلافهم على الشخص لم يختلفوا عليها، أي أجمعوا عليها، والتي وردت مواصفاتها في السنة الشريفة، هذه الطريقة هي طريقة محددة ومنضبطة، وهي مأخوذة من السنة ومن إجماع الصحابة، وليست مجرد عمل تاريخي عمله الصحابة لأنه كان يوافق ظروفهم. نعم الأساليب والوسائل اختاروا هم ما كان منها يوافق ظروفهم ونحن اليوم نختار ما يوافق ظروفنا.
اليوم لا نكتفي بأهل العاصمة أو بقسم من أهل العاصمة، ولا نكتفي بأهل الحل والعقد إلا إذا تأكدنا أن هذا يفي بالغرض. والغرض هو تمكين جميع المسلمين البالغين رجالاً ونساءً من ممارسة هذا الحق. أي أن كل مسلم تتوفر فيه الشروط الشرعية يحق له أن يرشح نفسه أو يرشح غيره لمنصب الخلافة، سواء كان في العاصمة أو الأقاليم. في السابق كان يتعذر على أهل الأقاليم ممارسة هذا الحق لأن وسائل الاتصال والانتقال لم تكن ميسورة، ولذلك كان من يهمهم أمر الخلافة يسكنون في العاصمة، وإذا لم يسكن العاصمة أو جوارها فهو متنازل طوعاً عن حقه في هذه المسألة، خاصة وأن الشرع حتّم مبايعة خليفة خلال ثلاثة أيام، ولا يجوز أن يبقى هذا المركز شاغراً أكثر من ثلاثة أيام. أما اليوم فإن وسائل الاتصال والانتقال تجعل من يقيم في الأقاليم كمن يقيم في العاصمة، فلا يجوز حرمان المسلمين من حقوقهم ما داموا يريدون ممارستها ويقدرون على هذه الممارسة.
وانتخاب الخليفة قد يكون من الأمة مباشرة، وقد يكون من ممثلي الأمة، أي مجلس الأمة الذي ينوب عنها في الشورى، وأعضاء مجلس الأمة هم أهل الحل والعقد. ولا مانع من استعمال صناديق الاقتراع السرية أو العلنية أو أية وسيلة قديمة أو حديثة ما دامت تحقق الطريقة الشرعية. وتتلخص هذه الطريقة بما يلي:
أ- بمجرد أن يصبح مركز الخلافة شاغراً يتم الترشيح لهذا المنصب.
ب- يقوم الأعضاء المسلمون في مجلس الأمة بحصر المرشحين بحيث يبعدون من لا تتوفر فيه الشروط الشرعية. وبحيث يجري تنازل بعض المرشحين لبعضهم الآخر من أجل تقليل عدد المرشحين.
ج- تعلن أسماء المرشحين للجهة التي ستنتخب، فإن كانت الأمة هي التي ستنتخب مباشرة تعلن الأسماء لها، وإن كان مجلس الأمة هو الذي سينتخب تعلن الأسماء له.
د- يجري الاقتراع وفرز الأصوات والمرشح الذي ينال أكثرية أصوات المقترعين هو الذي يستحق البيعة. ولا يصبح خليفة إلا بعد البيعة.
هـ- يُعلَن اسم من نال الأكثرية، ويدعى الناس لبيعته فيبايعونه،ويبايعه خاصةً الذين انتخبوا غيره لأنه خليفة لجميع المسلمين وليس الذين انتخبوه فقط. ويعلن اسمه الكامل لجميع المسلمين وأنه أصبح الخليفة وأنه يحوز جميع الشروط الشرعية.
5- يقول الكاتب (علي بولاش): لا توجد ضوابط لصلاحيات الخليفة ونفوذه. والواقع أن الشرع قد بين صلاحيات الخليفة ووضع الضوابط لها، ولكنها لا تتطابق مع صلاحيات رؤساء الدول في الديمقراطيات الغربية. في الشرع الإسلامي [الخليفة هو الدولة، ويملك جميع الصلاحيات التي تكون للدولة، فيملك الصلاحيات التالية:
أ- هو الذي يجعل الأحكام الشريعة حين يتبناها نافذة، فتصبح حينئذٍ قوانين تجب طاعتها، لا تجوز مخالفتها.
ب- هو المسؤول عن سياسة الدولة الداخلية والخارجية معاً، وهو الذي يتولى قيادة الجيش، وله حق إعلان الحرب، وعقد الصلح والهدنة وسائر المعاهدات.
ج- هو الذي له قبول السفراء الأجانب ورفضهم، وتعيين السفراء المسلمين وعزلهم.
د- هو الذي يعيّن ويعزل المعاونين والولاة، وهم جميعاً مسؤولون أمامه، كما أنهم مسؤولون أمام مجلس الأمة.
هـ- هو الذي يعيّن قاضي القضاة، ومديري الدوائر،وقواد الجيش ورؤساء أركانه وأمراء ألويته، وهم جميعاً مسؤولون أمامه، وليسوا مسؤولين أمام مجلس الأمة.
و- هو الذي يتبنّى الأحكام الشرعية، التي توضع بموجبها ميزانية الدولة، وهو الذي يقرر فصول الميزانية والمبالغ التي تلزم لكل جهة، سواء أكان ذلك متعلقاً بالواردات، أم بالنفقات].
ومن أراد أن يعود إلى الأدلة الشرعية التي حددت هذه الصلاحيات فيمكنه الرجوع إلى كتاب «نظام الحكم في الإسلام» الطبعة الثالثة، تأليف الشيخ الإمام تقي الدين النبهاني حيث اقتبسنا البنود السابقة.
ومع كون هذه الصلاحيات واسعة جداً،ولكنها صلاحيات أعطاه إياه الشرع فهو مقيد بها من الله ولا يملك أن يخالف حكماً شرعياً واحداً. فهو ليس ديكتاتوراً يحكم بحسب هواه ويسن القوانين حسب رغباته. وهو حين يتبنى دستوراً وقانوناً فهو ملزم أن يتقيد به مثله مثل رعيته. ولذلك فإن حدود صلاحياته ونفوذه مبيّنة في الدستور والقانون. وجلس الأمة يحاسبه، وكل مسلم له حق محاسبته، بل إن محاسبة الحكام، ومنهم الخليفة، هي فرض على المسلمين وليست حقاً من حقوقهم فقط. وسبق أن ذكرنا أن قاعدة «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» هي عبادة من أجلّ العبادات، قال -صلى الله عليه وسلم-: «أفضل الجهاد كلمة حق عند ذي سلطان جائر». وسنوضح في النقاط التالية، إن شاء الله، الضوابط المحددة.
6- يقول الكاتب: (لا توجد ضوابط تضبط عمل مؤسسات الدولة). وهذا الكلام أيضاً ليس صحيحاً، فمؤسسات الدولة الإسلامية أو أجهزتها هي: أ- الخليفة. ب- معاون التفويض. ج- معاون التنفيذ. د- أمير الجهاد. هـ- الجيش. و- الولاة. ز- القضاء. ح- مصالح الدولة. ط- مجلس الأمة.
هذه المؤسسات أقامها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين أقام الدولة، ومن أراد معرفة الأدلة والتفصيلات يمكنه العودة المرجع السابق «نظام الحكم في الإسلام».
7- ويقول الكاتب: (لا يوجد في نظام الخلافة طريقة عملية لعزل الخليفة) ويقول: (لا توجد ضوابط لتغيير السلطة السياسية عبر انتخابات حرّة).
الشرع الإسلامي لم يحدد فترة حكم الخليفة بمدة معينة، بل حددها بكيفية معيّنة. فما دام محسناً في تطبيق الشرع فلا داعي لإنهاء حكمه كما تفعل الديمقراطيات الغربية، أما إذا خالف وأساء أو عجز، أو ما شاكل ذلك فيجب عزله فوراً دون انتظار انتهاء فترته.
أما كيف يكون عزله، أو ما هي الطريقة العملية لعزله إذا استحق العزل فإنما يكون ذلك بواسطة «محكمة المظالم».
«محكمة المظالم» هي جزء من القضاء في الشرع الإسلامي. في بعض العصور كان الخليفة نفسه هو الذي يتولى هذه المحكمة ويجلس لسماع شكاوى الناس على الحكام. وفي بعض العصور أهملها الخلفاء. والأصل الشرعي لهذه المحكمة هو قوله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) [سورة النساء: 59]. والشاهد هنا هو قوله تعالى: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ) فأي نزاع يحصل بين الخليفة أو أي حاكم أو أي قاض أو أي موظف حكومي وبين الناس فإنه يجب رد هذا النزاع إلى الله ورسوله، أي إلى كتاب الله وسنة رسوله. فإذا كان يكفي مجرد التذكير والموعظة بالكتاب والسنة لفض النزاع فبها. ولكن طبيعة البشر تعلّمنا أن الموعظة والتذكير لا تغني في أكثر الحالات. ولذلك شرع الله وجوب وجود القضاء الذي ينفذ الأحكام بالإجبار. ومن هنا نفهم أن وجود «محكمة المظالم» أمر حيوي في نظام الحكم في الإسلام. وأنقل فيما يلي الأحكام المتعلقة بمحكمة المظالم كما وردت في كتاب «الدولة الإسلامية» تأليف الإمام الشيخ تقي الدين النبهاني – رحمه الله – الطبعة الخامسة، قال:
[المادة 78- قاضي المظالم هو قاضٍ يُنَصب لرفع كل مَظْلِمَة تحصل في الدولة أو تحصل من الدولة على أي شخص يعيش تحت سلطان الدولة ، سواء أكان من رعاياها أم من غيرهم ، وسواء حصلت هذه المظلِمة من الخليفة أو ممن هو دونه من الحكام والموظفين .
المادة 79- يُعيّن قاضي المظالم من قِبَل الخليفة ، أو من قَبِل الخليفة ، أو من قِبَل قاضي القضاة . وأما عزله ومحاسبته وتأديبه ونقله فيكون من قِبَل الخليفة ، أو من قِبَل محكمة المظالم إذا أعطاها الخليفة صلاحية ذلك. إلا أنه لا يصح عزله أثناء قيامه بالنظر في مظلِمة على الخليفة، أو معاون التفويض، أو قاضي القضاة.
المادة 80- ولا يُحصَر قاضي المظالم بشخص واحد أو أكثر ، بل للخليفة أن يُعيّن عدداً مِن قُضاة المظالم حسب ما يَحتاج رَفعُ المظالم مهما بلغ عددهم . ولكن عند مباشرة القضاء لا تكون صلاحية الحكم إلا لقاضٍ واحد ليس غير ، ويجوز أن يجلس معه عدد مِ، قُضاة المظالم أثناء جلسة القضاء ، ولكن تكون لهم صلاحية المشاورة ليس غير ، وهو غير مُلزَم بالأخذ برأيهم .
المادة 81- لمحكمة المظالم حق عزل أي حاكم أو موظف في الدولة، كما لها حق عزل الخليفة.
المادة 82- وتملك محكمة المظالم صلاحية النظر في أيّة مظلمة من المظالم سواء أكانت متعلقة بأشخاص من جهاز الدولة ، أم متعلقة بمخالفة الخليفة لأحكام الشرع ، أم متعلقة بمعنى نصٍّ من نصوص التشريع في الدستور ، والقانون ، وسائر الأحكام الشرعية ضمن تبني الخليفة ، أم متعلقة بفرض ضريبة من الضرائب ، أم غير ذلك.
المادة 83- لا يشترط في قضاء هذه المظالم مجلس قضاء ، ولا دعوة المدّعى عليه ، ولا وجود مُدّعٍ ، بل لها حق النظر في المظلمة ولو لم يدعِ بها أحد.] انتهي النقل من كتاب «الدولة الإسلامية».
ولا يجوز أن يغرب عن بالنا أنه قد تحصل في البلاد حالات تطغى فيها الفوضى على النظام، أو تحصل فتن وحروب بغاة، أو مشاكل عرقية، أو تحريضات خارجية. وهذه لا يعالجها النظام وحده، بل يعالجها وعي الأمة الإسلامية، وتمسكها بدينها، ومحافظتها على عقيدتها وعلى شريعتها. فقوة الدولة من قوة الأمة، ووعي الدولة من وعي الأمة، وحسن سير النظام في الدولة من حسن محافظة الأمة على الدين وحسن قيامها بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
8- أما ما يقول بولاش بشأن الحديث الشريف «الأئمة من قريش» وأن هذا يفتح باب النزاعات القومية، فالأمر ليس كذلك. إن بُعْدَ المسلمين عن الإسلام وعن سنة نبيهم هو الذي يفجّر بينهم النعرات القومية. أما عودتهم إلى أحاديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- فهي التي تنسيهم العرقية والعصبية والقومية ولا تبقي فيهم إلا الولاء لله ورسوله ولهذا الدين. فهو -صلى الله عليه وسلم- يقول عن العصبية الجاهلية «دعوها فإنها منتنة». والإسلام قد صهر الشعوب على اختلاف أعراقها وأديانها وعاداتها ولغاتها… صهرها كلها في بوتقة الإسلام وأخرج منها أمة واحدة. وكل شخص يتعصب لقومه وتراثه الجاهلي ويرفض أي أَمْر أَمَر به القرآن أو أمر به محمد -صلى الله عليه وسلم- هو فاسق أو كافر وليس بمسلم. كل مسلم مؤمن يحب اللغة العربية أكثر من أية لغة أخرى ولو كانت لغة آبائه وأجداده، وليس هذا تفضيلاً لقومية عربية على غيرها بل هو تفضيل للغة القرآن الكريم ولغة الحديث الشريف.
على أن حديث «الأئمة من قريش» يفيد الندب ولا يفيد الوجوب، أي هو شرط أفضلية وليس شرط انعقاد، وهذا ما يقول به أبو حنيفة رضي الله عنه، وهذا ما كانت تقوم عليه الخلافة على عهد العثمانيين .
-
وقال -صلى الله عليه وسلم-: «لا تحاسدوا، ولا تناجَشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يَبِعْ بعضكم على بيع بعض، وكونوا عابدَ الله إخواناً. المسلم أخو المسلم، لا يخذله، ولا يحقرهُ. التقوى ههنا – وأشار إلى صدره – بِحسْبِ امرئٍ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كلُّ المسلمِِ على المسلم حرامٌ: دَمُهُ ومالُه وعرضَه».
1994-09-20