خُطبة جُمُعة: ما غُزِيَ قومٌ في عُـقـرِ دارهم إلاّ ذَلّوا
2003/07/20م
المقالات
4,246 زيارة
خُطبة جُمُعة:
ما غُزِيَ قومٌ في عُـقـرِ دارهم إلاّ ذَلّوا
الشيخ عصام عميرة
أيها المسلمون: قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه: “ما غزي قومٌ في عقر دارهم إلاّ ذلّوا”. للَّه درك يا أمير المؤمنين، يا من نشأت في مدرسة خير المعلمين محمد صلى الله عليه وآله وسلم، يا من عرفت فنون الحرب، يا صاحب ذي الفقار، شهدت الغزوات المباركة مع قائد المجاهدين الأولين، وذقت حلاوة النصر في القتال على أرض الكافرين، وخبرت مرارة الحصار يوم الأحزاب، يوم أن أحاط الكفار بالمدينة، وكادوا يدخلونها، لولا أن تدارك اللَّه المسلمين برحمته. للَّه درك يا أمير الجهاد الأول، وصاحب الراية المباركة، تلخّص لنا منهجية الحرب بكلماتٍ قليلة، “ما غزي قومٌ في عقر دارهم إلاّ ذلّوا”! سبحان اللَّه، ما أدقّ هذا الكلام وما أحكمه، وما أشدّ انطباقه على الواقع عبر العصور والآوان، مع المسلمين وغير المسلمين، فلما كانت جيوش المسلمين تقاتل خارج حدود الدولة الإسلامية، كتبت لها الغلبة في غزواتها، وكان النصرُ حليفَها، وتتابعت الفتوحات في جميع الاتجاهات. وعندما ركنوا إلى الدنيا، وقعدوا عن الغزو والجهاد في سبيل اللَّه، أتاهم العدو، فاقتحم بلادهم، وجاس خلال ديارهم، وأباد خضراءهم، وطردهم من البلاد التي خضعت لسلطانهم، وما ذلك إلا لتحوّل ساحة الحرب من أرض الكفار إلى أرضهم.
أيها المسلمون: لقد عمل هذا القانون العسكري في جميع الأحوال، وفي كل الأمكنة، ولم يتخلّف أبداً، وشواهده في التاريخ القديم والجديد أكثر من أن تُحصى. وليس ما يجري اليوم من حصارٍ لبغداد وباقي مدن العراق إلا تجسيداً كاملاً لهذا القانون، وشاهداً حياً على صحة قول الإمام علي رضي اللَّه عنه: “ما غزي قومٌ في عقر دارهم إلا ذلّوا”، بل إنّ المسلمين قد شهدوا مثيله، ولربما أسوأ منه، في أزمنةٍ هي أفضل من أزمنة البعث والقومية العربية والعمالة والخيانة للإنجليز والأميركان. فقد حصل في زمن الخلافة العباسية أن اجتاح التتار دمشق وبغداد ومدناً أخرى من حولهما عام 656 للهجرة، وعادت بغداد، بعد ما كانت آنسَ المدن كلها، كأنها خرابٌ ليس فيها إلا القليل من الناس، وهم في خوفٍ وجوعٍ وذلةٍ وقلة، وقد اختلف الناس في كمية من قتل ببغداد من المسلمين جرّاء الغزو التتري، فقيل: ثمانمائة ألف، وقيل: ألف ألف وثمانمائة ألف، وقيل: بلغت القتلى ألفي ألف نفس. وقد قُتل الخليفة، وقُتل معه ولداه الأكبر والأوسط، وأُسر ولده الأصغر، وأُسرت أخواته الثلاث، وأُسر من دار الخلافة ما يقارب ألف بكرٍ فيما قيل، واللَّه أعلم. وقُتل أكابر الدولة واحداً بعد واحد، وجماعةٌ من أمراء السنة وأكابر البلد، وكان الرجل يستدعى به من دار الخلافة من بني العباس فيخرج بأولاده ونسائه فيُذهب به إلى مقبرة الخلال، فيُذبح كما تُذبح الشاة، ويُؤسر من يختارون من بناته وجواريه، وقُتل الشيوخ والخطباء والأئمة وحملة القرآن، وتعطلت المساجد والجماعات والجمعات مدة شهورٍ ببغداد. ولما انقضى الأمر المقدّر وانقضت الأربعون يوماً بقيت بغداد خاويةً على عروشها ليس بها أحدٌ إلا الشاذ من الناس، والقتلى في الطرقات كأنها التلول، وقد سقط عليهم المطر فتغيرت صورهم وأنتنت من جيفهم البلد، وتغير الهواء فحصل بسببه الوباء الشديد حتى تعدى وسرى في الهواء إلى بلاد الشام، فمات خلقٌ كثير من تغيّر الجو وفساد الريح، فاجتمع على الناس الغلاء والوباء والفناء والطعن والطاعون. ولما نوديَ ببغداد بالأمان، خرج من تحت الأرض من كان بالمناطير والقِنى والمقابر كأنهم الموتى إذا نُبشوا من قبورهم، وقد أنكر بعضُهم بعضاً فلا يعرف الوالد ولده ولا الأخ أخاه، وأخذهم الوباء الشديد فتفانوا وتلاحقوا بمن سبقهم من القتلى، واجتمعوا تحت الثرى بأمر من يعلم السر وأخفى، فإنا للَّه وإنا إليه راجعون.
وقد تعرّضت الأمة لغزوٍ صليبيٍّ محكم ضخمٍ متوالٍ في حملاتٍ يحدوها الحقد الشديد والطمع الفظيع، وعلى رأسها القساوسة والرهبان، والفرسان والنبلاء، والأمراء والملوك، وأسّسوا ممالك وإماراتٍ صليبية على أرض المسلمين. وقد بدأت عمليات الشحن المعنوي لها بخطبةٍ للبابا أوربان الثاني سنة 1095م. طالب فيها العامة بتخليص قبر المسيح المقدس من أيدي المسلمين، وتطهير القدس منهم. فقاد بطرس الناسك أولى الحملات العسكرية التي استمرت قرنين والتي عُرفت باسم الحملات الصليبية لأنها اتخذت الصليب شعاراً لها، واحتلّ بطرس الرملة ودمر يافا، وحاصر القدس بجنود يقدّر عددهم بأربعين ألفاً، وبعد شهرٍ من الحصار استسلمت الحامية المصرية الصغيرة التي كانت موجودة هناك، فدخلوا القدس عام 1099م. وقتلوا فور دخولهم أعداداً كبيرة من سكانها المسلمين، قدرتهم الكثير من المراجع التاريخية بسبعين ألفاً. وأعلن الصليبيون إقامة مملكةٍ لاتينية في القدس، ومدوا نفوذهم إلى عسقلان وبيسان ونابلس وعكا واستقروا في طبريا.
أيها المسلمون: هل كان ذلك نهاية المطاف في الصراع بين الحق والباطل، وبين الإيمان والكفر؟ كلا، لقد قيّض اللَّه تعالى للمسلمين رجالاً عظماء، أمثال نور الدين وأبيه عماد الدين وخليفته صلاح الدين، حيث أذاقوا الصليبيين طعم الذل والهوان، وأخرجوهم من ديار الإسلام ذليلين مدحورين، ونجح نور الدين زنكي بعد قتالٍ عنيف مع الحاميات الصليبية في استعادة بعض المدن والإمارات، واستكمل صلاح الدين الأيوبي تلك الانتصارات، فكانت معركة حطين الشهيرة التي استردّ بعدها بيت المقدس عام 1187م. ثم قيّض اللَّه للمسلمين رجالاً عظماء آخرين أمثال سيف الدين قطز والظاهر بيبرس، حيث أذاقوا التتار طعم الذل والهوان، وأخرجوهم من ديار الإسلام ذليلين مدحورين، في عهد الدولة المملوكية حيث استطاع قطز وبيبرس صد الغزو المغولي الذي اجتاح أجزاء واسعة من العالم الإسلامي، وكانت معركة عين جالوت قرب الناصرة في عام 1259م. واحدةً من أهم وأشهر المعارك الإسلامية.
أيها المسلمون: واليوم، تتداعى علينا الحملة الصليبية الأنجلو أميركية بثوبٍ جديد، زاعمةً تحرير العراق، ونشر السلام في ربوعه، وتفكيك محور الشر، ومكافحة الإرهاب، والحقيقة التي لا مراء فيها أنها صليبية حتى النخاع. إسمعوا ما كتبه (هاورد تشو إيوان) في إحدى المجلات الأميركية المحلية تحت عنوان (الحرب في الخليج بمثابة صدىً للحرب الصليبية الخامسة التي جرت في الفترة من 1217-1221 ميلادية) حيث يسرد الكاتب تاريخ هذه الحرب ووقائعها، ويحذر من أنّ هذه الحملة الخامسة على العالم العربي والإسلامي أيام صلاح الدين الأيوبي قد فشلت بسبب انفراط عقد التحالف بين الفرنسيين والإنجليز وباقي البلاد الأوروبية، وانّ على التحالف الغربي القائم الآن في الخليج ضد العراق أن يستوعب هذا الدرس الذي قدمته لنا الحرب الصليبية الخامسة!! ولعل هذا يفسر صمت العالم عن المجازر الأميركية الوحشية في العراق، والتغيّر المفاجئ في مواقف ألمانيا وفرنسا وروسيا حيال الحرب الصليبية عليه.
وقد عادت هذه الأقوال نفسها عن الطبيعة الدينية للحرب ضد العراق تتردّد على لسان هؤلاء الناصحين الدينيين لإدارة بوش، بل وعلى لسان مسؤولين أميركيين في إدارة بوش يؤمنون بهذه المبادئ نفسها. حتى وصل الأمر بالقسيس (فرانكلين جراهام)، ابن الداعية الإنجيلي (بيلي جراهام) وخليفته المحتمل، للقول يوم 10 سبتمبر 2002: (ينبغي علينا الوقوف بوجه هذا الدين الذي يقوم على العـنـف) ويقـول: (إنّ إله الإسـلام ليـس إلـهـنـا، والإسـلام ديـنٌ شـريـرٌ وحقير). بل إنّ بوش الابن نفسـه سـعـى لخطب ود الأميركان لضرب العراق بعباراتٍ دينيةٍ عامة، ومنها قوله المشهور بتقسيم العالم إلى محور خيرٍ ومحور شر، على غرار ما ورد في بعض كتب الإنجيل. فالحرب إذن صليبيةٌ حاقدة، فلا مجال للتصـدي لها ببعثيةٍ كافرة، أو وطنيةٍ فاسدة، او قوميةٍ نتنة، بل لا بد من دعوةٍ جهاديةٍ صادقة يشترك فيها المسلمون جميعاً تحت راية العقاب، راية لا إله إلا اللَّه، محمد رسول اللَّه، وليس العـراقـيـيـن أو العـرب فـقـط. أقـول قـولـي هذا وأستغفر اللَّه العظيم لي ولكم. الحمد اللَّه وكفى، وسلامٌ على عباده الذين اصطفى، ءآللَّه خير أما يشركون؟ وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده المرتجى وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله المجتبى …
الجـمـعة 02/02/1424هـ.
الموافق 04/04/2003م.
2003-07-20