دور الغرب في العراق خلال حكم صدّام
2003/06/20م
المقالات
1,524 زيارة
دور الغرب في العراق خلال حكم صدّام
كان هناك لعهد طويل ارتباط شائن بين الحكومات الغربية الديمقراطية والأنظمة الدكتاتورية في العالم. فعندما تكون المنفعة هي المحور الذي تدور حوله السياسة في الغرب، فإن القانون الدولي يجري انتهاكه بسهولة. وبناء على ذلك لم يكن مستغربًا أن تكون الولايات المتحدة وبريطانيا في مقدمة الدول الغربية في تحالفها مع أكثر الدكتاتوريات وحشيةً طيلة فترةٍ طويلة من القرن الماضي، ويجري تبرير هذا التحالف بعبارات منمّقة تتعلق بالاستراتيجية والسياسة الدولية وأمثالها. ومن ذلك ارتباط الولايات المتحدة وبريطانيا مع نظام صدام حسين خلال فترة حكمه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
– قبل خمس سنوات من ضرب صدام للأكراد بالغاز عام 1988، حصل اجتماع هام في بغداد، وكان الهدف من هذا الاجتماع إقامة علاقات حميمة بين صدام وواشنطن. ونظم هذا الاجتماع في نفس الفترة التي اتهم فيها صدام بأنه استخدم الأسلحة الكيماوية لأول مرة. وهذا الاجتماع الذي عقد أواخر شهر كانون أول عام 1983 مهد الطريق أمام إعادة العلاقات بين العراق والولايات المتحدة رسميا، حيث كانت العلاقات مقطوعة منذ الحرب العربية الإسرائيلية عام 1967.
– مع تصاعد الحرب الإيرانية – العراقية، أرسل الرئيس رونالد ريجان مبعوثه إلى الشرق الأوسط، وهذا المبعوث الذي كان وزير دفاع سابق في عهد الرئيس فورد، حمل رسالة إلى بغداد مكتوبة بخط اليد إلى الرئيس العراقي صدام حسين، وفيها تقول بأن واشنطن مستعدة في أي لحظة لإعادة العلاقات الدبلوماسية. ولم يكن هذا المبعوث إلا السيد دونالد رامسفيلد، الذي عندما ذهب إلى بغداد في 19-20 كانون أول 1983 أصبح أكبر مسؤول رسمي أميركي يزور العراق خلال ست سنوات. فقد التقى مع صدام وبحث الرجلان “موضوعات ذات اهتمامات مشتركة”، حسب ما ورد من وزارة الخارجية العراقية. وقد “أوضح (صدام) أنه لا يرغب في نشر الفساد في العالم”. وقد صرح رامسفيلد إلى مجلة نيويورك تايمز، فيما بعد: “بدا لنا أنه من المفيد أن تكون لنا علاقة (مع العراق)، خاصة أننا كنا مهتمين بحل قضايا الشرق الأوسط”. وبعد 12 يوما فقط من الاجتماع، نشرت الواشنطن بوست في 1 يناير 1984 أن الولايات المتحدة “قد حدث تحول في سياستها، وأخبرت دولا خليجية صديقة أن هزيمة العراق في الحرب مع إيران التي اشتعلت من 3 سنوات، ستكون ضد مصالح الولايات المتحدة وأنها قامت بعدة خطوات لمنع هذه الهزيمة”.
– وفي آذار عام 1984، بينما كانت الحرب الإيرانية – العراقية تزداد كل يوم وحشية، عاد رامسفيلد إلى بغداد وعقد اجتماعات مع وزير الخارجية العراقية آنذاك، السيد طارق عزيز، وأثناء زيارته، 24 آذار 1984، نشرت وكالة اليونايتدبرس عن الأمم المتحدة “أن غاز الخردل مضافا إليه قليل من غاز الأعصاب قد استُعمل ضد الجنود الإيرانيين في الحرب الخليجية التي كان عمرها 43 شهرا بين إيران والعراق حسبما توصل إليه فريق من خبراء الأمم المتحدة… وأثناء ذلك، كان يعقد المبعوث الرئاسي الأميركي، دونالد رامسفيلد، محادثات في العاصمة العراقية مع وزير الخارجية طارق عزيز بشأن حرب الخليج قبل أن يغادرها إلى جهة غير محددة”. وقبل ذلك بيوم، زعمت وكالة الأخبار الإيرانية أن العراق قام بهجوم آخر بالأسلحة الكيماوية في الجبهة الجنوبية، مما أدى إلى إصابة 600 جندي إيراني، وقال تقرير الأمم المتحدة “لقد استُخدمت الأسلحة الكيماوية في شكل قنابل جوية في المناطق التي فحصها الأخصائيون في إيران. وكانت أنواع الغازات الكيماوية المستعملة هي: بس سلفايد (المشهور باسم غاز الخردل) وغاز الإيثيل-N، وديمثيل فوسفوراميدو سيانيد، وهو غاز أعصاب معروف باسم تابون”.
– وقبل نشر تقرير الأمم المتحدة، فإن وزارة الخارجية الأميركية في 5 آذار 1984 نشرت تصريحًا يقول “تشير الأدلة المتوفرة إلى أن العراق استخدم أسلحة كيماوية قاتلة”. والأمر الفاضح، أن دونالد رامسفيلد كان في العراق عندما صدر تقرير الأمم المتحدة، ولم يقل شيئا عن مزاعم استخدام الأسلحة الكيماوية، رغم وجود (دليل) لدى وزارة الخارجية الأميركية يثبت خلاف ذلك، وقد ذكرت مجلة نيويورك تايمز في تقرير من بغداد في 29 آذار 1984 “أن الدبلوماسيين الأميركان يعبّرون عن رضاهم عن العلاقات بين العراق والولايات المتحدة، ويعتبرون العلاقات الطبيعية قد استؤنفت بكاملها، ولم يبق إلا الشكليات”.
– وفي شهر تشرين الثاني 1984 استؤنفت العلاقات الدبلوماسية الكاملة بين العراق والولايات المتحدة. وفي مقال عن طموحات رامسفيلد لدخول معركة تسمية مرشح الجمهوريين في الانتخابات الرئاسية لعام 1988، أوردت مجلة الشيكاغو التربيون لائحة بمنجزات رامسفيلد، وكان من بينها المساعدة في “إعادة العلاقات الأميركية مع العراق”. وأغفلت التربيون ذكر أن هذه المساعدة حدثت في وقت كان فيه العراق نشطا في استخدام الأسلحة الكيماوية حسبما ذكرت وزارة الخارجية الأميركية. وخلال تلك الفترة التي كان فيها رامسفيلد مبعوث ريجان في الشرق الأوسط، كان العراق منهمكا في شراء معدات من الشركات الأميركية وهي مبيعات أجازها البيت الأبيض. وهذا الشراء المسعور بدأ حالا بعد رفع اسم العراق من لائحة الدول التي زعم أنها تتبنى الإرهاب، وذلك في عام 1982. وحسبما ورد في مقال في مجلة لوس انجلس تايمز في 13 شباط 1991 “فإن أول لائحة شحن لصدام حسين كانت طائرات هليوكبتر، حيث اشترى 60 طائرة هليوكبتز مع مدربين دون أن يلاحظ ذلك أحد، ولكن طلبًا آخر ب10 طائرات هليوكبتر بل هوي ذات المحرك المزدوج، كتلك التي كانت تستعمل لنقل القوات المقاتلة في فييتنام، أثار معارضة في الكونجرس في آب 1983، ومع هذا فقد تمت الموافقة على البيع”.
– وفي عام 1984، وحسبما ورد في مجلة لوس انجلس تايمز، فإن وزارة الخارجية، وتحت اسم “التغلغل الأميركي الزائد في سوق الطيران المدني الخاضع للمنافسة القصوى”، دفعت للأمام بيع 45 طائرة هليوكبتر من طراز بيل 214 سي تي، للعراق. وهذه الطائرات، التي بلغ ثمنها 200 مليون دولار، كانت في الأصل مصممة لأغراض عسكرية. وذكرت مجلة نيويورك تايمز فيما بعد أن صدام “حوّل كثيرا من هذه الطائرات (ان لم يكن كلها) إلى جيشه”. وفي عام 1988، قامت قوات صدام بمهاجمة الأكراد المدنيين بالغاز السام مستخدمة الطائرات والمروحيات العراقية، وأخبرت مصادر استخباراتية أميركية مجلة لوس انجلس تايمز في عام 1991، أنهم “يعتقدون أن مروحيات أميركية الصنع كانت ضمن المروحيات التي أسقطت القنابل القاتلة”.
– وكرد فعل على استخدام الغاز، فإن عقوبات اقتصادية واسعة جرى الموافقة عليها إجماعيًّا من قبل مجلس الشيوخ الأميركي تمنع استعمال العراق لمعظم التقنيات الأميركية. ولكن البيت الأبيض رفض القرار. وقد أخبر مسؤولون كبار مراسلي الأنباء أنهم لم يضغطوا من أجل معاقبة العراق في ذلك الوقت، لأنهم كانوا يريدون دعم قدرة العراق لمواصلة الحرب مع إيران. ولم تكشف دراسة مستفيضة أي تصريحات علنية لدونالد رامسفيلد تعبر عن أي قلق مهما كان قليلا بخصوص امتلاك واستخدام العراق للأسلحة الكيماوية حتى كان الأسبوع الذي غزا فيه العراق الكويت في آب 1990، عندما ظهر في برنامج إخباري خاص على شبكة إي بي سي (ABC). وبعد 8 سنوات وقّع دونالد رامسفيلد، كتابا مفتوحا موجها إلى الرئيس كلينتون، يدعوه لوضع حد “للتهديد القائم من صدام”. وحث الكتاب كلينتون “أن يقدم القيادة الضرورية لحماية أنفسنا والعالم من قسوة صدام وأسلحة الدمار الشامل التي يرفض التخلي عنها”. كان دونالد رامسفيلد، عام 1984، في موقع يستطيع منه أن يلفت انتباه العالم لتهديد أسلحة صدام الكيماوية. كان يومها في بغداد عندما خلصت الأمم المتحدة إلى أن الأسلحة الكيماوية قد استخدمت ضد إيران. وكان مزودا برسالة جديدة من وزارة الخارجية بأن عندها “دليلا جاهزا” أن العراق كان يستخدم الأسلحة، ولكن رامسفيلد لم يقل شيئا.
– تتكلم واشنطن اليوم عن تهديد صدام وعن العواقب المترتبة على عدم القيام بعمل ضده. ورغم فشل الإدارة الأميركية في تقديم أي جزء ولو صغير من دليل حقيقي يربط العراق بالقاعدة أو أنه استأنف إنتاج المواد الكيماوية أو البيولوجية، فإن رامسفيلد يصرّ بأن “عدم وجود دليل ليس دليلا على عدم وجود (هذه المواد)”. ولكن لدينا دليل على عدم تكلم دونالد رامسفيلد في نفس اللحظة التي ظهر فيها لأول مرة التهديد المزعوم للأمن الدولي من قبل العراق. وفي هذه الحالة فإن دليل غياب (صوت رامسفيلد) كان دليلا حقيقيا.
– دور المملكة المتحدة في بروز صدام قبل حرب الخليج تقوم الحكومة بكتمانه. فقد قامت حكومة مارغريت تاتشر في الثمانينات وحكومة جون ميجر في التسعينات، وبتحد لتعليمات الأمم المتحدة بالموافقة السرية على مبيعات أسلحة إلى صدام حسين. قد استخدمت هذه في الحرب الإيرانية العراقية، وضد القرويين الأكراد ولمساعدة صدام في بنامجه النووي. وقد كشف تقرير أعده السير ريتشارد سكوت، قاضي المحكمة العليا، وجود شبكة مؤامرة وخداع واستغلال (الحاجة للسلاح في الحرب) تصل إلى قلب الحكومة. وعندما ناقشت حكومة ميجر المحافظة تقرير السير سكوت في مجلس العموم يوم 26 شباط كادت أن تسقط بسبب محتوى التقرير ونجت بصوت واحد بعد أن صوّت بعض النواب المحافظين مع المعارضة العمالية. وجذور الفضيحة تبيّن أنه في الثمانينات، وبناء على اندفاع تاتشر في تصدير الأسلحة، فإن ابنها مارك أصبح رجل المبيعات غير الرسمي الجوال لشركات الأسلحة البريطانية. وقد جنى مارك نفسه ما يقدر بـ 160 مليون دولار كعمولات في هذه العمليات، منها 40 مليون دولار من صفقة مع العربية السعودية.
– وبينما لم تسبب المبيعات لمعظم الأنظمة الدكتاتورية أي مشاكل دبلوماسية معينة (ما عدا الاحتجاجات التي جاءت فقط من اليسار السياسي)، فإن المبيعات إلى إيران والعراق اعتبرت مسألة مختلفة. فقد وضع هذا السوق الضخم المحتمل في وضع حرج بسبب القيود التي وضعتها الأمم المتحدة على المبيعات لهذين القطرين، في وسط حرب قد مات فيها مليون شخص حتى ذلك الوقت. واحتمال فقدان السوق العراقي له أثر قاس. وفي فترة ما بين 1970 – 1990، زودت بريطانيا صدام بمجموعة واسعة من المعدات، كالعربات المصفحة للشخصيات القيادية وقطع الغيار للدبابات وأجهزة الاتصالات المعقدة. أصبح الآن معلوما أن الشركات البريطانية زودت أسلحة لكلا البلدين المتحاربين في الثمانينات بإرسال هذه الأسلحة إلى بلاد وسيطة، تقوم هي بإعادة تصديرها للبلدين. وقد سلمت الشركة البريطانية، بي مارك، التي كان الوزير المحافظ جوناتان ايتكن مديرا لها، مئات من المدافع البحرية الخفيفة إلى سنغافورة، وهي بلد لا يعرف أن لديها أسطولا بحريا كبيرا، ولكن هذه المدافع وجدت طريقها مفتوحا إلى إيران. أما المحطات الوسيطة المفضلة للأسلحة المرسلة إلى العراق فقد كانت عُمان والأردن. وقد اكتشفت الجمارك السعودية، عام 1986، كارتل (مجموعة شركات) أوروبي، يشمل شركات بريطانية، يقوم ببيع المتفجرات، عبر الأردن. وقد حاول البعض، كما فعل كلينتون في خطابه الأخير في مؤتمر حزب العمال أن يعترف بأن الغرب ارتكب أخطاء، بأنه كان يتساهل مع الحكام الدكتاتوريين، ولكن هذا الاعتراف يتخذ عاملا مساعدا لإصلاح الوضع بإسقاط النظام العراقي. ربما ترك هذا المنطق الملتوي انطباعا طيبا لدى ممثلي حزب العمال، ولكنه لن يؤثر على أي مراقب واعٍ يدرس الوضع السياسي الدولي الحالي. فإن الغرب، بدلا من ان يتعلم من “أخطائه” السابقة قبل الهجوم الذي وقع في نيويورك وواشنطن يوم 11 أيلول، وذلك فيما يسميه الحرب ضد الإرهاب، فإنه لا يزال لديه حلفاء يعتبرون من أكثر الدكتاتوريين كراهية .
2003-06-20