خُطبة جُمُعة: نداء إلى الأموات.
للشيخ: عصام عميرة.
أيها المسلمون: في نشوة النصر والظفر قال السلطان بايزيد: “إنه سيفتح ايطاليا ويُطعم حصانه الشعير في مذبح القديس بطرس برومة”! تلك هي مقولة خليفة المسلمين في بعض عصور المسلمين، وليس في أفضلها، عندما انتقم من نصارى شبه جزيرة إيبيريا (الأندلس) بعد أن استنجد به بقايا المسلمين هناك واستنصروه لرفع الظلم عنهم في رسالة طويلة حملت بعض معاناتهم، ومما جاء فيها:
سلام عليكمْ من عبيد تخلفوا
|
بأندلسٍ بالغرب في أرض غربةْ
|
كانت هذه الأبيات جزءاً من رسالة الاستنصار المطولة، والتي بعث بها المسلمون في الأندلس، كما وردت في كتاب الدولة العثمانية، لعلي بن محمد الصلابي. وكان السلطان بايزيد يعاني من العوائق التي تمنعه من إرسال المجاهدين، بالإضافة إلى مشكلة النزاع على العرش مع الأمير جم، وما أثار ذلك من مشاكل مع البابوية في روما وبعض الدول الأوروبية، وهجوم البولنديين على مولدافيا، والحروب في ترانسلفانيا والمجر والبندقية، وتكوين التحالف الصليبي الجديد ضد الدولة العثمانية من البابا جويلس الثاني وجمهورية البندقية والمجر وفرنسا، وما أسفر عنه هذا التحالف من توجيه القوة العثمانية لتلك المناطق. ومع ذلك قام السلطان بايزيد بتقديم المساعدة، وتهادن مع السلطان المملوكي الأشرف لتوحيد الجهود من أجل مساعدة غرناطة، ووقعا اتفاقاً بموجبه يرسل السلطان بايزيد أسطولاً على سواحل صقلية باعتبارها تابعة لمملكة أسبانيا، وأن يجهز السلطان المملوكي حملات أخرى من ناحية إفريقيا. وبالفعل أرسل السلطان بايزيد أسطولاً عثمانياً تحول إلى الشواطئ الأسبانية، وقد أعطى قيادته إلى كمال رايس الذي أدخل الفزع والخوف والرعب في الأساطيل النصرانية في أواخر القرن الخامس عشر، كما شجع السلطان بايزيد المجاهدين في البحر بإبداء اهتمامه وعطفه عليهم، وكان المجاهدون العثمانيون قد بدأوا في التحرك لنجدة إخوانهم المسلمين، وفي نفس الوقت كانوا يغنمون الكثير من الغنائم السهلة الحصول من النصارى، كذلك وصل عدد كبير من هؤلاء المجاهدين المسلمين أثناء تشييد الأسطول العثماني، ودخلوا في خدمته. بعد ذلك أخذ العثمانيون يستخدمون قوتهم البحرية الجدية في غرب المتوسط بتشجيع من هؤلاء المجاهدين, وهذا الذي كان في وسع السلطان بايزيد الثاني فعله.
أيها المسلمون: هذا بعض ما فعله أجدادكم قبل خمسة قرون في النصارى الذين أعدوا مائة خطة صليبية للإجهاز على الدولة الإسلامية العثمانية، كما ذكر أمير البيان شكيب أرسلان في تعليقات على كتاب حاضر العالم الإسلامي، أن الأتراك العثمانيين واجهوا على مدى فترة حكمهم مائةَ خطة صليبيةً للإجهاز على الدولة العثمانية، وكان أولُ حلف صليبي قام به البيزنطيون في عام 700 هجري، وفق 1301م لمحاربة عثمان بن أرطغرل، وكانت نهاية تلك الحملات هدم الخلافة العثمانية بمعاونة العميل الخائن كمال أتاتورك.
أيها المسلمون: لا تستغربوا إذن من رشوة أميركا لتركيا بستة وعشرين مليار دولار مقابل السماح لها باستخدام أراضيها لشن الهجوم على العراق، ولا تعجبوا من المرتشي الكبير في باكستان الذي قدم إخوانَه حلفاءَ الأمس من الطالبان قرباناً على مذبح الأميركان، ولا تهولنكم خيانةُ حكام دويلات الضرار العربية والأعجمية لقضية فلسطين، وتواطؤهم مع الأميركان على ضرب العراق، فما هي إلا أدوار رسمت، ومؤامرات دبرت، ومهمات أسندت، واليومَ قد جاء وقت تنفيذها. سلسلة طويلة من المكر والغدر، بدأها القوميون الأتراك والعرب بالتعاون مع الإنجليز الكفار، هدموا بها الخلافة الإسلامية، واستدبروا عهد الدين، واستقبلوا عهد الإلحاد, وختمها حكام المسلمين بالتعاون مع أميركا في غزو العراق. فماذا جنى دعاة هدم الخلافة لأنفسهم ولشعوبهم؟ بل ماذا أورثوا أبناءهم وأحفادهم؟ لقد كانوا بحق شرَّ خلف لخير سلف، فقد ورثوا الخلافة من أجدادهم فأسقطوها، وورثوا أبناءهم وأحفادهم دويلات الضرار فأسقطتهم في أتون الخيانة والعمالة والنذالة والهزيمة، ورثوا الدين الذي رفع الله به أجدادَهم مقاماً عليّاً في الدنيا والآخرة، وورَّثوا أبناءَهم وأحفادَهم علمانيةً ابتدعوها، هوت بهم أسفل سافلين. قم يا مصطفى كمال، وأنت أبعد ما تكون عن الاصطفاء والكمال، قم من مرقدك الخبيث وانظر ماذا جلبته خيانتُك وأمُّ جرائمك على أبناء شعبك وباقي أمتك! قم يا أيها الشريف، وأنت أبعد ما تكون عن الشرف، قم من مرقدك الخبيث وانظر ماذا فعل تآمرُك بأبنائك الذين هم من صلبك وباقي العرب من أمتك، بعد أن تآمرت على إمامك المبايع، لقد وُعدت بامبراطورية عربية تملكها من المحيط إلى الخليج، ثم أمسيت في منفاك القبرصي، وأصبح أبناؤك ألعوبة في أيدي الصليبيين واليهود! نكثت العهد فجازاك الله من جنس عملك! قوموا أيها الكماليون وأيها الاتحاديون لتروا ماذا حل بنا جراء فساد دينكم وتدبيركم! قم يا علي عبد الرازق، لترى ضرورة الخلافة التي لم تكن يوماً ترى لها ضرورة! كم نفتقدها اليوم بعد حالة الشلل التي أصابت حكامنا. قوموا يا دعاة الجامعة العربية وانظروا هذا الجسدَ الهزيل الذي لا يدفع عن نفسه ذباباً سياسياً، أو بعوضاً اقتصادياً، ولا يستطيع حل خلاف عربي واحد بين جارين عربيين ولو عُمِّرَ ألف سنة! قوموا يا دعاة الجامعة الإسلامية لتروا دويلات منظمة المؤتمر الإسلامي تقف اليوم كشواهد القبور، لا في العير ولا في النفير! قم يا طه حسين ويا سلامة موسى، يا من كنتم ترون أن مصر جزءٌ من أوروبا وليست جزءاً من آسيا، وأن سبيل النهضة هو أن نسير في طريق الأوروبيين، وأن الأزهر القديم لا يفهم الوطنية الحديثة! قم يا قاسم أمين وانظر ماذا حققت المرأة المسلمة بسفورها وخلع جلباب حيائها والتفريط بعرضها! قومي يا صفية زغلول ويا هدى شعراوي وانظرن ماذا فعلتن بنساء المسلمين، وكم كشفتما من عوراتهن المستورة، وكم منهن تعرضن للاغتصاب، وكم منهن فقدن أمومتهن! قم يا جمال الدين الأفغاني ويا محمد عبده لتروا كيف تطور الإسلام بما يناسب البيئة كما زعمتم، فالبيئة القذرة اليوم قد احتوت الإسلام والمسلمين معاً! قم يا عبد العزيز فهمي لترى ماذا حل باللغة العربية الفصحى التي كنت معولاً من معاول هدمها، بل وطالبت كتابتها بالأحرف اللاتينية! ورحمك الله يا مصطفى صبري، يا صاحب النكير على منكري النعمة من الدين والخلافة والأمة، رحمك الله وأنت تبين فساد دين الكماليين، وعصبيتهم للجنس التركي، وعداءهم للإسلام، وصلتهم باليهود، وتواطؤهم مع الإنجليز. أيها المسلمون: لا تعجبوا من ندائي للأموات، إنه فعلاً نداءٌ للأموات، ولكني أرجو منه استجابةَ الأحياء.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، قاصم الجبارين، ومبيد الظالمين، ومذل المستكبرين، وناصر المستضعفين من المؤمنين ولو بعد حين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الأمين، بلغ الرسالة تامة، وأدى الأمانة كاملة كما نزل بها الروح الأمين، فكان خير المرسلين وخاتم النبيين. وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، وصحابته الغُرِّ الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد أيها المسلمون: إن في التاريخ لعبرة، وفي استذكاره فائدة وفكرة، فالله سبحانه وتعالى يقول (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ). ونحن نعيش في هذه الأيام قرب حلول ذكرى هدم الخلافة حسب التقويم الميلادي، وقرب حلول ذكرى الهجرة النبوية حسب التقويم الهجري، فإنه يجدر بنا أن نقف عند المحطات البارزة في أحداث الهجرة المباركة التي أفضت إلى قيام دولة الإسلام الأولى، وأن نقف عند المحطات البارزة في أحداث الغدر والخيانة التي أودت بحياة دولة الخلافة الإسلامية العثمانية، فنأخذ العبرة من تلكم الأحداث جميعاً، فنعيد تفعيل ما يلزم لإعادة بناء الخلافة، وإقامتها ثانية راشدة على منهاج النبوة من جديد، والتمسك بما يقرب إليها من قول أو عمل، وفي نفس الوقت نفتح النار بقوة وبلا هوادة، على جميع الأعمال والشخصيات والأفكار التي ساهمت في نقض هذا البناء وهدمه، وأن نحذر أنفسنا وجميع المسلمين من كل ما يقرب إليها من قول أو عمل. بل نحشد ما وسعنا من طاقات المسلمين كي نهدم دويلات الضرار التي قامت على أنقاض الخلافة الإسلامية في بلاد العالم الإسلامي، وننسف حكامها في اليم نسفاً، فالشر الذي أصابنا منهم مستطير، والجهل والفقر والظلم الذي جلبوه علينا يفوق كل وصف وتقرير، وغضب الله الذي حل بنا وسخطه يتجاوزان كل حجم وتقدير، والخير الذي حجبوه عنا – قاتلهم الله – خير عميم وكثير.
أخرج ابن ماجة بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “حَدٌّ يُعْمَلُ بِهِ في الأَرْضِ خَيْرٌ لأَهْلِ الأَرْضِ مِنْ أَنْ يُمْطَرُوا أَرْبَعِينَ صَبَاحًا”.
أيها المسلمون: انظروا كم أصاب بلادنا من الخير العميم جراء ثلاثة أو أربعة أيام من المطر، فما بالكم بالخير الذي يعم الأرض جميعاً جراء مطر أربعين يوماً كأيامنا التي خلت! لا شك أن الأرقام تعجز عن رصده وإحصائه. فكيف إذا عرفتم أن إقامة حد واحد في الأرض خير لأهلها جميعاً من أن يمطروا أربعين صباحاً؟ من يقيم الحدود غير الخلافة؟ ومن يقاتل الأعداء بقدرة غير الخلافة؟ ومن يُتقى به من شر الأوغاد غير الخلافة؟ ومن يحمل الإسلام رسالة إلى العالم أجمع غير الخلافة؟ ومن يقتص من الظالم للمظلوم غير الخلافة؟ ومن يحرس الدين غير الخلافة؟ فاعملوا لإقامتها أيها المسلمون لعلكم تفلحون. فاللهم عجل بقيامها، واجعلنا من العاملين المخلصين لإقامتها، اللهم فرج همنا، ونفس كربنا، واقض الدين عنا وعن المسلمين. ربنا أفرغ علينا صبراً وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين .
الجمعة 26/12/1423ه.
الموافق 28/02/2003م.