مع القرآن الكريم:
(إِنَّ رَبكَ لَبالمِرْصَادِ)
قال تعالى: (ألم تر كيف فعل ربك بعاد @ إرم ذات العماد @ التي لم يخلق مثلها في البلاد @ وثمود الذين جابوا الصخر بالواد @ وفرعون ذي الأوتاد @ الذين طغوا في البلاد @ فأكثروا فيها الفساد @ فصب عليهم ربك سوط عذاب @ إن ربك لبالمرصاد) [الفجر].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يبدأ الخطاب في هذه الآيات التي تشكل موضوعاً واحداً، بقوله: (ألم تر) وهو استفهام فيه تعجب وتنبيه وإيقاظ، ودعوة إلى الاعتبار… والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم ولكل من يتأتّى له التبصر في عواقب الأمور من المؤمنين. وقوله: (كيف فعل ربك بعاد) فيه طمأنينة وسلوة للمؤمنين الذين يعانون من طغيان الطغاة الذين يقفون في وجه الدعوة وأهلها وذلك بقوله: (ربك ) التي تشعر بالقرب والنصرة لهم. وفيه إظهار قوة وشدة تنكيل بهؤلاءالطغاة الذين لم يتركهم الله يفلتون من العذاب الأليم في الدنيا.
هذا وقد جمع الله سبحانه في هذه الآيات القصار مصارع أقوى الجبارين الذي عرفهم التاريخ القديم. فأما عاد، فقد ذكر القرآن أن الله سبحانه قد زادهم بسطةً في الخلق وشدةً في البطش ولكنهم استكبروا في الأرض بغير الحق، وقالوا من أشد منا قوةً؟ عندما رأوا أنهم لم يخلق مثلهم في الشدة وعظم التركيب. فبعث الله فيهم رسوله هوداً فذكّرهم بنعم الله عليهم وأرشدهم إلى أن يستعملوها في طاعة ربهم الذي خلقهم ولكنهم كذبوه وخالفوه فأنجاه الله ومن معه من المؤمنين وأهلك عاداً (بريح صرصر عاتية @ سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوماً فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية @ فهل ترى لهم من باقية) [الحاقة] وأما ثمود، فقد ذكر القرآن أنهم كانوا أولي قوة وبأس شديد، كانوا يخرقون الصخر ويقطعونه وينحتون من الجبال بيوتاً… فبغوا بغير حق وعتوا عن أمر ربهم، فبعث الله فيهم رسوله صالحاً يذكرهم بنعم الله عليهم ويأمرهم بأن يسيروا على صراط الله المستقيم ولكنهم استحبوا العمى على الهدى وعقروا الناقة التي أمرهم الله أن لا يتعرضوا لها بسوء، فأنجى الله صالحاً ومن معه من المؤمنين وأهلك ثمود بالطاغية أي بالصيحة التي أسكتتهم والزلزلة التي أسكنتهم وجعلهم عبرةً لمن بعدهم.
وأما فرعون فقد كان راسخاً في القوة حتى لا يظن أحد أنه يستطيع أن يقلعه من الأرض لشدة بأسه فقد سام المؤمنين سوء العذاب وذبح أبناءهم واستحيا نساءهم فأصاب المؤمنين منه جهد عظيم. فأرسل الله إليه موسى ولكنه بغى وطغى وقال (أنا ربكم الأعلى @ فأخذه الله نكال الآخرة والأولى) [النازعات] فأغرقه وجنوده في اليم وجعلهم عبرةً لمن يخشى ونجى المؤمنين.
إن هؤلاء القوم قد طغَوا في البلاد، والطغيان هو تجاوز الحد في الظلم، والبعد عن الحق، وبغوا وفسدوا وأفسدوا حتى صارت الأرض بحاجة إلى تطهير من دنسهم، والناس إلى تخليص من طغيانهم وإفسادهم. فلما بلغوا هذا المبلغ من الطغيان صبّ الله عليهم العذاب صبّاً. وفي كلمة (فصب) دلالة على شدة العذاب الذي وقع عليهم وفي كلمة ( xسوط ) دلالة على الألم اللاذع.
وفي قوله تعالى: (إن ربك لبالمرصاد) إن الله سبحانه يسمع ويرى ويرصد خلقه فيما يعملون ويجازي وفق ميزان دقيق لا يخطئ ولا يظلم. وفي قوله تعالى: (ربك) توحي كذلك بالطمأنينة للمؤمنين، وأن الأمر يبقى بيد الله الذي لا يغيب عنه ظلم ولا يغفل عما يرتكبه الظالمون.
إن ذكر الله تعالى لعاد وثمود وفرعون، ذكر للأقوام السابقة والأمم الخالية. وما حل بهم كان نتيجة ظلمهم وطغيانهم وإظهار فسادهم. وهو أيضاً ذكر ليعتبر منه المؤمنون ويستخلصوا منه العبر وليكون لهم طمأنينةً وسلوةً. وليعلموا أن مصيرهم ومصير الظالمين، في كل زمان ومكان، بيد الله. وأن الظالمين مهما علوا في الأرض وتجبروا فلن يفلتوا من أمر الله في الدنيا قبل الآخرة. وأن المؤمنين مهما ابتلوا وفتنوا وذلوا، فإن العاقبة لهم في الدنيا قبل الآخرة، ما تمسكوا بدين الله واعتصموا به. ويظهر ذلك كله من قوله تعالى: ( ألم تر) ومن قوله: (إن ربك لبالمرصاد) ففي هذين القولين يتأكد المؤمن أنها سنة الله في الدعوات. وهي سنة ماضية إلى يوم القيامة لا تتوقف ولا تتغير ولا تتخلف، وتطالنا كما طالت من سبقنا. مع فارق أن الله سبحانه كانت سنته أن يبعث العذاب من عنده على من كذب وأبى. أما اليوم فإنه مطلوب من المؤمنين. وإن أوامره تقضي بأن يقوم المؤمنون بحق الله عليهم في مواجهة الظالمين، وهو سبحانه سيعينهم وينصرهم إذا ساروا بحسب منهجه الذي وضحه لهم، بأن يقيموا دولتهم الإسلامية كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم حين أقام الدولة الإسلامية في المدينة، ومن ثم يعدّوا ما استطاعوا من قوة، ويجاهدوا أعداء الله ليعمّ الإسلام الأرض وتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى. ففارس والروم لم يبعث الله عليهم عذاباً من عنده وإنما عذبهم بالمؤمنين الذين أيّدهم بنصره وعلى الله قصد السبيل .