الأزمة المالية الاقتصادية العالمية: أزمة مبدأ ولا حل لها إلا بتطبيق النظام الإسلامي (2)
2010/02/20م
المقالات
2,204 زيارة
الأزمة المالية الاقتصادية العالمية:
أزمة مبدأ ولا حل لها إلا بتطبيق النظام الإسلامي (2)
بعد أن ذكرنا في الحلقة الأولى من هذا المقال أن الرأسمالية هي مبدأ أزمات، وأن الأزمة المالية الحالية امتازت بالشمولية والامتداد والمفاجأة، وعرضنا للأسباب المباشرة وغير المباشرة لهذه الأزمة. نعرض في هذه الحلقة الأدوات التي يعتمد عليها النظام الرأسمالي للسيطرة على الاقتصاد العالمي، ثم موقف الإسلام من أساسات النظام الرأسمالي والبديل الذي يقدمه: عقيدة المبدأ، ملكية الثروة وتوزيعها في الإسلام، السياسة الاقتصادية في الإسلام والمعالجة المباشرة، ثم موقف الإسلام من نظام الربا في البنوك والمصارف وكذا الأسواق المالية والمضاربات.
أدوات النظام الرأسمالي للسيطرة على الاقتصاد العالمي
1- النقود الورقية الإلزامية:
عندما كان النظام النقدي العالمي يعتمد على الذهب والفضة لم تكن هناك مشكلة في الأسعار لثبات قيمة النقود على المدى الطويل، فكانت النقود تقوم بوظيفتها كمقياس للتبادل ومخزون للقيمة ومقياس للمنفعة، وكان النقد ينتج نقداً بوسيط وهو الإنتاج فكانت القاعدة (نقود-بضاعة-نقود). ولكن لطبيعة النظام الرأسمالي فالنقود المغطاة تغطية كاملة أو بوزن معين من الذهب لم تكفِ لأن الرأسمالي ينفق عادة أكثر مما يملك، فأحدث فكرة طباعة نقود بلا غطاء. فأثناء الحرب العالمية الأولى احتاجت الدول الغربية الرأسمالية لأموال ضخمة تموّْل بها الحرب، فطبعت عملات ورقية بلا غطاء، وأخذت تكذب على العالم بإعطائهم ورقاً فاقداً لقيمته كنقد مغطّى، وعندما انكشف ذلك للعالم تدهورت عملات هذه الدول سيما ألمانيا وبريطانيا وفرنسا، وعندما دخلت أميركا في الحرب العالمية الثانية كانت تملك أكبر احتياطي من الذهب في العالم، فاستغلت الوضع العالمي وجمعت الدول الرأسمالية في بريتون وودز وعقدت معهم اتفاقية في 1994م، وجعلت بموجبه الدولار شريكاً للذهب، والتزمت بان كل من يملك 35 دولاراً تعطيه أوقية ذهب باعتبار أن الذهب مكدس عندها، ولكن أميركا لم تكن أحسن من الدول الأوروبية، فعندما دخلت في حرب الفيتنام طبعت نقوداً بلا غطاء وتسرب ذهباً إلى العالم من قبل الشركات وغيرها، وفي 15/08/1971م أصدر نيكسون قراره بنقض اتفاقية بريتون وودز وعد التزام أميركا بتبديل الدولار بالذهب. وانتقل العالم بعد ذالك إلى مرحلة جديدة وهي هيمنة الدولار، لأن الدول كانت تخزن الدولار باعتباره ذهباً.
إن الأصل في الكتلة النقدية أن تغطى بالإنتاج الحقيقي لدى أية دولة، وعندما يتم طبع أي نقود بلا غطاء يجعلها تدخل في دورة الاقتصاد بزيادة الكتلة النقدية وذلك يؤدي إلى انخفاض قيمة العملة. ولولا أن الدولار يحتفظ به كمدخرات “عملة صعبة” في البنوك المركزية للدول الأخرى، ما يجعلها تدعمه إذا انخفض، ولولا المؤامرات والمناورات السياسية والاقتصادية التي ترتبها أميركا من خلال هذه الأداة “الدولار” لانهار هذا الأخير منذ زمن. وفي الأزمة المالية العالمية الراهنة تطالب الكثير من الدول بعملة مرجعية بديلة للدولار هي الذهب، لأن أية هزة تصيب الاقتصاد الأميركي تنتقل تلقائياً إلى كل دول العالم.
2 – المؤسسات الدولية (صندوق النقد الدولي كنموذج):
في عام 1944م اجتمعت الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية في بريتون وودز الأميركية لعقد أول اتفاقية نقدية عالمية، وأنشأت بموجب هذه الاتفاقية مؤسسة صندوق النقد الدولي للإشراف على تنفيذ الاتفاقية بمهمتين رئيسيتين هما:
أ- تثبيت سعر الصرف؛ وذلك بأن تعلن كل دولة منتسبة إلى الصندوق عن سعر صرف ثابت لعملتها المحلية، مع التزام كل دولة بسعر الصرف المعلن عن طريق تدخل مصرفها المركزي مباشرة.
ب- منح قروض قصيرة الأجل للدول الأعضاء؛ وهذه المهمة التي أُوكلت للصندوق جعلته يتدخل في الشؤون الاقتصادية للدول الأعضاء (غير الاستعمارية) ومن ثم الهيمنة الأميركية على اقتصاداتها، وذلك من خلال إيقاع الدول في مصيدة الديون بالتعاون مع البنك الدولي للإنشاء والتعمير، وهي قروض ذات فوائد مركبة. إذاً ما يقوم به الصندوق تجاه الدول المقترضة أقل ما يقال عنه إنه سياسة إفقار الشعوب. وللتوضيح أكثر نسلط الضوء على الشروط التي يفرضها هذا الصندوق على الدولة التي تريد الحصول على قروض:
1- قيام الدولة الطّالبة للقرض بتخفيض سعر عملتها (رغم أن الأساس الذي قام عليه الصندوق هو تثبيت سعر الصرف).
2- إلغاء مختلف أشكال الحماية الجمركية للمنتوجات المحلية لأنها تؤدي حسب وجهة نظر الصندوق إلى غياب المنافسة الدولية، وبالتالي انخفاض إنتاجية العمل في الدول الفقيرة.
3- إعطاء الحرية الكاملة لدخول رؤوس الأموال الأجنبية إلى الدول الفقيرة؛ من أجل تمويل الاستثمارات فيها ونقل التكنولوجيا إليها.
4- إلغاء الدعم عن جميع أسعار السلع الغذائية والمواد الضرورية؛ لأن سياسة الدعم على حد زعم الصندوق لا تساعد على تنمية الناتج المحلي الإجمالي من هذه السلع.
5- اتباع سياسة التقشف في النفقات الحكومية مثل التعليم والتطبيب والإنفاق على البنى الأساسية.
6- تجميد الأجور والحد من العمالة الحكومية.
7- رفع الرقابة على الأسعار.
يلاحظ أن هذه الوصفة العلاجية المزعومة لا تعدو كونها سياسة إفقار متعمدة لا تستطيع الدولة المقترِضَة الفكاك منها لعقود، وبخاصة وأن القرض يكون بربا حيث يصل مع الزمن حداً يفوق رأس المال.
3- سياسات السوق -الخصخصة- العولمة:
إن سياسات السوق تطبيق لحرية التملك المنبثقة عن عقيدة المبدأ الرأسمالي ولكن بشكل دولي، وهي تكون بتمكين الرأسماليين من حرية التملك عن طريق العلاقات التجارية بين الدول. وسياسة ذلك إنهاء تدخل الدولة في التجارة بوجه خاص وفي الاقتصاد بوجه عام.
والذي لا يخفى أن الدول الرأسمالية تهدف بسياسات السوق فتح سائر أسواق العالم أمام منتجاتها المتفوقة، وأمام استثماراتها، لكي تظل الدول النامية تحت سيطرتها التجارية والاقتصادية، وبه تحول دون بنائها اقتصادها على أسس متينة تؤدي لتحريرها من التبعية الاقتصادية للدول الغنية.
أما الخصخصة؛ وهي تحويل المصانع والمؤسسات والمنشآت والمرافق الاقتصادية من ملكية الدولة أو الملكية العامة إلى الملكية الخاصة، فهذه الأداة قد كانت لها آثار خطرة تُضم إلى قائمة الفشل الرأسمالي أذكر منها:
أ- حرمان عامة الناس من حقهم في الاستفادة من الملكيات العامة مثل الماء والنفط.
ب- تركز الثروات بكل أنواعها بأيدي قلة قليلة من الأفراد أو الشركات، وحرمان الأغلبية من الناس من الاستفادة من هذه الثروات.
ج- اقتران الخصخصة في البلاد الإسلامية بفتح الباب أمام المستثمرين الرأسماليين يعني وقوع البلاد تحت الاستعمار.
أما العولمة فهي إفراز آخر للنظام الرأسمالي، فالعولمة هي الناتج الأساسي لعمليات التحرير المالي والتحول إلى ما يسمى بالاندماج المالي، ما أدى إلى ارتباط الأسواق المالية المحلية بالعالم الخارجي من خلال إلغاء القيود على حركة رؤوس الأموال. فهي انفتاح إجباري فرضته الدول الرأسمالية الكبرى لتكون المستفيد الأول والأكبر من هذه الظاهرة على حساب باقي الدول النامية. ويمكن تلخيص أهم مخاطر العولمة المالية على البلدان النامية فيما يلي:
1- المخاطر الناجمة عن التقلبات الفجائية لرأس المال: حيث تتميز الأسواق المالية الدولية بالتذبذب وعدم الثبات، ما يؤدي إلى انهيارها لعدم تناظر المعلومات بين مختلف المتعاملين. كما أن قرارات المستثمرين في السوق المالي جد حساسة تجاه الأحداث الجارية في الأجل القصير، وبالتالي إذا ما حدثت أزمة ثقة في سوق ما في بلد ما يتم تصفية استثماراتهم على نحو واسع والخروج بها من ذلك البلد، وإذا ما استرجع السوق الثقة تعود الأموال بشكل واسع. وهذا الدخول لرأس المال الأجنبي الواسع والمفاجئ يحدث آثاراً وانعكاسات سلبية على استقرار الاقتصاد في البلد.
2- مخاطر تعرض البنوك للأزمات: حيث تشير الدراسات إلى أنه خلال الفترة 1980م-1996م وهي الفترة التي تعاظمت فيها قوة دفع العولمة المالية حدثت هناك أزمات في الجهاز المصرفي فيما لا يقل عن ثلث الدول الأعضاء في صندوق النقد الدولي. ورغم أسباب أزمات البنوك إلا أن الأزمات المعاصرة للبنوك أثبتت صلتها الواسعة بالعولمة.
3- المضاربات في أسواق المال: حيث يحقق المضاربون في أسواق المال أرباح خيالية ليس في إمكان قطاعات الإنتاج الحقيقي تحقيقها، وذلك باستغلال الثغرات القانونية التي وفرها التحرير المالي المحلي والدولي، أي بسبب العولمة.
4- مخاطر دخول الأموال القذرة (غسيل الأموال): إن إلغاء الرقابة على الصرف وحرية دخول وخروج الأموال عبر الحدود، فتحت أمام المستثمرين الأجانب قنوات إضافية لغسيل الأموال القذرة (إخفاء المصدر غير الشرعي لتلك الأموال، كأرباح الاتجار في المخدرات مثلاً).
5- انتقال عدوى الأزمات المالية: حيث ما حدث في الأزمة المالية الراهنة يعود أساساً لعولمة الأسواق، فلولا العولمة وارتباط الاقتصاد الأميركي بالاقتصاد العالمي لما أصبحت أزمة الرهن العقاري الأميركية أزمة عالمية.
4- البورصات والأسواق المالية:
الأساس في إنشاء البورصات هي شركات المساهمة الرأسمالية والبنوك، فطبيعة شركات المساهمة تؤدي إلى انفصام أسواق الأسهم والأوراق المالية الأخرى عن الاقتصاد الحقيقي، أي عن واقع الشركات التي يتداول بأسهمها. فقد أصبحت قيمة السهم لا تحدد بناء على موجودات أو أرباح الشركات بمعنى آخر أنها لا تحدد بقيمة مرجعية، بل بناء على العرض والطلب لأسهم الشركة والمضاربات، وهذا يدل على انفصام العلاقة بين واقع الشركة الاقتصادي الفعلي وبين الأسواق المالية، وإلى صيرورة سوق الأسهم سوقاً كبيراً للقمار.
وكذلك فإن النظام المعمول به في البورصات والأسواق المالية، من بيع وشراء للأسهم والسندات والبضائع دونما شرط التقابض بل تشترى عدة مرات، دون انتقالها لبائعها الأصلي، كل ذلك يشجع المضاربات والأزمات في الأسواق المالية.
من خلال ما تم التطرق إليه حول أسس وإفرازات النظام الرأسمالي وحول أهداف المجتمع الدولي وهي: القضاء على الفقر، والتنمية المستدامة، والعدالة في توزيع الفرص والدخول، والحياة في بيئة نظيفة؛ نجد الفشل الذريع فيها كلها: فزيادة الفقر، وتنمية متذبذبة ولبلاد معينة (الكبار فقط)، وظلم في توزيع الفرص والدخول، وإزالة طبقات وهيمنة طبقة واحدة على الثروات. أما البيئة النظيفة فحَدِّث ولا حرج بعد التلوث الكبير الذي سببته الدول الرأسمالية “الكبرى” كالاحتباس الحراري، ومع ذلك فقد كانت هذه الدول أول من لا يتقيد باتفاقات حماية البيئة.
موقف الإسلام من أساسات النظام الرأسمالي والبديل الذي يقدمه:
إذا كان النظام الرأسمالي من وضع البشر، فهو يخضع لأهوائهم وآرائهم، لذا فآثاره كانت سلبية ووخيمة على أغلبية البشر، لاسيما انتشار الفقر والمجاعة والحروب، فعلى العكس فإن النظام الإسلامي بشريعته التي جاءت من عند خالق البشر العليم الخبير بما خلق وما يصلح لهم، فإنه الحق والمنهج السليم لهم في هذه الحياة بكل جوانبها. وتطبيق النظام الاقتصادي الإسلامي كما أَمَرَتْ به الشريعة الإسلامية يخلصنا من آثار الاقتصاد الوضعي الذي أثبت ويثبت فشله وتناقضه مع مبدأ تكريم الله للإنسان وخلافته وتمكينه في الأرض، وبذلك فهو الأصيل وليس البديل. وفيما يلي نحاول إيجاز موقف الإسلام من أساسات النظام الرأسمالي وبالتالي النظام الأصيل الذي يقدمه للإنسان بما يوافق فطرته ويعالجها معالجة صحيحة متوازنة ومتكاملة.
أولاً- عقيدة المبدأ (النظام الإسلامي): الله هو خالق الوجود، وهو الحاكم على الأفعال، ومُشَّرِع نظام الحياة بما فيه النظام الاقتصادي للبشرية، لأن النظام الاقتصادي الإسلامي قد رسمه الله سبحانه لمخلوقاته وهو العليم الخبير بشؤونهم حيث يقول عزّ وجلّ: (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الملك 14]. بينما عقيدة المبدأ الرأسمالي قائمة عن فصل الدين عن الحياة، وذلك يعني أن المشرِّع هو الإنسان من مفكرين وساسة، ليتم سن النظم والقوانين وفق وجهات نظرهم المحدودة في هذه الحياة وفي حدود العقل، وهذا لا يقول به عاقل، والنظرة النفعية المادية كانت خطرة على أهلها فضلا عمّن وقع عليه الاستغلال.
ثانياً- ملكية الثروة وتوزيعها في الإسلام:
الملكية في الإسلام ثلاثة أصناف: ملكية فردية، وملكية عامة، وملكية دولة، والدولة هي التي تصون هذه الملكيات الثلاث، وتحافظ عليها وفق الأحكام الشرعية:
الملكية العامة: تشمل المناجم الصلبة والسائلة والغازية، كالبترول، والحديد والنحاس والذهب والغاز وكل ما في باطن الأرض، والطاقة بكل صورها، والمصانع الكبرى التي تكون فيها الطاقة عنصرًا أساسًا فيجب أن تتولى الدولة استخراجها وتوزيعها على الناس عيناً وخدمات.
ملكية الدولة: وهي ما تأخذه الدولة من ضرائب بأنواعها، وما تنشئه من تجارة وصناعة وزراعة في غير الملكية العامة، وهذه تنفقه الدولة على مرافق الدولة والبنى التحتية.
الملكية الخاصة: وهي ما كان مصرفها منوطاً بالأفراد في غير الملكية العامة ويكون وفق الأحكام الشرعية، وهي مصونة تمنع الدولة الاعتداء عليها، ولا يجوز لأحد أن يأخذها غصباً.
إن المشكلة الاقتصادية في النظام الإسلامي هي توزيع الثروة بين الأفراد، لذلك تجد الأحكام الشرعية قد تضمنت توفير إشباع الحاجات الأساسية إشباعاً كلياً لكل فرد من أفراد رعية الدولة الإسلامية، من مأكل وملبس ومسكن، حيث قال تعالى: (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) [البقرة 233]. وقال عز وجل: (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ) [الطلاق 6]. وعليه فالحاجات التي يعتبر عدم إشباعها فقراً هي الطعام والكسوة والمسكن، أما ما عداها فيصنف ضمن الحاجات الكمالية ولا يعتبر عدم إشباعها فقراً. ولقد عولجت مشكلة الفقر في الإسلام، والتي سببها سوء التوزيع للثروة عن طريق المعالجة المباشرة وعن طريق السياسة الاقتصادية.
المعالجة المباشرة:
وهي من جانبين، الجانب الأول: فيما يتعلق بالفرد نفسه، حيث حث الإسلام الفرد على الكسب وعلى طلب الرزق، بل جعل السعي في طلب الرزق فرضاً على الرجل القادر، حيث يقول الله تعالى: (فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ) [الملك 15].
الجانب الثاني: فقد جعل الشرع إعانة الفقير على غيره، حتى يتوفر له ما يشبع هذه الحاجات الأساسية، وقد فصلها على النحو التالي:
أ- أوجبها على الأقارب الذين يكونون رحماً محرماً له، قال تعالى: (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ) [البقرة 233]، أي على الوارث مثل المولود له من حيث الرزق والكسوة.
ب- إن لم يكن له أقارب ممن أوجب الله عليهم نفقة قريبهم انتقلت إلى بيت المال في باب الزكاة.
ج- إن لم يفِ قسم الزكاة من بيت المال في حاجات الفقراء والمساكين كان واجبا على الدولة أن تنفق عليهم من أبواب أخرى من بيت المال، حيث قال الرسول عليه الصلاة والسلام: «… وَالإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ…» (البخاري عن ابن عمر).
د- إن لم يوجد في بيت المال مال يجب على الدولة أن تفرض ضريبة على أموال الأغنياء وتحصلها لتنفق على الفقراء والمساكين منها، فسدّ حاجات الفقراء فرض على جميع المسلمين، قال (صلى الله عليه وآله وسلم): «… وَأَيُّمَا أَهْلُ عَرْصَةٍ أَصْبَحَ فِيهِمْ امْرُؤٌ جَائِعٌ فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُمْ ذِمَّةُ اللَّهِ تَعَالَى» (رواه أحمد عن ابن عمر).
السياسة الاقتصادية في الإسلام:
سياسة الاقتصاد هي الهدف الذي ترمي إليه الأحكام التي تعالج تدبير أمور الإنسان، وسياسة الاقتصاد في الإسلام هي ضمان إشباع جميع الحاجات الأساسية لجميع الأفراد إشباعاً كلياً، مع تمكين الأفراد من إشباع حاجاتهم الكمالية. فالإسلام في الوقت الذي يُشًّرع أحكام الاقتصاد للإنسان يجعل التشريع موجهاً للفرد. وفي الوقت الذي يعمل لضمان حق العيش، والتمكين من الرفاهية، يجعل ذلك يتحقق في مجتمع معين، له طراز خاص من العيش.وعلى هذا فإن سياسة الاقتصاد في الإسلام ليست لرفع مستوى المعيشة للأفراد أو للتنمية فحسب، دون النظر إلى ضمان انتفاع كل فرد من هذه التنمية.
وهناك آيات كثيرة تدل دلالة واضحة على أن الأحكام الشرعية المتعلقة بالاقتصاد تهدف إلى كسب المال، والتمتع بالطيبات وفق الأحكام الشرعية. فالإسلام حث الأفراد على الكسب، وأمرهم بالانتفاع بالثروة التي يكسبونها، وذلك لتحقيق التقدم الاقتصادي للبلاد.
ثالثاً- نظام الربا في البنوك والمصارف:
حرم الإسلام الربا تحريماً باتاً مهما كانت نسبته قليلة أو كثيرة، فقد وصف الله آكلي الربا كمن يتخبطه الشيطان من المس حيث يقول عزّ وجلّ: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) [البقرة 275] فالإسلام يجيز المتاجرة بالمال وليس في المال، حيث حرم الإسلام بيع النقود بالنقود ذاتها مع زيادة، وحرم كنـز المال واحتكاره حيث يقول المولى عزّ وجلّ: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) [التوبة 34]. كما نهى عن حصر تداول المال بين فئة قليلة من الناس. حيث يقول الله سبحانه وتعالى: (كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ) [الحشر 7].
ولكن الأنظمة الوضعية وعلى رأسها النظام الرأسمالي قامت بتحويل المال إلى التداول بين عدد محدود من رجال الأعمال وعدد محدود من المصارف والشركات العملاقة والبورصات، فأصبح التداول بالمليارات محصوراً بين قلة من المؤسسات الكبيرة، فخرجت بذلك عن سنن الله.
والإسلام حل مشكلة الحاجة إلى المال على مستوى الأفراد وعلى مستوى الشركات، فقد رغب الإسلام بالإقراض ولكن دون منفعة أو فائدة لأنها ربا وهي محرمة، ونصوص كثيرة في القرآن تحث على أن يكون المرء في عون أخيه وأن يفرج كُرِبَتَهُ.
وفي بيت مال المسلمين ديوان يسمى ديوان الفيء والخراج، تستطيع الدولة أن تقرض منه من تشاء لإقامة المشاريع أو تأسيس الشركات أو التجارة وكل هذا دون ربا.
رابعاً- الأسواق المالية والمضاربات:
في الشريعة الإسلامية لا يجوز بيع السلع قبل أن يحوزها المشتري، فحرم الإسلام بيع ما لا يملك الإنسان، وحرم تداول الأوراق المالية والسندات والأسهم الناتجة عن العقود الباطلة، وحرم وسائل النصب والاحتيال التي تبيحها الرأسمالية بدعوى حرية الملكية.
وبدلاً من ذلك فالإسلام أباح البيع والشراء، ولكنه اشترط حدوث التقابض والتسليم، وبذلك يحافظ الإسلام على الاقتصاد ليبقى حقيقياً، ولا يتحول إلى اقتصاد وهمي.
أما بالنسبة لنظام النقد الورقي الإلزامي فقد كان النظام المعدني هو النظام السائد من قديم الزمان قبل الإسلام، ولما جاء الإسلام أقرّ الرسول عليه الصلاة والسلام التعامل بالدنانير والدراهم، أي بالنظام المعدني، وجعلهما وحدهما المقياس النقدي الذي تقاس به أثمان السلع وأُجْرَة الجهود والخدمات.
فالإسلام قد نص على أن يكون الذهب والفضة هما النقد لا غير، وأن الأوراق النائبة يجب أن تكون مغطاة بالذهب والفضة بكامل القيمة وتستبدل حال الطلب. وبذلك لا يتحكم نقد ورقي لأية دولة بالدول الأخرى، بل يكون للنقد قيمة ذاتية ثابتة لا تتغير.
وفي ختام هذا الطرح يمكن القول إنه على الرغم من كل المآسي والأزمات التي سببها النظام الرأسمالي إلا أن الغرب يتقن الدعاية لمنجزاته، ونمط عيشه، وأنظمته المتعددة، فيبدو لها بريق أكثر مما هي عليه فعلاً، فتكون النتيجة المزيد من انبهار الناس بحضارته وأنظمته، فيغدو التقليد الأعمى سمة المُنْبَهِرِين، فيظنون أنّ هذا النظام لا مثيل له، ولا بديل عنه، فتضيع الهوية، ويغيب الموقف الواضح. ولو تدبر هؤلاء المُنْبَهرون واقع الرأسمالية لرأوها فاشلة منذ زمن مضى وليس منذ تفجر الأزمة الاقتصادية الحالية فحسب، ولرأوا أن أسس النظام الرأسمالي قد نخر فيها السوس منذ نُشوئِها.
فالنظام الرأسمالي يحمل في أحشائه أسباب فشله، وبخاصة عندما يتعرض للأزمات، حيث تنهار أسسه، وتتدخل الدول في هذه الأسس التي هي في أصل تكوينها تتعارض كلياً مع تدخل الدول، فالنظام الرأسمالي يتبنى اقتصاد السوق، أو الاقتصاد الحر، والنظرية الكلاسيكية له ترفض تدخل الدولة، وتقول باليد الخفية والتوازن التلقائي للاقتصاد. ولم يواجه ذلك التدخل بالرفض، بل باركه علماء الغرب لأن فيه حسب قناعاتهم إنقاذاً من أزمة قاتلة، وبدلاً من أن يقولوا عن الرأسمالية فشلت في معالجة المشكلة الاقتصادية، ففي نظرهم هذا أصلح الموجود. أما سبب ذلك فأنهم جهلوا أو تجاهلوا النظام الاقتصادي الإسلامي، وقارنوا الرأسمالية التي على وشك الانهيار بالنظام الاقتصادي الشيوعي الذي انهار، فاختاروا ترقيع الرأسمالية.
فالمبادئ التي تقوم عليها الدول لا تنهار بمجرد الفشل، بل تزول إذا تخلى عنها أصحابها، أو إذا أطاحت بها دولة أخرى. فعلماء الغرب أدركوا فساد نظامهم ولكنهم يكابرون ويصرون على رأسماليتهم. فلا يُتوقع من الغرب أن يترك الرأسمالية ليعتنق الإسلام، وإن كان يرى فيه الحل، فكل الإصلاحات التي ينادي بها الغرب إنما تدور حول تقنين الرأسمالية ووضع المزيد من الرقابة والقيود.
وعليه فإن الأزمة المالية والاقتصادية الحالية هي أزمة مبدأ؛ لأنَّ تشريع البشر باطل من الأساس، لقوله تعالى: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) [يوسف 40]، والحكم هنا بمعنى التشريع، أي الأمر والنهي والإباحة.
وأخيراً نخلص إلى أن النظام الاقتصادي الإسلامي العريق الذي تضرب جذوره في أعماق التاريخ، يكفل الحياة الكريمة للناس كافة، المسلم وغير المسلم، ما داموا يعيشون في ظل الدولة الإسلامية، التي تحفظ أمنهم وعيشهم مهما اختلفت أجناسهم وأديانهم وأعراقهم، وهو النظام الذي عمّر في الأرض فوق أي نظام آخر، وكان الناس ينعمون بحياة اقتصادية خالية من الأزمات، وقد حدث خلالها أن كان يُبحث عن العثور على فقير ليعطوه ما يستحقه من بيت مال المسلمين، ومع ذلك لم يجدوه.
[انتهى]
2010-02-20