تحولات جوهرية في الدول الكبرى: إلى أين يتجه العالم اليوم؟
2010/04/20م
المقالات
2,516 زيارة
تحولات جوهرية في الدول الكبرى: إلى أين يتجه العالم اليوم؟
عصام الشيخ غانم
إن متابعة الشؤون الدولية لا يجب أن تكون بحال من أجل الترف أو للعلم فقط، وإن كانت المتابعة حتى بهذا المستوى عمل غير مذموم ويحتاج إليه الأكاديميون من أجل الاطلاع والتعلم. ولكن المتابعة المنتجة هي تلك التي يكون الهدف منها الاستمرار في مراقبة أحوال الدول حول العالم، وما يعتريها من ضعف أو قوة من أجل هدف معين عند المتابع يقصد به خدمة أمته والنظر في الفرص التي تتاح لأمته على الساحة الدولية لتحقيق أهدافها أو مصالحها.
ولا غنى أبداً لأي دولة أو أمة عن متابعة الشؤون السياسية الدولية، والأمة التي تعجز عن اكتشاف التطورات الحاصلة تعجز بشكل طبيعي عن درء المخاطر المحيطة بها، ناهيك عن أنها تفقد القدرة على اغتنام الفرص، بل وربما تقع فريسة لغيرها من الأمم والدول ما يزيد في وهنها ويسرع في سقوطها.
وإذا كان الله تعالى قد أودع سننه في كل ما خلقه، فإن سنن الله تعالى فاعلة لا بد في العلاقات الدولية، ومن أهم السنن الجديرة بالمراقبة فيما يتعلق بالعلاقات الدولية هي الأسباب الموجبة لهرم الدول. فالأمم باقية إلى يوم القيامة، ولكن تتداولها دول كثيرة، فمثلاً تداولت الشعب الروسي دولة القياصرة والدولة السوفياتية ودولة روسيا الاتحادية حالياً، وكل من هذه الدول تختلف عن الأخرى. وتداولت الأمة الإسلامية الدولة التي أقامها الرسول عليه الصلاة والسلام، ثم دولة الخلفاء الراشدين، ثم دولة الأمويين، وبعدها دولة العباسيين فالعثمانيين فدول الاستعمار الغربي وأخيراً دول الكرتون القائمة حالياً.
وإذا كانت مسألة إقامة دولة للإسلام هي أهم القضايا الإسلامية المعاصرة، فإن النظر في العلاقات الدولية يجب أن يلاحظ أثر تطور تلك العلاقات في تيسير إقامة دولة الإسلام أو زيادتها صعوبة، مع الجزم بأن أسباب إقامة الدولة الأساسية هي أسباب محلية لا دولية، وأن العلاقات الدولية تؤثر في ذلك بشكل جانبي وغير مباشر. وعلى أي حال فإن مسألة النظر في العلاقات الدولية تبقى مسألةً لا بد منها من أجل التحذير من مخططات الدول الاستعمارية ضد المسلمين على الأقل.
والناظر في وضع الدول الكبرى التي تشكل الموقف الدولي يجد أن أموراً كثيرة قد طرأت عليها في السنوات القليلة الماضية، وأن عوامل نراها الآن لا بد أنها فاعلة فعلها في بعض الدول، وأن آثارها ستظهر قريباً في السنوات القليلة القادمة. وفي المجمل يجد المتابع أن العلاقات الدولية تتجه نحو تعدد الأقطاب الدولية بشكل حقيقي.
والمتابع للشؤون الدولية يصادف حقيقة تترسخ يوماً بعد يوم ويكثر ذكرها في التحليلات، وهي أن الحضارة قد استقر توجهها خلال العقد الفائت باتجاه آسيا، ولعل هذا هو أعظم التطورات الدولية الحقيقية بعد الحرب العالمية الثانية. وهذه الحقيقة يمكن الاشارة اليها بالحقائق التالية والتي أصبحت من ثوابت النظر في التطورات الدولية:
أولاً: تآكل عظمة الولايات المتحدة الأميركية:
على الرغم من أن الولايات المتحدة هي أكثر الأمم والدول الغربية حيويةًً من الناحية السياسية والاقتصادية والتأثير الدولي، إلا أن الكثير من الضعف قد اعتراها في الفترة الأخيرة الماضية. فقد أدى التوجه الأميركي للتفرد بالموقف الدولي إلى إيجاد الكثير من الأعداء للولايات المتحدة على الساحة الدولية، وأصبحت كل الدول الكبرى تقريباً تعمل ضد السياسة الأميركية ما أضعف الموقف الأميركي. وقد كان الاحتلال الأميركي للعراق هو المسألة الأهم التي جرّت الولايات المتحدة نحو النزول عن سلم العظمة والتفرد، وإذا كانت أفغانستان لا تزال تحمل الولايات المتحدة نحو الأسفل مما يزيد في طمع الدول الكبرى الأخرى بها، إلا أن الأزمة المالية العالمية قد سددت رصاصة من العيار الثقيل لموقع الولايات المتحدة الدولي فأصبحت تدافع عن سياستها أمام هجوم الدول الأخرى التي اكتوت بنار الرأسمالية الأميركية. وإجمالاً فإن ما يلاحظه البعض من وهن الرئيس أوباما قياساً بالرئيس بوش على الساحة الدولية يعبر تعبيرأً حقيقياً عن الدرجة التي نزلتها الولايات المتحدة دولياً، وإن هالة العظمة الأميركية لا تزال تلقي بظلال من الرعب على كثيرين حول العالم.
ثانياً: عجز الدول الأوروبية
إن وصف الدول الأوروبية الكبرى بل والقارة جميعها بالعجوز قد غدا وصفاً ملموساً اليوم، فهذه الدول يلاحظ عجزها عن القيام بعمل حاسم على الصعيد الدولي. ولعل هذه الدول التي رأت الآثار الإيجابية في الالتصاق بالولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية في منع الأخطار الاشتراكية القادمة من موسكو لا تزال تنظر للولايات المتحد باعتبارها المعين القادم لصد الأخطار الاسلامية القريبة الوقوع. ولعل ما يسمع في أوروبا من حرب على الحجاب والنقاب ومنع للمآذن ومسألة الرسوم والضجة الشعبية التي واكبت هذه المسائل لتدل وبشكل حقيقي مكتمل الصورة بأن مسألة الخوف من الإسلام قد أخذت تسيطر على أوروبا، وأن هذا الاعتبار هو من الاعتبارات الرئيسية التي تقوي استمرار استناد أوروبا للقوة الأميركية وتمنعها من الانسلاخ عن السياسة الأميركية.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن علامات الهرم قوية على الساحة الأوروبية، فقلة المواليد وقلة الشباب تفرض تراجعاً فعلياً مستمراً للقوة الأوروبية في السياسة والأقتصاد وتهدد مستقبل القارة بشكل استراتيجي، وأن أوروبا قد صارت تنشغل أكثر بصد التأثير الخارجي عنها، أي أنها تعتبر نفسها تحت التهديد، الأمر الذي يقود عجلة التأثير الأوروبي في الخارج نحو الهبوط. فالهجرة و(الإرهاب) و(التطرف الإسلامي) وغزو السلع الصينية والحاجة للطاقة من روسيا والبلدان العربية ترهق التفكير الأوروبي بما يكتنف هذه القضايا من مخاطر، فالحياة الأوروبية لم تعد مستقرة كما كانت على القارة العجوز، ناهيك عن أن ما أصابها من الأزمة المالية لم يقل إرهاقاً لها عن الولايات المتحدة. وإذا كانت الأزمة المالية قد حطت من مكانة الدولار، وكان الكثير من الخبراء الذين تسيطر عليهم النظرة التقليدية يرون في ذلك مكاسب للاقتصاد الأوروبي ولليورو، إلا أن الحقيقة التي أفرزتها التطورات الاقتصادية الأخيرة تشير إلى مجموعة من الدول الناشئة مثل البرازيل والصين وروسيا والهند، وإلى عملات أخرى كاليوان والين وربما الروبل الروسي وليس فقط إلى اليورو.
وبالمجمل فإن تأثير الدول الأوروبية بفعل تآكل العظمة الأميركية لم يتصاعد دولياً كما كان متوقعاً، فبريطانيا وفرنسا تتآكل عظمتها تماماً كالولايات المتحدة، وأما ألمانيا فإن توجهاً مستقلاً لها لم يلاحظ بشكل حاسم، بل إن مكانة الاقتصاد الألماني قد نزلت للمرتبة الرابعة لتحل محلها الصين في الدرجة الثالثة.
ثالثاً: مكانة روسيا الدولية
وإذا كان الحديث عن هرم أوروبا له واقع ملموس فإن هرم الدولة في روسيا أشد وقعاً، فالانتعاش الذي بدا على السياسة الروسية بعد غرق أميركا في العراق لم يكن ناجماً عن عوامل قوة داخلية ذاتية في روسيا، فارتفاع أسعار النفط والغاز خلال السنوات السابقة هو الذي حمل روسيا على تنفس الصعداء والسيطرة على المتاعب الداخلية التي ورثتها روسيا الحديثة عن الدولة الاشتراكية. وعندما انخفض سعر الروبل تحت وقع الأزمة المالية العالمية فقد وقفت روسيا على أبواب الرجوع لعهد المتاعب الداخلية. وإذا كانت روسيا قد خاضت حرباً في جورجيا لاثبات عظمتها دولياً إلا أن ذلك لم يكن حاسماً، واستمرت المصالح الروسية بالاستنزاف في الفضاء السوفياتي القديم. وعلى الرغم من ارتفاع مكانة روسيا دولياً بعد تلك الحرب إلا أن ذلك كان ارتفاعاً محدوداً وفيه قابلية عالية للانتكاس بما كشفته تلك الحرب من قدرات عسكرية واهية للجيش الروسي. وإذا كانت روسيا لا تزال هي القوة النووية الثانية بعد الولايات المتحدة، إلا أنها ليست أبداً القوة الدولية الثانية بعد أميركا، بل وتهدد الصين باحتلال مكانها عسكرياً، وذلك أن القوات الروسية التقليدية قد صارت ضعيفةً بشكل لافت وتحتاج لفرنسا و(إسرائيل) لشراء المعدات الحربية، وانتكست مكانة روسيا الفضائية بعد أن كانت في الدرجة الأولى. ونفقاتها العسكرية اليوم لا تمثل إلا ثلث النفقات الحربية الصينية وحوالى جزء من 15 جزء من مثيلتها الأميركية. هذا ناهيك عن خراب قطاع التصنيع الروسي، فبات الاقتصاد في روسيا يعتمد بشكل أساسي على تصدير الخامات للأسواق الصناعية.
هذا هو حال الدول الكبرى التقليدية في أوروبا وشمال أميركا، وأما في آسيا فإن الصين قد حطمت كافة الأرقام القياسية وأصبحت قوة حقيقة مرموقة على الساحة الدولية تتجه اليها أنظار الدول كافة:
كانت رحلة الدولة الصينية للصعود هذه المرة ذات طابع اقتصادي، فبقيت الدولة اشتراكية وتدير البلاد بالنظام الرأسمالي، وظل الاقتصاد الصيني يتطور، وهي بلاد الخامات والأيدي العاملة، حتى أصبحت الصين مصنع العالم بلا منافس. واندفعت سريعاً لتحتل مكان الاقتصاد الألماني مهددةً خلال سنة 2010م بدفع اليابان إلى الوراء لتقف وجهاً لوجه أمام الولايات المتحدة اقتصادياً يعززها معدل نمو عالٍ قد استفاد كثيراً من الأزمة المالية العالمية على صعيد العظمة السياسية وإن خسرت شيئاً من أرباحها في الأسواق الدولية.
ربما لا يقرأ البعض نوايا زعماء الصين عندما أصبحت تغزو الفضاء بمركبات مأهولة مثلها مثل روسيا وأميركا، أو أن البعض أهمل حقيقة أن الميزانية العسكرية للصين قد أصبحت ثاني أكبر ميزانية بعد أميركا، وربما لا يلاحظ كثيرون سرعة تمدد التطلعات الصينية في تعزيز أسطولها البحري ونيتها إقامة قاعدة عسكرية بحرية في عدن، وكذا نفوذها المتنامي في البلدان الأفريقية. وربما يتفاجأ الجميع بأن الصين قد أصبحت وسريعاً منافساً قوياً للولايات المتحدة والدول الأوروبية على حد سواء في أفريقيا، وكذلك لروسيا في آسيا الوسطى بالإمكانات الهائلة التي أصبحت الصين تمتلكها. فالعظمة الاقتصادية عند الدول المستقلة لا تنفصل عن العظمة السياسية والتأثير الدولي، ودولة الصين هي غير دول العالم الاسلامي الغنية بالنفط. ويمكن القول بكثير من الثقة بأن القادة الصينيين عازمون على تثبيت الصين كدولة ثانية على الصعيد الدولي بعد الولايات المتحدة لا سيما وأنها تمتلك الكثير من أدوات النفوذ الدولي، وإن كانت الصين تخلو من الفكر والثقافة التي تشد من عزيمة القادة للتأثير في العلاقات الدولية.
ومن التطورات المهمة على الساحة الدولية التي أفرزتها سنة 2009م كانت هزيمة الحزب الليبرالي الديمقراطي الحاكم في اليابان منذ سنة 1955م وانتصار الحزب الديمقراطي الياباني ذي التوجهات اليسارية والمنادي بفك الارتباط بالولايات المتحدة الأميركية. وإذا كانت التطورات الدولية ونزول الولايات المتحدة درجة والارتفاع المستمر للصين تعد من التغييرات الجوهرية عالمياً فإن وقع كل ذلك في اليابان هو بمنزلة الزلزال الكبير. فارتباط اليابان بالسياسة الأميركية والقيود التي كبلتها بعد الحرب العالمية الثانية كل ذلك مرهون بقوة الولايات المتحد. وصعود الصين في محيط الشرق الأقصى، وكذلك دولياً، يقض مضجع اليابان، لذلك فإن الانتخابات اليابانية كانت في حقيقتها حدثاً دولياً كبيراً يؤشر إلى توجه اليابان لبناء قوة مفصولة عن الغرب ومتحررة من قيود ما بعد الهزيمة في الحرب العالمية الأخيرة.
أما أثر كل هذه التطورات الدولية على المسلمين فلا شك أنه أثر هائل، فمن ناحية فإن تشتت الموقف الدولي في دول متعددة يتيح المجال للدولة الإسلامية في حال وجودها العمل بأريحية للتأثير الدولي. وأما قبل وجودها فإن ضعف الغرب سيؤدي إلى نوع من ضعف نفوذ الغرب في المنطقة الإسلامية، وهذا يؤدي إلى مزيد من إضعاف الحكام المحليين في العالم الاسلامي، وعندما تكتشف الأمة أو بالأدق أهل النصرة هذا الضعف فإن الانقضاض على هؤلاء الحكام سيكون أسهل، مع العلم والجزم بأن القضاء على هؤلاء الحكام هو أيضاً مسألة ممكنة حتى في أوج ارتباطهم بالغرب، وذلك يعتمد على قوة عود العاملين للتغيير وقوة مناصرة الأمة لهم، فالأمة قادرة على الإطاحة بهؤلاء الحكام تحت أي ظرف إن شاءت، وقدرتها على الإطاحة بهم في ظروف تحلل النفوذ الغربي أكبر، والله المستعان والهادي إلى سبيل النصر والعزة.
2010-04-20