شيْءٌ مِنْ فِقْهِ اللُّغَةِ (مفهوم المخالفة)
2003/01/20م
المقالات
3,237 زيارة
شيْءٌ مِنْ فِقْهِ اللُّغَةِ
(مفهوم المخالفة)
ب – مفهوم المخالفة:
هو ما يكون مدلول اللفظ في محل السكوت مخالفاً لمدلوله في محل النطق ويسمى دليل الخطاب أيضاً.
وقد اختلف في صحة الاحتجاج به ولكن الصحيح أن مفهوم المخالفة يعمل به في أربعة أمور لوجود الدليل على العمل بها، وما عداها لا يعمل بمفهوم المخالفة له.
ــــــــــ
وهذه الأمور الأربعة هي:
1 – الوصف المفهم المناسب للحكم المفيد للتعليل فإن العلة تدور مع المعلول وجوداً وعدماً.
فاستعمال الوصف المناسب المفهم للتعليل يدل على العمل بمفهوم المخالفة لأن الحكم كذلك:
مثال: “في الغنم السائمة زكاة”[a](1) فيفهم من هذا الوصف المناسب وهو السوم، للحكم وهو الزكاة أنه إذا لم يوجد هذا الوصف لا يوجد الحكم، أي أن الغنم المعلوفة لا يكون فيها زكاة.
مثال: (إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ) [الحجرات/6] فإن الوصف المفهم وهو الفاسق مناسب للحكم وهو التبين.
ومفهوم المخالفة أنه لا يجب علينا أن نتبين أو نتثبت في نبأ غير الفاسق: فإذا جاءنا عادل بخبر قبلناه وسلمنا به وأحسنا به الظن ومن هنا استنبط العلماء وجوب قبول الخبر الذي يرويه العدل الواحد.
مثال: “الثيّب أحقّ بنفسها من وليّها”[b](2).
الثيّب وصف مفهم مناسب للحكم – أحقّ بنفسها من وليها – فإذا زالت هذه الصفة زال الحكم.
مثال: “ليّ الواجد يحل عرضه وعقوبته”[c](3). أي إن مطل الغني يحل مطالبته وحبسه.
الواجد وصف مفهم مناسب للحكم – يحل عرضه وعقوبته – فإذا زال الواجد لا يطبق عليه هذا الحكم. (فسره سفيان قال عرضه أن يشكوه وعقوبته حبسه).
قال تعالى: (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ) [المائدة/1]… البهيمة من غير الأنعام لا تحل.
2 – العدد:
(اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ) [التوبة/80].
قال صلى الله عليه وسلم: “قد خيرني ربي فوالله لأزيدن على السبعين”[d](4).
فعقل أن ما زاد على السبعين بخلافه، لذلك يعمل بمفهوم العدد.
(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [النور] فالحدّ ثمانون جلدة فقط.
قال تعالى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) [النور/2] لا يصحّ الجلد أكثر ولا أقلّ من مائة جلدة.
قال تعالى: ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً) [النور/4]… لا يصحّ الجلد أكثر أو أقلّ من الثمانين.
3 – الشرط:
(فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) [النساء/101] روي عن يعلي بن أمية أنه قال لعمر: ما بالنا نقصر وقد أمنا. فقال: عجبت مما تعجبت منه فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: “صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته”[e](5) ففهم عمر رضي الله عنه العمل بمفهوم المخالفة وأقره الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك وإنما أعلمه أنها صدقة تصدق الله بها علينا فلنقبل الصدقة.
مثال: (وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنّ) [الطلاق/6] فغير ذوات الأحمال لا نفقة لهن.
(إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَك) [النساء/176] يفهم من توريث الأخت مع عدم الولد امتناع توريثها مع الابن وكذلك مع البنت لأنها ولد.
قال تعالى: (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا) [المائدة/6] إن لم تكونوا جنباً لا يجب عليكم الغسل.
قال صلى الله عليه وسلم: “إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه…”[f](6) فإذا أتاكم من لا ترضون دينه ولا خلقه فلا تزوجوه.
4 – الغاية:
إلى، حتى: تفيدان انتهاء الغاية مع الفارق.
حتى: لا تجر إلا ما كان آخراً أو متصلاً بالآخر.
إلى: تجر ما كان آخراً أو متصلاً بالآخر أو غير ذلك.
اختلف في دخول ما بعدها فيما قبلها أو عدم دخوله والصحيح أن ما بعدها لا يدخل فيما قبلها إلا بقرينة ولذلك فلها مفهوم مخالفة.
مثال: (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) [البقرة/187].
(إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ) [المائدة/6].
(وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْر) [البقرة/187].
(وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ) [البقرة/222].
وفي الآية الأولى والثانية فإن الليل لا يدخل في الصيام والمرافق لا تدخل في الوضوء لأن ما بعد “إلى” يخالف ما قبلها، فمفهوم المخالفة معمول به هنا أما دخول جزء من الليل وجزء من المرفق في الحكم فهو آتٍ من قواعد أخرى.
وفي الآية الثالثة لا يباح للصائم الأكل بعد طلوع الفجر.
وفي الآية الرابعة فإنه لا يجوز مباشرة الحائض قبل الطهر.
قال تعالى: ( ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ ) [البقرة/187] أي بعد دخول الليل لا صيام.
قال صلى الله عليه وسلم: “ليس في حب ولا تمر صدقة حتى تبلغ خمسة أوسق”[g](7)، قبل أن تبلغ خمسة أوسق لا تجب الزكاة.
ملاحظات على مفهوم المخالفة:
-
إذا كان العدد من ألفاظ الكثرة فإن له مفهوم موافقة من الأعلى إلى الأدنى وليس له مفهوم مخالفة:
قال تعالى: (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْك) [آل عمران/75]، فليس معنى ذلك أنه لا يؤدي أكثر من القنطار لأن القنطار لفظ كثرة، بل إنه يؤدي كلّ أمانة عنده فهو موافقة من الأعلى إلى الأدنى.
-
إذا كان العدد من ألفاظ القلة فإن له مفهوم موافقة من الأدنى إلى الأعلى وليس له مفهوم مخالفة سواء فهمت القلة من اللفظ المفرد أم من التركيب، وسنذكر مثالاًعلى كلٍّ:
قال صلى الله عليه وسلم: قال صلى الله عليه وسلم: “… ومن ظَلَم من الأرض شبراً طُوِّقَه من سبع أَرَضين”[h](8) فلا يعني أنه لو ظلم من الأرض أقل من شبر لا شيء عليه لأن (شبر) من ألفاظ القِلّة ولا مفهوم مخالفة لها بل هو موافقة من الأدنى إلى الأعلى، أي يعاقَب على أي مساحة من الأرض يأخذها ظلماً.
قال صلى الله عليه وسلم: “إن كنتم ثلاثةً فلا يتناجَ اثنان دون الثالث من أجل أنّ ذلك يحزنه”[i](9) فحيث إن المناجاة أقل ما تطلق عليه بين اثنين فالتركيب يفيد القلة ولذلك فلا مفهوم مخالفة له بل مفهوم موافقة من الأدنى إلى الأعلى، فإن كانوا أكثر من ثلاثة فالنهي يشملهم.
-
غالباًما يكون للعدد المثبت مفهوم موافقة في الأكثر ومخالفة في الأقل إلا بقرينة: قال تعالى: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) [البقرة/234]… فلا يجوز للمرأة المتوفى عنها زوجها أن تتزوج قبل أربعة أشهر وعشر (مخالفة) ويجوز لها بعد ذلك (موافقة).
قال صلى الله عليه وسلم: “إن كنتم ثلاثة في سفر فأمِّروا أحدكم…”[j](10) (موافقة) في الأكثر فأمروا لثلاثة أو أكثر و(مخالفة) في الأقل فلا إمارة في أقل من ثلاثة.
-
غالباًما يكون للعدد المنفي جوابه موافقةً في الأقل ومخالفةً في الأكثر إلا بقرينة:
قال تعالى: (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ) [التوبة/80]… (موافقة) في الأقل أي لن يستجاب في أقل من سبعين، وقد يستجاب في أكثر من سبعين (مخالفة)، هذا بالنسبة لتفسير السبعين بالعدد، وليس بالكثرة كما بيناه سابقاً.
-
إذا تعارض مفهوم العدد مع مفهوم الصفة ترجحت الصفة على العدد لأن مفهوم الصفة في أصل اللغة ومفهوم العدد بقرينة، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: “اجتنبوا السبع الموبقات: الشرك بالله وقتل النفس التي حرّم الله إلا بالحقّ والسحر وقول الزور…”[k](11) فهنا عدد (السبع) وصفة (الموبقات) فيترجح مفهوم الصفة ويصبح النهي عن (الموبقات) هذه السبع المذكورة وغيرها.
وأما مفهوم العدد فيعني اجتناب هذه السبع فقط على اعتبار أنها موبقات، وغير هذه السبع ليس من الموبقات.
يترجح مفهوم الصفة وتصبح هذه الموبقات السبع هي أنواع من الموبقات وليست كلها.
فائدة في الموضوع:
1 – مفهوم المخالفة وإن عمل به في الأمور الأربعة المذكورة إلا أنه إذا عطل بنص فلا يعمل به.
مثال: آية القصر لولا قول الرسول صلى الله عليه وسلم: “فاقبلوا صدقته”[l](12) فإنه حسب مفهوم الشرط في الآية: ( إن خفتم) لا تجوز صلاة القصر في حالة الأمان لكن هذا عطل بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “فاقبلوا صدقته” وبذلك تصبح صلاة القصر جائزة في الخوف وفي الأمن ويكون مفهوم الشرط في الآية قد عطل.
2 – كل خطاب خصص محل النطق بالذكر لخروجه مخرج الأعم الأغلب لا مفهوم له، مثال:
(وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ) [الإسراء/31].
(لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً) [آل عمران/130].
(وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَنْ يَكْبَرُوا) [النساء/6].
(وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) [النور/33].
فكل هذا لا مفهوم له لأنه خرج مخرج الأعم الأغلب.
فقتل الأولاد حرام خشية إملاق أو لغير خشية، والربا حرام أضعافا مضاعفة أو غير ذلك، وأكل أموال اليتامى حرام إسرافاً وبداراً أو لغير ذلك، وإكراه الإماء على البغاء حرام أردن تحصناً أم لم يردن، وإنما ذكرت هذه الحالات لأن الغالب آنذاك في فعلها كان على هذه الحالات.
(وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنّ) [النساء/23].
سواء أكانت بنت الزوجة تسكن معه أم لا فلا يجوز له الزواج منها.
أما وصف اللاتي في حجوركم فلا مفهوم له لأن الغالب كان كذلك أن تسكن بنت الزوجة مع أمها عند زوج الأم:
“فليستنج بثلاثة حجارة”[m](13).
فالعدد هنا لا مفهوم مخالفة له لأن الغالب في ذاك الوقت أن الاستنجاء كان بثلاثة أحجار وعليه فلا يعني ذلك أن الاستنجاء بغير هذا العدد لا يصح بل أن عدم الصحة يأتي من اعتبارات أخرى وليس من مخالفة العدد.
3 – مفهوم الاسم ليس بحجة:
لا مفهوم مخالفة للحكم المعلق على الاسم، سواء أكان اسم جنس أم اسم علم أم ما هو في معناه كاللقب والكنية، وسواء أكان الاسم جامداً أم مشتقاً غير وصف، ويعامل الوصف غير المفهم معاملة الاسم، من حيث عدم وجود مفهوم مخالفة له.
أمثلة:
أ – الاسم الجامد: حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم «في الغنم السائمة زكاة». (الغنم) اسم جنس جامد، لا مفهوم مخالفة له، أي أن ذكر الزكاة في الغنم لا يعني عدم وجود زكاة في غير الغنم، فهناك زكاة في البقر والإبل وباقي أصناف الزكاة.
كذلك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم «الذهب بالذهب مثلاً بمثل». (الذهب) اسم جنس جامد، لا مفهوم مخالفة له، أي أن وقوع الربا في الذهب بيعاً بغير مثل بمثل – متفاضلاً – لا يعني عدم وقوع الربا هذا في غير الذهب، فهناك المثل بالمثل في الفضة والقمح وباقي الأصناف الربوية.
ومن الجدير ذكره أن عدم وقوع الزكاة في غير الأصناف التي ذكرها حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أخرجه البيهقي عن الحسن (لم يجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الصدقة إلا في عشرة: الإبل، البقر، الغنم، الذهب، الفضة، الحنطة، الشعير، التمر، الزبيب، السلت) – السُّلت نوع من الشعير كما في القاموس -.
أقول إن عدم وقوع الزكاة في غير هذه الأصناف، ليس آتياً من مفهوم الاسم، لأن الاسم لا مفهوم مخالفة له، بل هو آتٍ من الحصر، والحصر له مفهوم مخالفة، فقد نُصَّ على الزكاة فيها حصراً، باستعمال (لم وإلا) مقرونة بأسماء جامدة، فحصرت الزكاة في هذه الأصناف، ومنعت وجودها في غيرها.
ومثل هذا يقال في عدم وقوع الربا في البيع إلا في الأصناف الستة المذكورة في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أخرجه الترمذي من طريق عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الذهب بالذهب مثلاً بمثل، والبر بالبر مثلاً بمثل، والملح بالملح مثلاً بمثل، والشعير بالشعير مثلاً بمثل، والفضة بالفضة مثلاً بمثل، والتمر بالتمر مثلاً بمثل، فمن زاد أو ازداد فقد أربى»، فإن عدم وقوع الربا بيعاً في غير هذه الأصناف، ليس آتياً من مفهوم الاسم، لأن الاسم لا مفهوم مخالفة له، بل هو آتٍ من الحصر، والحصر له مفهوم مخالفة، وهذا الحصر مستفاد من التركيب، حيث قد ورد التنصيص فيه على مجموعة أسماء جامدة، وعلّق حكماً مشروطاً على كل اسم منها، فأفاد التركيب حصر الحكم في هذه الأصناف ومنعه في غيرها.
ب – الاسم المشتق غير الوصف
مثاله حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي رواه الأثرم عن أبي أمامة قال (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحتكر الطعام). (الطعام) اسم مشتق لكنه غير وصف، ولذلك فلا مفهوم مخالفة له، كالاسم الجامد، وعليه فلا يعني تحريم الاحتكار في الطعام أنه غير محرم في غير الطعام.
ج – العَلَم وما في معناه كاللقب والكنية، وعدم العمل بمفهوم المخالفة فيه، أوضح من غيره، فإن قولك زيد يأكل أو أبو علي يتكلم، لا يعني أن غير زيد لا يأكل أو أن غير أبي علي لا يتكلم. كما أن قولك (عيسى رسول الله) لا يعني أن غير عيسى ليس رسول الله، فمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهكذا فالعَلَم لا مفهوم مخالفة له.
د – الوصف غير المفهم أي غير المناسب للحكم المعلق عليه. فمثل هذا الوصف لا يفيد التعليل وبالتالي لا مفهوم مخالفة له، مثل قولنا الأبيض يشبع إذا أكل، فليس في الوصف (الأبيض) مناسبة مع الحكم المعلَّق عليه (لا يشبع) فهو وصف غير مفهم ولا يفيد تعليل الشبع بالبياض، فهذا لا مفهوم مخالفة له، أي أن هذا القول لا يفيد أن غير الأبيض لا يشبع لو أكل.
ومثل هذا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أخرجه أحمد عن حسين بن علي رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «للسائل حق وإن جاء على فرس». فليست هناك مناسبة بين السؤال والحق في الزكاة، فالسؤال أي المسألة لا تفيد التعليل لأخذ الزكاة، ولهذا فإن هذا الوصف (السائل) لا مفهوم مخالفة له، لأنه وصف غير مفهم، فلا يعني الحديث، والحالة هذه، أن غير السائل لا حق له في الزكاة.
وكذلك قول عمر رضي الله عنه (ليس لمحتجر حق بعد ثلاث سنين)، فإنه لا مناسبة بين ملكية الأرض بالتحجير وبين نزعها منه إذا أهملها فوق ثلاث سنين، فهذا الوصف (المحتجر) غير مؤثر في النزع بعد إهمال ثلاث سنين أي لا يفيد التعليل، وعليه فلا مفهوم مخالفة له، أي أن هذا القول (ليس لمحتجر حق بعد ثلاث سنين) لا يعني أن غير المحتجر، لا تنزع منه الأرض إذا أهملها فوق ثلاث، بل تؤخذ منه كذلك مهما كان سبب ملكيتها، بالشراء أو الإرث أو الإقطاع أو الإحياء.
وقد يرد سؤال عن الفرق بين الاسم المشتق غير الوصف، والوصف غير المفهم، ما دام أنَّ كليهما لا مفهوم مخالفة له. والجواب على ذلك:
أن (الأول) اسم لا يصلح للوصف فكلمة (طعام) لا تستعمل كصفة لاسم آخر بل تستعمل كموصوف فتقول هذا طعام مفيد، أما الثاني فهو وصف لاسم آخر ولكنه غير مفهم، سواء أذكر الموصوف أم لم يذكر، فهو صالح للاستعمال كوصف فتقول: هذا هو الشخص السائل، وللشخص السائل حق ولو جاء على فرس. وتقول ذاك الرجل المحتجر لتلك الأرض. وهكذا.
فالأول لا يصلح أن يكون وصفاً، وبطبيعة الحال، ليس مفهماً، ولا يفيد التعليل.
والثاني يصلح أن يكون وصفاً ولكن غير مفهم، ولا يفيد التعليل.
مسألة:
اختلف العلماء في أنه لو تشاجر اثنان فقال أحدهما لآخر: أما أنا فليس لي أم ولا أخت ولا امرأة زانية، فهل يحد القائل عملاً بمفهوم المخالفة لأنه يكون حينها قذف الثاني – بالنسبة لمفهوم اللقب -.
والصحيح أن لا مفهوم مخالفة هنا، وإنما إن فهم منه ذلك فهو يكون من القرينة أي قرينة حاله لا من دلالة مقاله ولا يكون حد القذف واجباً بدلالة مفهوم المخالفة بل بالقرينة المتعلقة بقول القائل.
فالتعريض يحتاج إلى قرينة ليعمل بمفهوم المخالفة له.
4 – لا مفهوم ل (إنما):
لأن (إنما) ترد للحصر وقد ترد ولا حصر والقرينة هي الفيصل: “إنما الربا في النسيئة”[n](14) وهو غير منحصر في النسيئة لانعقاد الإجماع على تحريم ربا الفضل، وينص الحديث كذلك “يداً بيد مثلاً بمثل”[o](15).
أمثلة على ما اشترك فيه الحالتان: الخروج مخرج الغالب، وورود نص معطل:
1 – (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ) [الإسراء/31] خرجت مخرج الأعم الأغلب. فكانوا يقتلون أولادهم خشية الفقر وفي نفس الوقت عطل المفهوم بنص آخر: (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقّ) [الأنعام/151] وبذلك لا مفهوم مخالفة لها.
2 – (لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً) [آل عمران/130].
فإنهم كانوا يرابون كذلك – خرج مخرج الأعم الأغلب. ولقد عطل بنص آخر (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) [البقرة/275] سواء أكان رباً مضاعفاً أم غير مضاعف. ولذلك لا مفهوم مخالفة لها.
3 – (وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) [النور/33].
فالغالب أنهن كن يكرهن وهن يردن العفاف، وكذلك عطل بنص:
4 – (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلا) [الإسراء].
فهذه وأمثالها لا مفهوم مخالفة لها:
فتحريم قتل الأولاد سواء خشية إملاق أو عدمه.
والربا حرام سواء كان مضاعفاً أو غير مضاعف.
وتشغيل الإماء في البغاء حرام سواء أكرهن أو لم يكرهن .
(1) أبو داود: 2/96، البيهقي: 4/99.
(2) مسلم: 2546، أبو داود: 1795، النسائي: 3212، ابن حبان: 9/359، البيهقي: 7/118، الدارقطني: 3/239.
(3) البخاري: باب لي الواجد يحل عقوبته، أبو داود: 3/113، أحمد: 4/389، البيهقي: 6/51.
(4) البخاري: 1277، 4302، الترمذي: 3022، النسائي: 1940، أحمد: 91.
(5) مسلم: 1108، النسائي: 1416، أبو داود: 1024.
(6) الترمذي: 1084، 1085، ابن حبان: 1967، المستدرك: 2/179.
(7) البخاري: 1366، مسـلم: 1628، النسـائي: 2438، ابن ماجه: 1783.
(8) أخـرجـه أحـمـد من طـريق عمرو بن نفيل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(9) أحمد: 1/375، 425 وقال أحمد شاكر إسناده صحيح.
(10) أحمد: 6360، ابن حبان: 10/383.
(11) البخاري: 2615، مسلم: 89.
(12) مسلم: 1108، النسائي: 1416، أبو داود: 1024.
(13) الدارقطني عن عائشة: 1/57، نصب الراية: 1/215.
(14) البخاري: 2069، مسلم: 1596.
(15) مسلم: 1584، 1587.
2003-01-20