الكَرْبُ والفَرَجُ
2003/01/20م
المقالات
1,963 زيارة
الكَرْبُ والفَرَجُ
الكرب: لغةً هو الحزن والغم الذي يأخذ بالنفس. كربه الأمر والغم يكربه كرباً… اشتد عليه فهو مكروب.
كل شديد العقد من حبلٍ او بناءِ او مفصلِ يسمى مُكرب فهو مكروب المفاصل… إذا كان وثيق المفاصل. قول الحطيئة:
قومٌ إذا عقدوا عقداً لجارهمُ شدوا العِناجَ وشدوا فوقه الكربا
فالحبل الواصل بين الدلو والحبل أو بين شيئين يشدهما معاً… هو الكرب.
الفرج: هو الخلل بين شيئين.
والفَرجُه: الخصاصةُ بين الشيئين.
والخروق يقال لها تفاريج.
الفُرجه: في الحائط الشفافية.
وفي حديث صلاةِ الجماعة (ولا تذروا فُرجاتِ الشيطان) وهو الخلل الذي يكون بين المصلين في الصفوف.
الفَرجَةُ: التفضي من الهم. ويقال فرّج الله غمّك تفريجاً وفي حديث عبد الله بن جعفر: (ذَكرت أمناً يُتماً وجعلت تَفرَجُ له فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: أتخافين الغيلة وأنا وليهم) .
الفَرْجُ: الثغر.
هذا ما ورد في لسان العرب.
عندما يحزُب الإنسان أمرٌ أو ينزل عليه بلاء أو ضائقة ثم تتبعها أخرى يقال اشتد عليه الكرب فكأن الكرب حبل أو سلسلة تُشدُّ عليه أو تنقص حلقة من السلسلة.
وحتى تكون الصورة أوضح فإن هناك فرقُ بين الضيق والكرب وهو أن الضيق وضعٌ مستقر بمساحةٍ معينةٍ وحجم معين ووضع معين لا ينقص ولا يتضاءل.
بينما الكرب هو في تناقص وحركة مستمرة فكأنه ضغط يتزايد باضطراد أو فقير يتناقص دخله يوماً بعد يوم.
ولقد وردت كلمة الكرب في القرآن الكريم في أربعةِ مواضع:
(قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ) (الأنعام:64) .
(فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) [الأنبياء].
(وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) [الصافات].
(وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) [الصافات].
وإذا تمعنت في هذه الآيآت تجد أن الحال فيها لم يكن مستقراً كالضيق مثلاً بل كان متحركاً وأنه كالحبل يشتدُّ لحظةً بعد لحظة وهذا هو مفهوم الكرب؛ فالذي يسير من سيءٍ إلى أسوأ فهو في كرب.
وأما الفرج فهو النور الذي ينبعث فكان النور فرجاً له, والذي تحسس الحائط المنيع فأحسَّ بالنافذة فيه وكانت النافذةُ فرجاً له, والذي رأى النور في آخر النفق كان النور فرجاً له يهديه ويسير باتجاهه.
هذه صُوَرُه أو بعض من صوره وأما هو فإنه غير متوقع أو أنه يأتي على غير توقع. فالذي يسير في الليل المظلم يسير من ظلامٍ إلى ظلام، ولم يخطر بباله أن يرى نوراً. والراكب في السفينة التي تتقاذفها الأمواج وتهزها الرياح لم يكن متوقعاً النجاة بحالٍ من الأحوال، فجاءه الفرجُ بهدوء الموج وسكون الريح. وهكذا. فالفرجُ يأتي على غير توقعٍ وفي موقفٍ يكون الإنسان فيه يفكر في المرحلة الأخرى من السوء الذي هو فيه. والأسوأ الذي هو مقدمٌ عليه. وصدق الله العظيم: ( ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ، ويرزقه من حيث لا يحتسب ) [الطلاق] وهكذا الفرج يأتي من حيث لا يحتسب الإنسان.
إن الكرب والفرج من الأفعال التي تقع على الإنسان ولا يقتضيها نظام الوجود فقد يكرب المرء وقد لا يكرب وقد يأتي الفرج لمكروب ولا يأتي لآخر، أو يأتي في آن ولا يأتي في آنٍ آخر, فهو من القضاء ولا يملك المرء إلا الإيمان والتسليم بقضاء الله عز وجل. وهو وحده جل وعلا مفرج الكرب.
إن الكرب والفرج قد يتعلقان بشخص أو بمجموعة أشخاصٍ تجمعهم مصلحةٌ واحدة، أو بأمةٍ أو مجموعةٍ يجمعهم مبدأ معين.
فإذا تعلق الكرب والفرج بشخصٍ معين في وضعٍ معين كان الفرج فردياً فالعائل المعدم في كرب فإذا أُعطي فُرجَ عنه، والأسير في كرب فإذا اُطلق سراحة فقد فُرّجَ عنه، ففرجه وكربه متعلقٌ به هو. وقس على ذلك. فالأشخاص الذين تجمعهم مصلحةٌ واحدةٌ فكربهم وفرجهم متعلق بمصلحتهم، فإذا مُنعوا من ممارسة أعمالهم فهم في كرب، ويأتيهم الفرج بالسماح لهم بالعودةِ لممارسة ما كانوا يعملون.
فإن تعلق الفرج والكرب بشخص أو أشخاص فالحال واحدٌ، وهو أنه ينظر للوضع من خلال نفسه، ومن خلال ما يقع عليه أو يرفع عنه، وتكون زاوية النظر من خلال نفسه لنفسه، ولمصالحه هو، بغض النظر عن غيره: أكان هذا الغير في كربٍ أم في فرج.
فالذي يعيش لنفسه ويقيم الدنيا من خلال نفسه يرى أن الفرج والكرب خاصٌ به ولا يعنيه غيره, كذلك الحال للذين لاينظرون للدنيا إلا من خلال مصالحهم فهم في فرج أو في كرب وفق مصالحهم، ما يتحقق منها وما لا يتحقق.
أما حامل الإسلام فإن له شأناً آخر، يختلف عن أولئك الذين ينظرون للدنيا من خلال مصالحهم، فالأمة همه ومصلحتها مصلحته وسعادتها سعادته. يقول السيد محمود الألوسي في روح المعاني ج6 في تفسير قول الله عز وجل: ( فإن له معيشة ضنكا ): وتقديم حال الآخرة على حال الدنيا في المهتدين لأن مطمح نظرهم أمر آخرتهم بخلاف خلافهم فإن نظرهم مقصور على دنياهم. وروى عن عطاء وابن جبير: ووجه ضيق معيشة الكافر المعرض في الدنيا أنه شديد الحرص على الدنيا متهالك على ازديادها، خائف من انتقاصها، غالبٌ عليه الشحُ بها حيث لا غرضَ له سواها بخلاف المؤمن الطالب الآخرة. انتهى كلامه.
إن المؤمن الذي ينظر للدنيا من خلال حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر» ويرى أنه يحمل ما لا يحمله إلا من كان مثله وعليه من الواجب تجاه غيره الكثير الكثير، له مفهوم معيّن للفرج وللكرب ينبع من مبدئه الذي يحمله قيادةً فكريةً للدنيا بأسرها.
إن من يحمل الإسلام مبدأً له يكون عزّه عزّ مبدئه، وفرجه فرج مبدئه، ونصره نصر مبدئه. فإذا قامت دولة الإسلام كان الفرج الذي ينتظره، والنصر الذي يتطلع إليه وانزاح عنه الكرب، مهما كان حاله في غناه وفقره.
إن الغنى والفقر والتعب والدَّعةَ ليست مقياساً للكرب والفرج بالنسبة لمن يحمل أفكاراً ومبدأً معيناً حيث تمر به أحوال الغنى والفقر والتعب والدعة والعسر واليسر، ورغم هذه الأحوال كلها فإن الكرب والفرج يكونان تبعاً لأفكاره التي يحملها وليس تبعاً لأحواله العارضة هذه.
فهمُّه في حال غناه هو همُّه في حال فقره، فهو في كرب دائماً إلى أن يتحقق الفرج لمبدئه وإلاّ فقد طرأ خلل في فهمه إن لم أقل تنكب عما يحمله.
إن الفكرة التي تتوارد في الأذهان من أن الغني غير مكروب بل في فرج، وأن الكرب لا يتعلق إلا بالفقر ما هي إلا فكرة ساذجة وسطحية وينظر لها من زاوية ضيقة لا يتعدى حجمها حجم الفلس، فالغنى والفقر واليسر والعسر حالات، والجوع والشبع والعطش والرّي حالات، فقد يكون الجائع في فرج والشبعان في كرب، والغني في كرب والفقير في فرج، هذا إن كان لهذا الشخص أفكار ومبدأ يحمله.
ألا ترى أن الرسول صلى الله عليه وسلم ومن أسلم معه من المؤمنين الصادقين في مكة كانوا كلهم في كرب، الغني والفقير، والحر والعبد، فأبو بكر رضي الله عنه وأرضاه كان غنياً وبلال كان فقيراً، وكلاهما كان في كرب تبعاً لما يحملانه من أفكار لأن الناظر إليهم من أهل مكة كان ينظر إليهم من خلال ما يحملونه من أفكار، وليس من خلال حالهم، أفقر أم غنىً، وعسر أم يسر.
لقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم في كرب، والمسلمون معه، وحالهم واحد من أنهم مكروبون، ولم يكن الكرب الذي هم فيه عذرٌ لهم ليتهاونوا أو ليتقاعسوا بسبب هذا الكرب.
ولما بلغ الكرب منهم مبلغه جاءهم الفرج من الله عز وجل، وأصبحت لهم دولة كانوا قبلها في كرب، ثم أصبحوا بها في فرج، بغض النظر عن غناهم أو فقرهم، أو يسرهم أو عسرهم، فإن ما حملوه ودعوا له قد تحقق، وتحققه هو الفرج، وما قبل تحققه كرب.
هكذا كان المسلمون عندما كانت لهم دولة فقد كانوا في فرج بغض النظر عن غناهم وفقرهم، وعسرهم ويسرهم، فلما هدمت دولتهم وسكتوا عن هدمها، ذهب الفرج، وأصابهم الكرب، وتقطعوا أُمماً وأحزاباً، ودولاً، ودخلوا متاهات ودهاليز الأمم المتحدة والأسرة الدولية… فتاهوا ودخلوا من ضيق إلى ضيقٍ إلى أضيق، ومع أنهم سبحوا فوق آبار البترول إلا أنه لم يكن لهم فرجاً. وبنوا العمارات وحفروا الأنفاق فلم تكن لهم فرجاً… ورغم الكم الضخم من الموارد والأموال… فهم في كرب حتى يبنوا ويعيدوا بناء دولتهم لأنها الفرج.
قلنا أن الكرب والفرج من الأفعال التى لا يقتضيها نظام الوجود بمعنى أن ليس هناك إنسان مخلوق في كرب مستديم لا يتغيَّر كنظام الكون، وكذلك ليس هناك إنسان مخلوق في فرج مستديم مفروض عليه كنظام الكون، بل إنّ على المكروب أن يعمل بجد ونشاط، معتمداً على الله سبحانه لإزالة حالة الكرب التي هو بها، والانتقال منها إلى الفرج والنصر بإذنه سبحانه.
وقد وعد الله عز وجل الجماعة المكروبة التي لا همَّ لها إلا أن يعود حكم الله لأرضِ الله، وعدهم بالفرج وبالنصر وبالتمكين وبالأمنِ بعد الخوف:
قال تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [النور].
فلا يصح القعود بسبب الكرب وضيق الطريق ووعورتها بل يجب العمل بجد وإخلاص حتى يتحقق وعد الله الذي لا يخلف الميعاد .
جواد عبد المحسن – فلسطين
2003-01-20