صلاح الدين والخلافة
2002/11/19م
المقالات
2,103 زيارة
صلاح الدين والخلافة
لقد أبرز الناس الجانب العسكري من شخصية صلاح الدين وجهاده للصليبيين في كل من مصر والشام، وتقواه وعدله في الرعيّة ورحمته بها وتأمينه للسبل، إلا أن هناك جانباً يدل على استقامته على مبدئه، وثباته على الحق الذي يتبناه مهما كلفه. هذا الجانب لم تسلط عليه الأضواء، وهو يتجلى في موقفه من الخلافة. إذ كان رحمه الله يتبنى وحدة الخلافة، ولا يقر بوجود خليفتين في وقت واحد، وأن الخليفة الشرعي هو الخليفة العباسي، ثم كان يدين بالولاء والطاعة لهذا الخليفة، ويرى قتال الخليفة الذي ينازعه.
ــــــــــــــــــــــــــــ
ويتجلى حرصه على وحدة الخلافة وأنّ الخليفة هو الخليفة العباسي من رسالته للمنصور يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن سنة ست وثمانين وخمسمئة، يستنصره على الفرنجة في البحر لحماية سواحل الشام ومصر من أساطيلهم، وذلك لتوفر القوة البحرية عند يعقوب، وقلتها عنده. وكان يعقوب هذا من أمراء دولة الموحدين، وتَسمّى بأمير المؤمنين، ورغم حاجة صلاح الدين الملحّة لأسطول يعقوب هذا إلا أنه لم يخاطبه بأمير المؤمنين، وإنما خاطبه بأمير المسلمين، وأصر في كتابه على اعتبار الخليفة العباسي وارثاً للأنبياء بالعلم وللأرض بالعزم، مزيناً لسماء الملة بنسبه الذي هو درة من دراري الذرى. قال أبو العباس الناصري في كتاب الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى: [وكان عنوان الكتاب: من صلاح الدين إلى أمير المسلمين، وفي أوله الفقير إلى الله تعالى يوسف بن أيوب وبعده الحمد لله الذي استعمل على الملة الحنيفية من استعمر الأرض، وأغنى من أهلها من سأله القرض، وأجرى من أجرى على يده النافلة والفرض، وزين سماء الملة بدراري الذراري التي بعضها من بعض… ولما وقف عليه المنصور ورأى تجافيه فيه عن خطابه بأمير المؤمنين، لم يعجبه ذلك، وأسرّها في نفسه، وحمل الرسول على مناهج البر والكرامة ورده إلى مرسله ولم يجبه إلى حاجته. ويقال إنه جهز له بعد ذلك مئة وثمانين أسطولاً ومنع النصارى من سواحل الشام والله تعالى أعلم]. وذكر شهاب الدين المقدسي في كتاب الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية: [فصل: لم يحصل من جهة سلطان المغرب ما التمس منه من النجدة وبلغني أنه عز عليه كونه لم يخاطب بأمير المؤمنين على جاري عادتهم، وقد كان سلطاناً عادلاً مظهراً للشريعة غازياً] ومما يرجح هذه الرواية ما أورده شهاب الدين المقدسي في كتاب الروضتين من شعر ابن عم يعقوب فيه وشعر شمس الدين بن منقذ رسول صلاح الدين إليه، فالأول اعتبره خير الخلفاء والثاني سماه أمير المسلمين، قال المقدسي: [وفيه يقول ابن عمه سليمان بن عبد الله بن عبد المؤمن أبو الربيع من قصيدة أولها:
هَبَّتْ بِنَصْرِكُمُ الرِّيَاحُ الأَرْبَعُ
وُجِدَتْ بِسَعْدِكُمُ النُّجُومُ الطُّلَّعُ
إِنْ قِيلَ مَنْ خَيْرُ الخَلاَ ئِفِ كُلِّهَا
فَإِلَيْكَ يَا يَعْقُوبُ تُومِي الإِصْبَعُ
إِنْ كُنْتَ تَتْلُو السَّابِقِينَ فَإِنَّمَا
أَنْتَ المُقَدَّمُ وَالخَلاَ ئِقُ تُبَّعُ
وقد مدحه أيضاً شمس الدين بن منقذ هذا المرسل إليه من جهة السلطان بقصيدة منها:
سَأَشْكُرُ بَحْراً ذَا عُبَابٍ قَطَعْتُهُ
إِلَى بَحْرِ جُودٍ مَا لِنَعْمَاهُ سَاحِلُ
إِلَى مَعْدِنِ التَّقْوَى إِلَى كَعْبَةِ الهُدَى
إِلَى مَنْ سَمَتْ بِالذِّكْرِ مِنْهُ الأَوَائِلُ
إِلَيْكَ أَمِيرَ المُسْلِمِينَ وَلَمْ تَزَ لْ
إِلَى بَابِكَ المَأْمُولِ تُزْجَى الرَّوَاحِلُ]
ومما يؤكد حرص صلاح الدين على وحدة الخلافة وأنّ الخليفة هو الخليفة العباسي ما أورده المقدسي في كتاب الروضتين ضمن رسالة وجهها صلاح الدين إلى دار الخلافة ببغداد، فكان مما ورد فيها: [وبلاد أولاد عبد المؤمن فلو أن لها ماء سيف لأطفأ ما فيها من النار إلى أن تعلو كلمة الله العليا وتملأ الولاية العباسية الدنيا]. وهو هنا يستبيح قتال أولاد عبد المؤمن، وكأن السبب في ذلك خروجهم عن طاعة الخليفة العباسي ببغداد، وإعلانهم أنهم خلفاء، أو أمراء المؤمنين.
أما طاعته للخليفة فقد كان يعلنها في مطلع كل رسالة يوجه بها إلى ديوان الخلافة، ويعتبر نفسه خادماً ومرّة مملوكاً، فمن تلك التعبيرات ما نقله القلقشندي في صبح العشى عن كتاب التعريف:
¨ [الخادم ينتهب ثرى العتبات الشريفة بالتقبيل… في امتثال الأوامر الشريفة التي لم يزل يتسارع إليها ويقارع عليها] ومنها (… وحامداً الله الذي جعله من طاعة أمير المؤمنين عند حسن يقينه…).
ومنها:
¨ [أعلى الله الموحدين على الملحدين، وثبت كلمة المتقين على اليقين، بدوام أيام الديوان العزيز… وألهم الخلق أن يعنونوا بطاعته صحائف الإيمان].
ومن تعبيراته في الإعلان بالطاعة ما ذكره شهاب الدين المقدسي في كتاب الروضتين وفيه: [وهذه المقاصد الثلاثة الجهاد في سبيل الله والكف عن مظالم عباد الله والطاعة لخليفة الله هي مراد الخادم من البلاد إذا فتحها، ومَغْنمه من الدنيا إذا مُنحها].
وقد كان رحمه الله يرى أن الجماعة لا تكون إلا على إمام، ففي إحدى مكاتباته التي ذكرها صاحب كتاب الروضتين: [أدام الله أيام الديوان العزيز… والأمة مجموعة الشمل بإمامته جمع السلامة لا جمع التكسير].
كما كان يرى أن القيادة فردية، فقد نقل صاحب كتاب الروضتين عنه في إحدى رسائله: [ولا يختار إلا أن تغدو جيوش المسلمين متحاشدة على عدوها، لا متحاشدة بعتوها، ولو أن أمور الحرب تصلحها الشركة لما عز عليه أن يكون كثير المشاركين، ولا ساءه أن تكون الدنيا كثيرة المالكين، وإنما أمور الحرب لا تحتمل في التدبير إلا الوحدة].
وهذه النصوص وإن كان كاتبها هو القاضي الفاضل فإنه كان يطالع بها السلطان ولا يصدر إلا عن رأيه، وأخذ موافقته، لأنها موجهة إلى ديوان الخلافة باسمه.
ومن أوضح ما قام به صلاح الدين في موضوع وحدة الخلافة أنه قضى على خلافة العبيديين (الفاطمية) في مصر، واعتبرها باغية على الخليفة المنعقدة بيعته في بغداد. فقد استولى العبيديون على مصر 357هـ، وأعلنوا خلافة لهم سمّوها زوراً وبهتاناً خلافة فاطمية. وفي سنة 549هـ كتب الخليفة العباسي (المقتفي) عهداً بولاية مصر لنور الدين زنكي والي حلب ودمشق، وأمره بالمسير إليها. وفي سنة 562هـ جهز السلطان نور الدين الأمير أسد الدين شيركوه في ألفي فارس إلى مصر،ثم في 564هـ أصبح على مصر مكانه ابن أخيه صلاح الدين. وكان (العاضد) آخر الخلفاء الفاطميين لا زال في مصر خارجاً بها عن الخليفة العباسي في بغداد إلى أن حلَّت سنة 567هـ حيث قطع صلاح الدين الخطبة للعاضد الفاطمي وأعادها للخليفة العباسي، ومن ثم عادت الخلافة واحدة واجتمعت الأمة على الخليفة العباسي في بغداد.
يقول السيوطي في تاريخه (تاريخ الخلفاء) في أخبار سنة 567 هـ:
قال العماد الكاتب: استفتح السلطان صلاح الدين بن أيوب سنة سبع بجامع مصر على الطاعة والسمع، وهو إقامة الخطبة الأولى منها بمصر لبني العباس، وعفت البدعة، وصفت الشرعة، وأقيمت الخطبة العباسية في الجمعة الثانية بالقاهرة إلى أن يقول: وسيَّر السلطان نور الدين بهذه البشارة شهاب الدين بن المطهّر إلى بغداد، وأمرني بإنشاء بشارة عامة تقرأ في سائر بلاد الإسلام، فأنشأت بشارة أولها: الحمد لله معلي الحق ومعلنه، وموهي الباطل وموهنه، ومنها: ولم يبق بتلك البلاد منبر إلا وقد أقيمت عليه الخطبة لمولانا الإمام المستضيء بأمر الله أمير المؤمنين…). وقد كان المستضيء هو الخليفة العباسي آنذاك.
وأرسل الخليفة في جواب البشارة الخلع والتشريفات لنور الدين وصلاح الدين وأعلاماً وبنوداً للخطباء بمصر، وسيّر للعماد الكاتب خلعة ومائة دينار.
وفي سنة 569 هـ أراد جماعة في مصر إعادة الخلافة إلى آل العاضد فقتلهم صلاح الدين وصلبهم بين القصرين، واعتبر فعلهم من الجرائم الكبرى التي فيها شق جماعة المسلمين.
ولما تولى الخليفة الناصر العباسي (575هـ – 622هـ) بعث إلى صلاح الدين الخلع والتقليد، وكتب صلاح الدين للخليفة يقول: (… والخادم، ولله الحمد، خلع من كان ينازع الخلافة رداءها، وأساغ الغصة التي أذخر الله للإساغة في سيفه ماءها…).
وهكذا كان صلاح الدين رحمه الله يتبنى وحدة الخلافة وأنه إذا بويع لخليفتين يقتل الآخر منهما، وأن الوفاء واجب لبيعة الأول فالأول كما جاء في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن الجدير ذكره أن القدس التي استولى عليها الصليبيون سنة 492هـ قد حررها صلاح الدين من الصليبيين في 583هـ، بعد أن كان قد قضى على خلافة العبيديين في مصر ووحد الخلافة سنة 567هـ؛ وهكذا فإنَّ قوة المسلمين في خلافتهم. ونسأل الله سبحانه أن تعود الخلافة الراشدة فتقضي على كيان يهود من جذوره وتحرر القدس وتعيد الأرض المباركة كاملة إلى ديار الإسلام .
2002-11-19