الشركات متعددة الجنسيات (1)
2002/08/19م
المقالات
2,914 زيارة
الشركات متعددة الجنسيات (1)
إن طبيعة الأسس والقواعد التي يقوم عيها المبدأ الرأسمالي وتنبني عليها معاملاته المالية والاقتصادية، فتحت الأبواب على مصاريعها أمام رجال المال والاقتصاد ليسخروا مواهبهم، ويستغلوا إمكانياتهم ليجمعوا المال ويتلذذوا بتكديسه وكنـزه.
إن سقف الحريات الذي فرضته عقيدة فصل الدين عن الحياة هو سقف بلا حدود، يظهر هذا في ممارسة الحريات الشخصية التي أخرجت الإنسان عن إنسانيته ونظمته في سلك البهائم. وهذه حرية الاعتقاد أوجدت في المجتمعات الغربية تشكيلات من غرائب المعتقدات. ولكن أبرز ما يظهر في هذه الحريات هو ممارسة تطبيق النظم الاقتصادية والمالية.
=========================================
لقد انطلقت أميركا من هذه الأرضية إلى ممارسة فتح أبواب العالم على مصاريعه لتحريك رأس المال وتشغيل رأس المال الأميركي، ليدخل كل بلد، ويتحكم بكل سوق. والذي مهَّد لها لتنفيذ ذلك هو الاتفاقيات التي ربطت دول العالم المتنفذة بها، وهذه تقضي بدخولها أسواق مناطق النفوذ البريطاني والفرنسي أي المستعمرات السابقة. وذلك يعني سحب البساط من تحت أقدام الدولتين العريقتين في الاستعمار، وفرض استعمار جديد بأساليب جديدة ترتكز إلى مشروعية الاتفاقيات الدولية.
إن الرأسمالية الصناعية التي سادت العالم عدة عقود، حيث ظهر نمو حجمها بعد الحرب الثانية، قد تجاوزت حدودها، وتخطت الطوق إلى ما يسمى رأسمالية الثورة العلمية والتكنولوجية، التي أنتجت من الاكتشافات والاختراعات ما يوفر طاقات إنتاجية هائلة، لا يمكن أن تستوعبها أية سوق محلية مهما بلغت سعتها، فاتجه طموح الرأسمالية إلى الاستحواذ على العالم بأكمله وجعله سوقاً واحدة لها. وأصبحت الظاهرة الغالبة هي تعميم العمليات التي تؤدى إلى عولمة الحياة الاقتصادية. وهنا تبدو الشركات متعددة الجنسيات بوصفها القوة التي تلعب الدور القيادي في عملية التدويل الراهنة، فهي محرك وحامل وناقل للتمويل إلى البلدان المتقدمة والمتخلفة على السواء.
إن بوش الأب عندما أحرز انتصاراته في حرب الخليج عرض موضوعاً جديداً، وهو إيجاد نظام جديد للعالم، ولكنه لم يمكن من الاستمرار في تنفيذ وتطبيق هذا النظام لهزيمته في الانتخابات الرئاسية ومجيء كلينتون (الحزب الديمقراطي) فكانت فترة إدارة كلينتون وهي ثماني سنوات فترة توقف عن تنفيذ ما وضعه بوش الأب، لا سيما وأن ذلك تزامن مع تفتيت الاتحاد السوفيتي.
ثم عاد الجمهوريون: وكان مجيء بوش الابن مجيئاً غير طبيعي لأنه تسلم الرئاسة بقرار محكمة وليس بانتخابات نزيهة.
فبدأ الرئيس بوش الأب بتوجيه الابن لتنفيذ ما قرره، لا سيما وأن بوش الأب – وهو سياسي مخضرم – يجتمع يومياً بالرئيس الابن.
والنظام العالمي الجديد هذا هو استعمار العالم من جديد وفرض الهيمنة الأميركية على دول القوة والنفوذ في العالم أولاً، ثم كسر العوائق وفتح الأبواب أمام المستثمر الأميركي ورأس المال الأميركي وأمام المنتج الأميركي ليكون العالم بأجمعه سوقاً مفتوحاً ومضموناً لرجل المال الأميركي.
ساعد أميركا على ذلك ما تملكه من وسائل القوة العسكرية ووسائل الهيمنة السياسية، والمؤسسات المالية الدولية، كل ذلك كانت عوامل دفعت بالرئيس بوش هذه الاندفاعة التي أخذ يمارسها بعنف وتحدٍّ دون أي حساب لقوة أخرى في العالم.
وكانت الأرضية الممهدة والموطأة هي مناطق بلاد المسلمين: منطقة العالم الإسلامي.
إن الولايات المتحدة الأميركية قبعت سنين طوالاً وهي متحيزة على نفسها منـزوية داخل القارة، ومبدأ مونرو سنة 1827 كان من أجل إبعاد بريطانيا عن أميركا اللاتينية فقط. ذلك لأن بريطانيا كانت في أوج عظمتها، وكان استعمارها ونفوذها يحيط بالعالم من أطرافه، كما كانت أميركا منشغلة بمشاكلها طيلة فترة القرن التاسع عشر، وهي مشاكل ولايات الشمال وولايات الجنوب، ومشاكل البيض والسود والأغنياء والفقراء. والحرب الأهلية الطاحنة التي فصلت الجنوب عن الشمال التي حدثت في رئاسة إبراهام لنكولن، والتي استطاع أن يخمدها، ويقضي على خصومه ويعيد للكونفدرالية لحمتها لهي خير شاهد على أوضاع أميركا الداخلية سياسياً.
إن بريطانيا كانت غارقةً في الحروب والمشاكل السياسية في العالم: مشاكلها مع فرنسا وحروب نابليون، وحروبها ضد روسيا القيصرية مع الدولة العثمانية، كل هذه الأحداث كانت تجري في العالم وأميركا بعيدة عنها. حتى جاءت الحرب العالمية الأولى، فاشتركت فيها أميركا إلى جانب حلفائها الأوروبيين ضد ألمانيا والنمسا والدولة العثمانية. واستطاعت أن تحرز لهم النصر.
وبعد تشكيل عصبة الأمم ورفض الكونغرس الانضمام إليها عادت وقبعت في موقعها، ولكن مخلفات الحرب العالمية طالت جميع العالم بآثارها الاقتصادية والمالية. وحلت بأميركا أكبر كارثة اقتصادية شهدها التاريخ وهي أزمة سنة 1929 هذه التي لم تخرج منها أميركا إلا بحدوث الحرب العالمية الثانية.
فكانت فترة ما بين الحربين فترة مخاض ولكنها عسيرة حيث تولد عنها حرب ضروس وهي الحرب العالمية الثانية، التي طالت العالم بأسره بشدّة إلا الولايات المتحدة الأميركية.
وجد في أميركا حشد من المفكرين والسياسيين والاقتصاديين، فقاموا بدراسة شاملة وعمليات مسح عالمية. رأت أميركا آنذاك أنه قد آن الأوان لأن تأخذ موقعها في العالم، وأن يتنحى عن القيادة دول الاستعمار التقليدي، وأن يستبدل هذا باستعمار جديد بثوب جديد وأساليب جديدة وقيادة جديدة. فكانت هي التي دبرت لإشعال هذه الحرب، حيث إنها هي التي جاءت بهتلر الزعيم النازي، وربطت تشرشل برباطات خانقة، فيها التسليم بالتنحي عن القيادة، وإعطاء زمام القيادة لأميركا.
كان في أميركا آنذاك فائض هائل من الإنتاج الصناعي والغذائي، ضاقت به السوق المحلية، وكانت أوروبا خلال الحرب في أمس الحاجة إلى المعونات والمساعدات، وبخاصة الإنتاج الحربي والأداة القتالية. عندئذٍ رأت أميركا أن فرصتها سانحة فشددت الخناق على حلفائها باتفاقات ومواثيق دخلت بموجبها الحرب، وحسمتها لجانب الحلفاء وأحرزت لهم النصر.
حدوث الحرب العالمية الثانية أنقذ أميركا من أزمتها الاقتصادية التي بدأت سنة 1929 وبدأ التحول في الإنتاج. ففي السنة الأولى من اشتراكها في الحرب، أنتجت المصانع الأميركية (65) ألف طائرة و(45) ألف دبابة و(150) ألف مدفع مضاد. دفعت بها كلها إلى أرض المعركة، حتى استنفدت خزائن أموال الدول الأوروبية المحاربة. فكان القائد العام للجبهة الأوروبية هو الجنرال أيزنهاور، وهو الذي وقع وثيقة استسلام ألمانيا مع الأميرال الكبير زعيم الريخ الجديد بعد انتحار هتلر وهو (كارل دونتز) وتم التوقيع على الاستسلام دون قيد أو شرط في السابع من أيار سنة 1945 في مبنى القيادة العامة لأيزنهاور في (ريمس) بحضور كل الحلفاء على أن الاستسلام لم يصبح نافذاً إلا في اليوم التالي 8 أيار حيث عقدت جلسة بين خرائب برلين وهذه هي التي يعترف بها الروس.
لقد دفعت بريطانيا الثمن غالياً للانتصار في هذه الحرب وهو تنازلها عن هيبتها وتسليم قيادة العالم لغيرها، والتسليم بفتح مستعمراتها لأميركا. وهذا يعني أن ركوب بريطانيا قرنين من الزمن على صدر العالم قد ذهب كله بجرة قلم وهي توقيع تشرشل اتفاق ميثاق الأطلنطي مع روزفلت.
ولما وضعت الحرب العالمية الثانية أوزراها وعاد العالم إلى الحياة العادية (الحياة المدنية) تحولت مصانع الإنتاج الحربي – وبخاصة في أميركا – إلى الإنتاج المدني. لأن أوروبا كانت مدمرة وتحتاج إلى بناء جديد وإعمار جديد. ومع التطور النكنولوجي والإنتاج العلمي المتسارع قفزت مصانع الإنتاج قفزات هائلة توسعاً في حجم الإنتاج ونوعية الإنتاج، وكان وراء التحضير لهذا التحول السريع والهائل عديد من الشركات لا يعرف عدد تفرعاتها وقد لا يلتقي عاملوها مع بعضهم في أي يوم من الأيام، وقد تفصل بينهم مسافات بعيدة. هذه الشركات هي الشركات متعددة الجنسيات. ووقد رأت هذه الشركات أنَّ سوق دولة واحدة مهما بلغت درجة ثرائه أو حجم سكانه لم يكن ليستوعب هذه الوفرة من الإنتاج.
لذا فقد دخل في حساب هذه الشركات حجم السوق العالمي وبات ضمن أهدافها السيطرة عليه. وبالفعل انتقلت آلاف السلع والخدمات خلال العقود الأخيرة من القرن الفائت عبر مختلف بقاع العالم، وكذلك رؤوس الأموال والاستثمارات. حتى إن تصنيع هذه السلع لم يكن يتم في مكان واحد.
كانت هذه الشركات تصطدم ببعض الحدود، حتى انهار الاتحاد السوفيتي، وعندئذٍ خلت الساحة من أي منافس واتسع المجال لهذه الشركات، وانطلقت بكل حرية من أجل بسط هدفها القديم الحديث، وتعميم النظام العالمي الجديد من خلال ما سمي بالعمولمة.
إن الدول النامية أو دول العالم الثالت هي السوق الرحبة للشركات متعددة الجنسيات، نظراً لتعدد سكانها وحجم استهلاكها وكونها مصدراً رئيسياً لمختلف الموارد الأولية.
إن الواقع الذي كانت تعيشه دول العالم الثالث وهو رزوحها عقوداً من السنين تحت نير الاستعمار، فرض عليها أن تخرج من حظائر العبودية إلى نطاق التبعية. فأخذت تسعى لتطوير مجتمعاتها، وحتم عليها ذلك أن تتعامل مع هذه الشركات لنقل التكنولوجيا وبناء الصناعة، ولكن أي تكنولوجيا وأية صناعة؟ إنها التكنولوجيا والصناعة التي تخطط لها وترسم سياستها تلك الشركات، فتطور هذه الدول النامية مرتبط بمصالح هذه الشركات. فبقيت هذه الشركات هي الآلية المحركة لعملية العولمة، وفتح الأسواف وضمان حرية تنقل رأس المال واستثماره.
بعد أن كانت هيمنة الشركات متعددة الجنسيات موزعة على احتكارات النفط والطاقة وصناعة السيارات، امتد نفوذها ليشمل الاحتكارات المرتبطة بالإنتاج العلمي الكثيف والتكنولوجيا ورافق ذلك تحول هذه الشركات إلى مؤسسات ذات رؤوس أموال متعددة الجنسيات لبلدان رأسمالية ودول نامية نجمت عن اندماج الشركات متعددة القوميات مع رأس المال المصرفي، فتحصل الشركات على تمويل محلي من كل بلد يمتد إليه نشاطها، وتبيع أسهمها لمواطنيه، وتقترض من بنوكه، كما تجتذب مدخرات كبيرة من دول العالم الثالث عن طريق البورصات والبنوك العالمية، مما يوفر لها أموالاً ضخمة لتمويل وتطوير البحث بشكل تعجز عنه الكثير من الحكومات المحلية، وأصبح هذا التطور العمود الفقاري للشركات التي أصبحت في أشد الحاجة إلى ثورة المعلومات والاتصالات.
وهناك ظاهرة تتميز بها هذه الشركات الشركات متعددة الجنسيات وهي تعدد الأنشطة التي تشتغل فيها دون أدنى رابط فني بين منتجاتها المختلفة. فهذه شركة (التلفون والتلغراف الدولية) تملك مثلاً فنادق شيراتون. وشركة (تايم وارنر) تشتغل بعدد كبير من شركات الإعلام والنشر والملاهي وستوديوهات هوليود إلى المجلة الأميركية الشهيرة إلى شبكة الأخبار مروراً بالتلفزيون بالكابل. وفي قائمة مجلة (فورشن) نرى سبع شركات (متسوبيشي) متفاوتة المكانات، منها للسيارات وللكهرباء وأخرى بنك، وواحدة للصناعات الثقيلة، وأخرى للكيماويات وميتسوبيشي المصرفية وميتسوبيشي للمواد.
وظاهرة أخرى للشركات متعددة الجنسيات توزيع نشاطها الجغرافي على عشرات الدول بقصد الحصول على مركزية قانونية على أساس الكفاءة والأداء. فمثلاً شركات (ببسي كولا) وشفرات الحلاقة (جليت) وغير ذلك من آلاف السلع المنتجة والمباعة من قبل هذه الشركات لا يمكن السيطرة عليه إدارياً إلا من خلال مركزية عالية.
إن توزيع النشاط الجغرافي يبين لنا مدى تغلغل هذه الشركات في أرجاء العالم. على سبيل المثال: نجد شركة (I.B.M) الأميركية تمتلك (74) فرعاً وشركةً تابعةً لها في العالم، وكل فرع من هذه الفروع يقوم بعمل معين ضمن عموم العملية الإنتاجية، والمركز الرئيسي (الأم) في نيويورك حيث تجتمع العقول الإلكترونية المنتجة في العديد من الدول ضمن مواصفات دقيقة ومحددة في المركز الرئيسي.
ويتبع هذا الوجود والتوسع في العالم ازدياد في حجم الإنتاج دولياً. فقد بلغت المبيعات لأكبر ماية شركة (2) ترليون دولار سنة 1995 بزيادرة مقدارها 26٪ عما كانت عليه سنة 1993 في الوقت الذي بلغ تعداد الشركات الأم (39000) شركة، وعدد الشركات المنتسبة إليها (270000) شركة. كما بلغت الإيرادات لخمسماية شركة متعددة الجنسية سنة 1995 كما أوردتها مجلة (فورشن) الألمانية (11.4) ترليون دولار. وهذا يساوي بالضبط 45٪ من الإنتاج المحلي الإجمالي لدول العالم .
[يتبع]
فتحي سليم
2002-08-19