شيءٌ مِنَ التّاريخ صـقليةُ زمنَ الفتح الإسـلامي
2002/05/01م
المقالات
1,647 زيارة
شيءٌ مِنَ التّاريخ
صـقليةُ زمنَ الفتح الإسـلامي
إن الوجود الإسلامي في صقلية الذي دام 472 عاماً يمثل صفحة عامرة مشرقة في تاريخ الإسلام، صفحة عامرة بالبطولة والتضحية وحمل الدعوة، والاستماتة في سبيل حمل الدعوة وحمايتها. لكنه لم يخل من نكسات حالت دون مواصلة الفتح في عمق أوروبا وكانت من الأسباب الرئيسية في انحسار حمل الدعوة عن وسط أوروبا. ولعل تاريخ الفتوحات الإسلامية لم يعرف فتحاً أعنف وأقسى وأشق من فتح صقلية التي لم يسيطر المسلمون عليها سيطرة كاملة إلا بعد مرور ثلاثة أرباع القرن على نزول الفاتح أسد بن الفرات ورجاله إلى مرسى مزارا في جنوب غرب صقلية الموافق يوم الثلاثاء 18 ربيع الأول سنة 212هـ الموافق 17 يونيو 827م.
============================================
ولقد برز من خلال الفتح الإسلامي في صقلية أبطال أسطوريون انحنى أمامهم العدو احتراماً وتقديراً وأشادت الرواية الأوروبية بصلابة إرادة المسلمين وحسن قيادتهم وتأثيرهم الميداني والشخصي على سير الأحداث وفي طليعة هؤلاء أسد بن الفرات قاضي القيروان العالم الجليل الذي بلغ السبعين من عمره وتطوع لقيادة أول حملة لفتح صقلية ولولا إيمان هذا القائد وتأثيره القوي على الجنود لما تحقق هذا الفتح حيث انبهر المؤرخ الإيطالي أماري بشخصية هذا القائد في زهده وإيمانه، وقال عنه إنه رجل يتطلع إلى ما وراء هذا العالم ويتخذ من العلم والجهاد وسيلة لبلوغ الرسالة التي خرج من أجلها. وكذلك المجاهد إبراهيم الثاني الأغلبي الذي تخلى عن الملك لابنه عبد الله وجاء إلى صقلية مجاهداً زاهداً يبغي مجد الإسلام، وقد استطاع بحزمه وإيمانه أن يحقق للمسلمين السيطرة الكاملة على الجزيرة بعد اقتحام قلعة طيرمينة في عام 279هـ الموافق 902م وطرد آخر بيزنطي من صقلية. وكان إبراهيم يرمي إلى مواصلة التقدم في إيطاليا شمالاً والوصول إلى روما لفتحها مصداقاً لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أن المرض لم يمهله لتحقيق حلمه فقضى نحبه قرب أسوار مدينة كوسنـزا. والمجاهد الثالث هو عباس بن الفضل الذي قاد جيوش أبي الأغلب إبراهيم أمير صقلية والذي تولى القيادة من بعده وكان له الفضل في فتح المسلمين قصربانه التي كانت من أهم المعاقل الدفاعية للجيش البيزنطي وذلك سنة 244هـ 859م) وفي إلحاق هزيمة نكراء بأسطول بنـزنطية قرب سيراكوزا واعتبر المؤرخون الأوروبيون عباس بن الفضل من أمهر وألمع القادة المسلمين الذين واجهتهم الجيوش الأوروبية.
أصبح المسلمون منذ انتصارات إبراهيم الثاني حتى بداية الغزو النورماني أسياداً بدون منازع لجزيرة صقلية لمدة مئة وخمسين عاماً تخللتها معارك وغارات وحملات متبادلة بين المسلمين والأوروبيين. ومع ذلك ظلت صقلية طيلة هذه الفترة أرضاً إسلامية واعتنق الكثير من أهل البلاد الدين الإسلامي وانخرطوا في الجهاد وشاركوا في فتح مالطة وبرز منهم كثير من الرجال الذين تبؤوا مناصب مهمة في صقلية نفسها وفي الأندلس ويكفي أن نذكر منهم جوهر الصقلي الذي وطد أركان الدولة الفاطمية وقد اعتبر المؤرخون أن التسعين عاماً التي حكمت الجزيرة خلالها الأسرة الكلبية الموالية للفاطميين العصر الذهبي لصقلية من حيث انتشار العلوم والفنون والثقافة ومن حيث ازدياد القوة العسكرية وحماية الجزيرة من الهجمات والغارات المعادية. وقد عرفت أوروبا الطب والفلسفة والعلوم والفنون المعمارية والحرير المطرز والتحف والنفائس عن طريق فتح المسلمين لصقلية.
وقد جعل الفتح الإسلامي لصقلية البحر المتوسط بحيرة تحت السيادة الإسلامية الكاملة وأصبحت صقلية قاعدة تنطلق منها الحملات والغزوات الإسلامية التي شملت جميع أنحاء إيطاليا من البندقية أو جنوا إلى روما وباري وعلى طول ساحل البحر الأدرياتيكي.
لقد استمر سلطان الإسلام مستقراً في صقلية، ينشر الهدى والنور فيها وما حولها إلى أن دب التنازع والشقاق في صفوف المسلمين، فبدأ سلطانهم ينحدر، فاستغل الفرصة (روجير النورماني) فغزا الجزيرة سنة 1136م. يقول ابن الأثير إن مسلمي صقلية أرسلوا وفداً إلى المعز بن باديس لطلب النجدة فأعد أسطولاً وقوات كبيرة ثم وجهها إلى صقلية إلا أنها تعرضت للغرق إثر عاصفة بحرية قرب نتللريا وبعد وفاة المعز وفقاً لرواية ابن الأثير أرسل ابنه تميم نجدة إلى صقلية بقيادة ولديه أيوب وعلي لكنهما انسحبا وعادا إلى إفريقيا بجنودهما وتركا صقلية إلى مصيرها.
لقد صاحب الغزو النورماني لصقلية هجرة إسلامية واسعة إلى إفريقيا ومصر وغيرها من البلدان العربية وعندما سيطر النورمانيون على الجزيرة قُدر عدد المسلمين الذين ظلوا بصقلية ما بين المئة والثلاثمائة ألف مسلم من العرب والبربر والصقليين الذين اعتنقوا الإسلام وقد تجمع القسم الأكبر منهم في بالرمو وساحل (مازار) وسهولها.
وشهدت صقلية أول مذبحة للمسلمين بعد وفاة روجير الثاني سنة 1161 حيث قتل عدد كبير منهم في أعنف حملة تطهير ودمرت أحياؤهم السكنية ونهبت أموالهم ومتاجرهم وشهد عام 1189م و1190م زوال الوجود الإسلامي من بالرمو ومعظم مدن صقلية وإن ظل يقيم بها أفراد غيروا أسماءهم واعتنقوا المسيحية. إزاء هذا العداء الصارخ هب ما تبقى من المسلمين للدفاع عن أنفسهم وأرواحهم ودينهم وتزعم هذه الحركة حسب رواية ابن جبير عدد من القادة برز من بينهم محمد بن عباد الذي عرفته الرواية الأوروبية باسم (المرابط) وقام بثورته ما بين العقدين الثاني والثالث من القرن الثالث عشر وشغل قوات فردريك في معارك قاسية. لكن فردريك استطاع أن يحاصر ابن عباد وضيق الخناق عليه حتى استسلم بشرط ان يتمكن من مغادرة صقلية مع أولاده إلى إفريقيا ووعده فردريك بذلك إلا أنه غدر به ونقله إلى بالرمو حيث أعدمه مع اثنين من أولاده وواصلت من بعده القتال ابنته التي لم يذكر اسمها. وكذلك أورد الحميري قصة ابن العباد ومقاومته ومن ثم إعدامه حيث قال إن فردريك وعد محمد بن عباد بأن يسمح له بالسفر مع أولاده إذا استسلم إلا ابنته رفضت الاستسلام ونصحت أباها بعدم الاستسلام وعندما رفض نصيحتها فضلت البقاء في القلعة ومعرفة ما سوف ينتهي إليه أمر والدها وعندما علمت بما حل بوالدها واصلت المقاومة وصممت على الاستماتة في القتال فخرجت مع رجالها من القلعة وغارت على جيش فريدريك بغية فك الحصار 619هـ ـ 1222/1223م وصممت على الانتقام لوالدها وذات يوم أرسلت إلى فريدريك تعلمه أنها تريد الاستسلام ولكنها تخشى ممانعة رجالها لها. ولذلك فإنها تطلب منه إرسال ثلاثمائة فارس من خيرة رجاله ليلاً وأخبرته أنها سوف تفتح لهم القلعة وتمكنهم من الاستيلاء على القلعة وسر فردريك من الفكرة وأرسل إليها فرسانه وفي الصباح توجه فريدريك إلى القلعة ففوجئ برؤيته رؤوس فرسانه تتدلى فوق أسوار قلعة عنتبلا وحاول فريدريك استدراجها بالحيلة والإغراء فأمنها على حياتها إذا استسلمت ووعدها بالزواج إلا أنها واصلت المقاومة مع رجالها والحصار الطويل حتى نفذت المؤن والأغذية من القلعة واشتد بها وبرجالها الحال إلا أنها قتلت في معركة مع من كان معها من المسلمين دون استسلام وبعدها اقتحم فريدريك القلعة واستولى على من تبقى منها واختتم ما تبقى من الفصل الأخير من حياة المسلمين داخل جنوب إيطاليا ببطولة فتاة مسلمة ضربت أروع مثل في الشجاعة والإباء والتضحية وسط سلسلة من التخاذل والخيانة والأنانية وقصر النظر الذي قضى على ثاني سلطان إسلامي في أوروبا بعد الأندلس. إلا أنه لم تنته المقاومة بعد استشهاد بطلة غنتيلا بل استمرت المقاومة في جرجنت الأمر الذي دفع فريدريك إلى إبعاد المسلمين خارج صقلية واختار لهم موقع لوتشيرا على فترات زمنية امتدت حتى منتصف القرن الثالث عشر وفي أواخر القرن الثالث عشر في صيف عام 1300 هجم الإيطاليون على لوتشيرا وكانت حملة صليبية اشترك الجميع فيها وفي ذبح وقتل المسلمين رجالاً ونساءً وأطفالاً وشيوخاً ونهب أموالهم وممتلكاتهم ودمروا المساكن وتقاسموا أراضيها وقضى على البقية من المسلمين وأزيل وجودهم نهائياً من إيطاليا بعد أن دام 472 عاماً .
عويد العجرفي
2002-05-01