الخـوْفُ منَ اللّهِ يُوَلِّدُ في النَّفْسِ الرُّجُولَةَ والعِزَّةَ والكَرامَةَ
2002/04/19م
المقالات
3,135 زيارة
إن الخوف طبيعي في الإنسان لأنه مظهر من مظاهر غريزة حب البقاء فيه. وعندما يتحرك هذا المظهر بشيء ما، فإن الإنسان يواجهه بدافع العقيدة عنده، ويكيف سلوكه حسب مفهومه عن الشيء الذي أثار خوفه، فإن كان هذا الفهم خاطئاً ولَّد سلوكاً خاطئاً، وإن كان الفهم سليماً ولَّد سلوكاً صحيحاً.
وعليه فإن الخوف قد يولِّد جُبناً وذلاًّ إذا كان نابعاً من خشية الناس والتزلف لهم طلباً لرضاهم وطلباً لمتع الدنيا عندهم، وقد يولِّد عزّاً وعظمة إذا كان نابعاً من خشية الله سبحانه طلباً لرضوانه ونعيم جناته. وإنه لحريّ بالمسلمين الذين يتطلعون إلى النهوض من كبوتهم التي طال ليلها، أن لا يخشوْا إلاّ الله القاهر فوق عباده، فيكونوا عظماء في عبادتهم أعزّةً في حياتهم ومماتهم.
==========================================
يقول سبحانه: (وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين @ وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين @ فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين) (المائدة)، وقال أيضاً: (الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد) (الزمر)، كما قال كذلك جل من قائل: (والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب @ والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية ويدرؤون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار @ جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم يدخلون عليهم من كل باب @ سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار) (الرعد)، وهكذا مع بقية الآيات التي ما انفكت تمدح المطيعين وتثني عليهم بما فاضت عليه قلوبهم من خشية الله سبحانه وتعالى ـ إذ هم يخشون غضبه وعذابه في كل لحظة ويسعون لنوال رضوانه ويطمعون في ثوابه.
وإذا ما طبع مثل هذا اللون في قلب إنسان أصبح رجلاً من أولئك الذين ذكرهم الله في كتابه الكريم، قال عز وجل: (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا) (الأحزاب) وقال: (رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار @ ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب)(النور)، وعليه فإن هذه النبتة الزكية الطيبة إذا زرعت بذرتها في قلب الرجل المؤمن وتأصلت فيه أثمرت وأعطت خيراً كثيراً، بخلاف القلب المريض الذي لا يصلح لمثل هذه البذرة الزكية لأن تربته فاسدة ولا تصلح إلا للخبيث الأدنى، ولذلك كانت القلوب نوعان، نوع صالح طيب، يخاف الله في السر والعلن، ويخشى على فساد علاقته به ـ سبحانه وتعالى ـ، فيسعى جاهداً في طلب رضوانه، ولو بشراء سخط الآخرين. ونوع مريض فاسد لا يخشى الله ولا يخافه ويجهر بالمعصية، ولا يلتفت إلى العلاقة التي تربطه بخالقه، ولا يقيم لها أي وزن أو حساب، وتراه يشتري رضاء الآخرين بسخط الله عليه، وتبعاً لهذه القلوب تصنف الرجال وتقوَمُ الأعمال، فالرجل الذي يقوم إلى سلطان جائر ينصحه، فيأخذه السلطان ويقتله، لا يضاهيه رجل آتاه الله المعرفة بدينه فيجلس في بلاط السلطان الجائر يصنف له من الفتاوى ما يبرر له الأعمال (وما أكثرهم هذه الأيام). فالأول قال فيه الإسلام إنه إذا قتل على يد سلطان جائر وهو يؤدي له النصح فهو شهيد. أما الثاني الذي يتخذ من عمامته البيضاء صلاحية تغيير الكلم عن موضعه والتقول على الله، ولَيّ أعناق النصوص ليخرجها عن مضمونها والغرض الذي وضعت من أجله، ليرضي بها هوى السلطان، فهو الذي قال فيه الله ـ عز وجل ـ: (إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمناً قليلاً أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم) (البقرة) وفي آية أخرى يقول: (وإن منهم لفريقاً يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون) (آل عمران).
وهكذا يكون عمى القلوب الخالية من تقوى الله وخشيته، والمحشوة بالخوف من الطواغيت وأولياء الشيطان، ولذا فإن القلوب إذا عميت صار احتسابها لغضب الجبابرة يسبق احتسابها لغضب الله، فتهون في أعينهم الآخرة بثوابها وعقابها، وتباع مقابل متاع الدنيا الزائل الرخيص!! ومن ثم لا نعجب للفتاوى الغريبة التي تصدر عن مثل هؤلاء الأشخاص، من قبيل جواز الصلح مع دولة يهود، وجواز الاستعانة بالكفار على المسلمين، وقتل (البغاة) الذين يخرجون على الحاكم الذي يحكم بالكفر البواح، وجواز استباحة دماء وأموال وأعراض المخلصين من شباب هذه الأمة، من الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر لأنهم (إرهابيون ومتطرفون ومارقون عن طاعة ولي الأمر) إلى غير ذلك من الفتاوى التي يصوغها هؤلاء الذين باعوا أنفسهم لحكام السوء، فوظفوهم في غاياتهم وأهدافهم الإجرامية أيما توظيف.
وعليه فإن الخوف من الجليل القدير علامة من علامات التقوى والورع، وهو اللون الوحيد الذي يكون خالصاً لله رب العالمين من الأنفس والجوارح، وهذا اللون بالذات يحفظ صاحبه من الوقوع في شراك الطواغيت، واستمالات أولياء الشياطين. وصاحب هذا اللون لا تؤثر فيه أعمال الإرهاب ولا تثنيه عن القيام بالواجب المنوط بعهدته (من عمل صالح وتضحية في سبيل دين الله وتخليص الأمة وتحريرها من قيود الاستعمار وعملائه وبطانة سوئهم) أدواتُ التعذيب وسياط الجلادين، فهؤلاء الرجال لا تزجرهم السجون ولا تفزعهم حبال المشانق ورصاص البنادق، كل ذلك وما يشابهه يهون في أعينهم في سبيل طلب رضوان الله عز وجل. ولقد أمدنا كتاب الله وكتب السيّر بأمثلة حية عن عظمة أولئك الرجال الذين وقفوا بشهامة أمام الطاغوت، قال سبحانه وتعالى في حق السحرة الذين أتى بهم فرعون لمحاججة موسى عليه السلام: (قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلسوف تعلمون لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم أجمعين @ قالوا لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون @ إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أول المؤمنين) (الشعراء)، وفي موضع آخر يقول: (قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا @ إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى @ إنه من يأت ربه مجرماً فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى) (طه)، فإغراءات فرعون لم تؤثر في إيمان هؤلاء الرجال، وتهديداته لم تثنهم عن عصيانه والعزم على اتباع موسى عليه السلام لَمّا تبينوا منه الحق. وفرعون تلك العصور أو فراعنة هذا الزمان لن يستطيعوا مهما أوتوا من قوة وعتاد أن يثنوا عزم الرجال في المضي قدماً على طريق الحق الذي هدوا إليه. ومهما نما غي الجبابرة، فإنهم لن يستطيعوا أن يعطوا لأنفسهم صورة الأسُود الكاسرة التي تخافها حيوانات الغاب، وإنما سيبقون دوماً وأبداً في أعين الرجال، الذين يخافون الله، مجرد فئران هزيلة متحصنة بأسوار جحورها المحروسة بالليل والنهار.
وميزة الإيمان بالله الواحد القهار، والخوف من بطشه وانتقامه، أنها تصقل قلوب الرجال وتزيل عنها ما علق بها من صدأ، وتملؤها شجاعةً وجرأةً وإقداماً، كجرأة خير الرجال، نذكر منهم على سبيل الذكر لا الحصر ـ سفيان الثوري، وأبي حنيفة، والإمام النووي، وابن قيم الجوزية، وابن تيمية، والشيخ عبد العزيز بدري وشيخ الإسلام مصطفى صبري، وسيد قطب، وعبد القادر عودة ـ وغيرهم كثيرون، رحمهم الله جميعاً وبارك فيهم وفي أمثالهم وفي من يعمل بعملهم، ويقتدي برجولتهم وشهامتهم، فأولئك الرجال وأمثالهم شرف هذه الأمة وعنوان فخرها ورجولتها، فجميعهم أبوْا أن يعيشوا عيش الجبناء الراكعين الفاقدين لنخوة الرجولة وشهامة العظماء، واختاروا الموت، أو السجون، أو الهجرة، على العيش الذليل بين يدي الطغمة الغاشمة. وعلى هذا الأساس يجب أن تفهم مشكلة الخوف، وأن توظف بشكل صحيح.
وزيادةً على ماتقدم، فإني أرى من الواجب، هنا، أن أورد كلمة شرح إضافية على هذه المسألة.
الخوف من اللّه هو السبيل الأوحد للتخلص من العبودية و الاستذلال
إعلم أن الخوف من الله، سبحانه وتعالى، هو المخرج الوحيد من العبودية، إذ له القدرة على تحرير الإنسان من نفسه ومن غيره، بخلاف الخوف من غير الله، فإنه يكبل الإنسان ويجعله عبداً مستعبداً في نفسه وعند غيره، أي أسير نفسه وأسيراً في قفص غيره، ذلك أن الذي يخاف الله يكون على مقاومة دائمة لشهوات الدنيا وشهوات النفس ولا يخلد إلى الأرض ولا يغتر بزخرفها وزينتها ولا يتأثر ببهرجتها، ولا تكون الدنيا كل همه، ولا غايته وهدفه، بل ينظر لها نظرة ازدراء، ولا تزيد عنده عن كونها جسراً معقوداً بينها وبين الآخرة، حيث لا يأخذ في طريق عبوره إليها إلا النصيب الذي أشار إليه القرآن العظيم، إذ قال الله تعالى: (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين) (القصص)، وتبعاً لمفهوم هذا التحرر من قيود الدنيا وحبال شهواتها، يكون المرء قد تخلص من ثقل التبعية والاستذلال لغير الله، فلا تلزمه بعد ذلك في الأرض أي تبعية وأي سلطة إلا تبعية شرع الله وسيادته عليه، ولا يستسلم في هذه الدنيا لغير الله عز وجل، وهذا النموذج من الأشخاص يختلف في واقعه عن الصنف الهابط من أولئك الذين استهوتهم الدنيا، فأغرتهم بزخرفها وزينتها وبهرجتها، فرضخوا لها باستسلام مطلق، ظانين أنهم بانشغالهم بها، وبحيازة ما يقع تحت أيديهم من خيراتها سيخلدون فيها، فترى الواحد منهم منكباً على وجهه ومائلاً كل الميل للشهوات والملذات، مطلقاً العنان لغرائزه تركض به ركض الوحوش في البراري، وبمقتضى هذا الركض نحو الشهوات والإخلاد إلى الأرض، يكون قد حكم على نفسه بالأسر الدائمي سواء في ذاته أو عند غيره ممن يملكون النفوذ عليه برغيف العيش، فيكون حينئذٍ خاضعاً لإرادتهم ورهين أمرهم وإشارتهم، وملزماً بطاعتهم ومقيداً برغباتهم، لا يستطيع الإفلات من قبضتهم وغير قادر على التحرر منهم، فيفقد حينئذٍ كل مقومات المروءة والعزة والكرامة، وتضيع منه نخوة الرجولة، ويبقى حبيساً ذليلاً. ثم كيف يتصور أن يكون لمثل هذا الصنف من البشر العزة والكرامة، وهم أداة مطواعة بأيدي حكام السوء وطواغيت الدنيا، ويوجهونهم ضد أمتهم وأبناء جلدتهم، فيمتثلون لأوامرهم من غير عصيان، يطاردون حَمَلَةَ الإسلام، يعتقلونهم ويعذبونهم إرضاءً لأسيادهم الطغاة الذين يتبرأون منهم يوم القيامة عندما يرون مقاعدهم من النار كما قال سبحانه: (إذ تبرأ الذين اتُبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب @ وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرؤوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار) (البقرة).
وأخيراً نقول إن الخوف من الله الخالق سبحانه وطلب رضوانه يرفع المرء إلى أعلى عليين ويجعله في الدرجات العلى، والخوف من المخلوقات لإرضائهم في سخط الله يُنـزل المرءَ إلى الدركات الدنيا (يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم) (محمد). جعلنا الله ممن يتقونه سبحانه حق تقاته ولا يخافون في الله لومة لائم فنفوز كما فاز الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه رضوان الله عليهم (وبشر المؤمنين) (التوبة) .
خالد إبراهيم
2002-04-19