العالَم ما بَعد الحادي عشر من أيلول: هل تبقى أميركا مهيمنةً عليه؟
2002/04/19م
المقالات
2,473 زيارة
منذ أن تولى بوش سدة الحكم في أميركا بعد عملية مخاض انتخابي عسير، بدأت إدارته الجمهورية الجديدة بإعادة دراسة وتقييم الأوضاع الدولية متلمسة بحذر الدخول في عتبة موقف دولي جديد، وبدأ منظرو الفكر السياسي الريغاني بالتنظير وبالعمل على تهيئة الرأي العام الأميركي لإدخال أميركا في عصر جديد وإنهاء فترة التردد والحيرة التي انتابت مدة حكم كلينتون التي سادت فترة التسعينيات من القرن الماضي.
===========================================
وبعد ترتيب الأوراق في الأشهر الثلاثة الأولى من حكم بوش شرعت إدارته باتخاذ القرارات المثيرة أحادية اللغة وكان من أبرز هذه القرارات انسحاب أميركا من اتفاق كيوتو الحراري واستئناف العمل بمشروع الدرع الصاروخي وانسحابها من ثم من اتفاقية (آي بي إم) لخفض نشر الصواريخ الباليستية الموقعة عام 1972م والتي كانت تعتبر المرجعية الرئيسية للعلاقات التسلحية بين الدول العظمى في العالم.
وكانت دوافع هذه الإجراءات شعور أميركا بالتفوق في المجالات التكنولوجية والاقتصادية والعسكرية وإحساسها بأن العالم بات يقلدها حتى في طراز معيشتها وطريقة عيشها، لدرجة أنها أصبحت تحدد للعالم نوعية الأذواق الخاصة بالأمور الخصوصية كالمأكل والملبس.
وجاءت تفجيرات مركز التجارة والبنتاغون في نيويورك وواشنطن فدفعت أميركا للإسراع في التحول بالعالم نحو منعطف دولي جديد تتصرف بعده بوصفها السيد الأوحد لهذا العالم، فلا ترى الأشياء إلاّ بمنظورها، ولا تولي اهتماماً لغيرها، ولا تشارك حلفاءها إلاّ مشاركة الصغار والأتباع.
لقد كانت أحداث الحادي عشر من أيلول بالنسبة لها بمثابة الصاعق الذي فجَّر قنبلة هيمنتها الجاهزة في وجه العالم، لتكمل بها آخر قطعة في رقعة الشطرنج الدولية التي وضعت تصميماتها وبدأت في عملية التطبيق.
وبحجة محاربة الإرهاب ومطاردة تنظيم القاعدة وحركة طالبان فرضت أميركا قيادتها على العالم وأقحمت جميع دوله في لعبتها الجديدة وادعت بأن من لا يسير في ركابها فإنه يقف ضدها بالضرورة، وهكذا استفادت من أحداث الحادي عشر من أيلول في منح سياسة التفرد التي انتهجتها أميركا قوة دفع هائلة.
فالموقف الدولي بعد أحداث 11 أيلول هو غيره قبل هذا التاريخ، إذ لم تعد أميركا تحتاج إلى اللجوء إلى الأمم المتحدة أو مجلس الأمن أو حتى إلى حلف شمال الأطلسي الذي تتزعمه بنفسها، فهي تقوم بما تشاء كما تشاء بغض النظر عن اعتراض الآخرين ــ إن وجد ــ على سياستها.
وأبرز ما في هذا الموقف الدولي الجديد الذي نجم عن هذه الأحداث يكمن في إسقاط سياسة عدم الحسم والتردد التي نتجت بعد سقوط الاتحاد السوفياتي عقب انتهاء الحرب الباردة، وسياسة الوفاق، فلم تعد سياسة المشاركة بين الديموقراطيات الغربية الكبرى هي المعمول بها وإنما أصبحت سياسة التفرد الأميركية هي السائدة وعلى الآخرين الخضوع لا المشاركة.
لقد اصطنعت الإدارة الأميركية شعوراً عاماً عند الأميركيين بأنهم مستهدفون وبأن شبح الإرهاب يطاردهم وبأنهم في حالة حرب حقيقية ضد الإرهاب وبأنهم سينتصرون فيها، وأدى هذا الشعور إلى حجب رؤيتهم عن كل شيء سوى الإرهاب، ونجحت الإدارة الأميركية في خلق هذا الشعور وجعله سائداً على الرأي العام بشكل شبه مطلق. والذي زاد من هذا الشعور تعزيزاً هو الانتصار السهل الذي تحقق للأميركيين في أفغانستان الأمر الذي جعلهم يتبجحون بأنهم يستطيعون قيادة العالم بسهولة ويسر، فقد قال بوش بأن العالم لن ينعم بالسلام إلاّ في ظل القيادة الأميركية فقط.
وهكذا تم خلق انطباع عند الأميركيين بأنهم سادة العالم وبأن العالم يجب أن ينقاد لأوامرهم، وبأنه لا يوجد من يستحق مشاورته وأخذ رأيه في هذا العالم (القرية الصغيرة) على حد وصفهم، وكان لهذا التحول الدولي الجديد أثر كبير على الأوروبيين فزلزل كيانهم وأضر بنفوذهم وأطاح بتطلعاتهم، فما كان منهم إلاّ أن بدءوا بالمواجهة والمقاومة، وتزعمت فرنسا حرب الكلمات وبدأت تهزأ بالسياسة الأميركية الانفرادية وتتهم السياسة الأميركية بالسذاجة والتبسيط، وتلتها ألمانيا ثم بريطانيا على استحياء وهاجموا جميعاً السياسة الأميركية من أوجه مختلفة، وبدأ التصدع في دول التحالف يتكشف ويظهر علناً. ولكن أميركا لم تكترث به وقالت بأنها سوف تحارب العراق سواء مع دول التحالف أو وحدها، وأثارت التوتر في الأجواء العالمية وادعت بأن هنالك محوراً للشر يتمثل في العراق وإيران وكوريا الشمالية، وحاولت إشغال العالم بأجواء الإرهاب والرعب لتستمر في قيادته بشكل سلس.
وكان المسلمون هم المتضرر الأول من هذا التحول الدولي الدراماتيكي وتلك السياسة الأميركية الجديدة، وكالعادة ذبح الآلاف منهم في أفغانستان بغير ذنب ولا جريرة وديس على كرامتهم وطلب من حكامهم العملاء تقديم المزيد من الخدمات العسكرية والأمنية والاقتصادية والثقافية وتحولت بلدان المسلمين إلى مستعمرات حقيقية لدوائر الأمن الأميركية وتم عولمة المعلومات الاستخبارية وقدمت لأميركا الملفات والمعلومات والتسهيلات لتمكينها من بسط احتلالها الجديد على البلدان الإسلامية جمعاء.
على أن أكبر هدف تسعى أميركا لتحقيقه الآن هو بسط سيطرتها العسكرية والأمنية والاقتصادية على وسط آسيا لكبح الصحوة الإسلامية المتنامية هناك ولملء الفراغ الأمني الاستراتيجي في الجمهوريات السوفياتية السابقة الذي نشأ عن عجز روسيا عن ملئه ولشفط ونهب نفط وغاز بحر قزوين البكر ولتأمين خطوط نقل مريحة ومربحة اقتصادياً. لذلك نجحت أميركا بسهولة في إقامة قواعد لها في أوزبيكستان وقرغيزستان وطاجيكستان فضلاً عن أفغانستان وباكستان، ونجحت حديثاً في إنزال قوات لها في جورجيا وأذربيجان والبقية تأتي. وبذلك جثمت أميركا بكل ثقلها على وسط وجنوب آسيا بسيطرتها على جمهوريات آسيا الوسطى بالإضافة إلى باكستان وأفغانستان، وأكملت بذلك سيطرتها على القوس الإسلامي المضطرب الممتد من سنغافورة شرقاً إلى عدن ودول شمال إفريقيا غرباً بحسب الرؤية الأميركية.
وأما هدفها الثاني فهو يتمثل في إحكام قبضتها على منطقة الشرق الأوسط وذلك بتحقيق أمرين:
الأول: السيطرة المطلقة على النفط والتخلص من قوة العراق.
الثاني: إنهاء القضية الفلسطينية بإنشاء دويلة فلسطينية منـزوعة السلاح، ناقصة السيادة، في أجزاء من الضفة والقطاع، بجوار دولة قوية لليهود في معظم فلسطين ضمن حدود محدّدة وآمنة من قبل الدول العربية، ومعترف بها من جميع هذه الدول بل وكل الدول القائمة في البلاد الإسلامية.
أما الحل الذي اعتمدته أميركا لتحقيق هذين الهدفين فقد كان القوة العسكرية، فهي تتوعد وتهدد بضرب العراق بالسلاح النووي، كما أنها أعطت الضوء الأخضر لشارون لارتكاب المجازر المتصاعدة في فلسطين باستعمال الأسلحة المدمرة التي زودته بها، ثم الالتفاف على أعمال المقاومة البطولية الجارية في فلسطين ضد الجرائم الوحشية لدولة يهود، الالتفاف عليها وإيقافها، بعد أن أدمت الجسم اليهودي، ثم الانطلاق للحلول التفاوضية مع يهود وإنهاء القضية بالكيفية التي تريد، لتحقيق مصالحها وإبقاء الكيان اليهودي خنجراً في جسم الأمة الإسلامية.
لقد أعمت القوة العسكرية أميركا وأصبحت ترى أن المشاكل الدولية والإقليمية تحل بالبلطجة العسكرية، وقد دفعها هذا لبذل الوسع في أن تمسك وحدها بناصية القوة العسكرية المتطورة، ففي الوقت الذي تركز فيه أميركا على تقوية نفسها عسكرياً فتبادر إلى بناء منظومة دفاع صواريخية جديدة، وفي الوقت الذي تسعى فيه لامتلاك كل أنواع أسلحة الدمار، تحاول أميركا حرمان غيرها من اقتناء هذا السلاح الفتاك، فتدمر الأسلحة النووية في أوكرانيا وروسيا البيضاء وتدفع لهما أموالاً مقابل ذلك، وتحظر انتشار السلاح وتكنولوجيا السلاح على الدول التي تسميها مارقة، وتفرض حصاراً عسكرياً على العراق وليبيا وتزود مصر بصواريخ لا يصل مداها إلى إسرائيل، وتحجب المعلومات التقنية العالية عن أوروبا. وهي في الوقت نفسه أكبر مصدر للسلاح البدائي ولسلاح الخردة في العالم.
كما أنها لم تكتف بتفوق قواتها النوعي والكمي وإنما ركزت على بناء قواعد أرضية لها في كل منطقة دخلتها فقرقيزيا وطاجيكستان وأوزبيكستان وأفغانستان وباكستان وتركمنستان هذه ستة دول إما أنها أقامت فيها قواعد أو استخدمت فيها قواعد سبق أن أقيمت أو أنها تتفاوض على استئجار وإقامة قواعد جديدة فيها، وأما أذربيجان وجورجيا فقد بدأت أميركا بإدخال قواتها للتدريبات المشتركة فيها كتوطئة لإقامة قواعد فيها وكذلك الفلبين، هذا بالإضافة إلى قواعدها في الخليج وفي شرق جنوب آسيا. فإقامة أميركا للقواعد العسكرية الأرضية يعتبر الرديف الحقيقي الذي لا غنى عنه للقوة العسكرية المتحركة.
وقد ترتب على ذلك أن تحولت الدبلوماسية الأميركية إلى قيام المبعوثين الأميركيين بالتجوال في عواصم العالم وهم يحملون الطلبات والأوامر أو وهم يستلمون الموافقات ونتائج تطبيق تلك الطلبات والأوامر، فلم يعد العمل الدبلوماسي الأميركي يحتاج إلى مفاوضات ومحاولات مضنية للإقناع فالحكومات الباكستانية والسودانية تقدم المعلومات المطلوبة أولاً بأول.
ولم تعد أميركا تأبه لفضح العملاء وإحراجهم، فسهولة انقياد هؤلاء العملاء لأميركا وسرعة تنفيذهم للأوامر أغراها باتخاذ أساليب فوقية متغطرسة ضاربة بعرض الحائط حتى المجاملات الدبلوماسية المتعارف عليها، ولقد أصبح ديدن الإعلام الأميركي مهاجمة السعودية ومصر أقرب عملائها.
ونتج عن هذه (العنجهية) العسكرية كذلك أن وضعت أميركا قاعدة سياسية دولية في التعامل الدولي ــ بحجة محاربة الإرهاب ــ تقوم على أساس قاعدة ــ إما معنا أو ضدنا ــ وهذا أوجد تعاوناً تاماً في المجال الأمني والتجسسي لصالح أميركا مع كل الدول لا فرق بين سوريا والسعودية أو الباكستان وإيران أو السودان وليبيا فكل هذه الدول مستعدة وتقوم ـ بل وقامت بالفعل ـ بالتعاون الأمني مع أميركا وسلمتها المعلومات الأمنية وطبقت الخطط الأمنية المرسومة لها من قبل أميركا ولا فرق في ذلك بين الباكستان والسودان ولا بين مصر وإيران فكل هذه الدول تنفذ خطط أميركا الأمنية حتى بدأ مصطلح العولمة الأمنية ستاراً يغطي هذه الحقيقة المؤلمة.
إن مواجهة أميركا وإيقافها عند حدها ثم زحزحتها عن عرشها ومن ثم إسقاطها أمر لن يحصل قطّ إلا على يد دولة الخـلافة الإسلامية، تلك الدولة التي تملك ما لا تملكه أميركا، إنها تملك البديل الحضاري الأرقى من حضارة الغرب، تملك الإسلام عقيدة وشريعة ونظام حياة، حملاً وتطبيقاً.
فدولة الخـلافة هي الوحيدة القادرة على زحزحة أميركا ووقف طغيانها إن شاء الله تعالى. وهذه سنة الحياة أن الدول لا تسقط إلاّ بفعل فاعل، فهي لا تسقط بزلزال أو بركان، فلا يسقطها غير قوىً أخرى تملك مقومات الحياة الأقوى منها.
والدولة الإسلامية هي الوحيدة التي تملك تلك المقومات، ولسوف تقوم هذه الدولة عاجلاً أم آجلاً بإذن الله ولا يمكن أن يستمر العالم خاضعاً لأميركا ولظلمها، ولا بد للمقهور أن يثور وأن يتحرك، ولن تثمر ثورة ولا حركة من غير المبدأ الصحيح الذي يتوافق مع الفطرة ويتواءم مع العقل، والإسلام هو ذلك المبدأ الذي ينتظر دولة تحمله إلى العالم تتصدى لأميركا وتقهرها وتنصف المظلومين وتحق الحق ولو كره الكافرون .
أ. ح ـ بيت المقدس
2002-04-19