أميركا والاستعمار العسكري الجديد
2002/04/19م
المقالات
2,798 زيارة
لقد كانت الدول الأوروبية، في القرن التاسع عشر، تتباهى بوجود المستعمرات لها، وبكثرة هذه المستعمرات، وكان الاستعمار العسكري أسلوباً عند الدول الاستعمارية لإخضاع المستعمرات والإمساك بها، وكانت على رأس هذه الدول الاستعمارية إنجلترا وفرنسا. واستمر الحال حتى الحرب العالمية الثانية حين أنشئت منظمة الأمم المتحدة، وأنشئت فيها لجان لتصفية الاستعمار، ولدعم حق تقرير المصير، والاستقلال للشعوب المستعمرة. إنَّ أميركا كان لها الدور الكبير في إنشاء هذه اللجان لأنه لم يكن لها آنذاك مستعمرات مثل بريطانيا وفرنسا، فأرادت تصفية الاستعمار القديم (وكان أبرز أشكاله الاستعمار العسكري) لكي يخلو الجو لها لتزرع مكانه استعمارها الجديد المقنّع بالقروض المالية والمشروعات الاقتصادية، ومساعدات النقطة الرابعة…
===============================================
وقد ساهم الاتحاد السوفييتي السابق في الحملة ضد الاستعمار كجزء من صراعه مع الرأسمالية والدول الاستعمارية القديمة. وكان من جراء ذلك أن صار في العالم رأي عام ضد الاستعمار، وبخاصة العسكري لأنه بارز وبشع. ونتيجةً لذلك، فقد اضطرت بريطانيا أن تسحب قواتها من قناة السويس ثم من محميات الخليج وعدن وبعض دول إفريقيا، واضطرت فرنسا أن تترك الجزائر وكثيراً من دول إفريقيا. لكن هذه الدول المنسحبة بجيوشها قد حاولت ترتيب الأمور لإبقاء الدول التي تسحب قواتها منها مربوطة بها وتابعة لها سياسياً واقتصادياً وولاءً. غير أن أميركا، وقد خرجت من الحرب العالمية الثانية، منتصرة دون أضرار كثيرة مثل أوروبا حيث كانت ميداناً للمعركة، اعتبرت نفسها زعيمة للدول الاستعمارية القديمة، بريطانيا وفرنسا، ورأت أنها لا بد من أن تحل محلها في مستعمراتها. وهكذا استطاعت أميركا أن تحل محل هذه الدول في معظم مستعمراتها، وصارعتها ولا زالت تصارعها فيما بقي من مستعمرات ومناطق نفوذ. لكن هذه الصراعات لا تظهر غالباً إلا للمدقق لأن الأطراف المتصارعة تتجاهل الصراع في العلن، وتتظاهر بالتنسيق والتعاون.
لقد كانت أميركا تركز في صراعها مع الدول الاستعمارية القديمة على ضرب الشكل العسكري من الاستعمار، وتصور الاحتلال العسكري، بالقواعد والجيوش، للمستعمرات تصوره سبة عار للدول الاستعمارية. لذلك كانت تسعى في هيئة الأمم المتحدة وفي وسائل الإعلام لإثارة الرأي العام ضد الاستعمار العسكري والقواعد العسكرية للدول المنافسة لها في الاستعمار.
إلا أن أميركا نفسها قد بدأت تعود إلى الاستعمار العسكري، ولم تعد تعتمد على الأشكال الجديدة من الاستعمار لضمان هيمنتها في مناطق نفوذها، بل صارت من جديد تبني القواعد والمطارات وثكنات الجند في المناطق التي تعتبرها حيوية لمصالحها. لقد أصبحت تلجأ إلى الاستعمار العسكري، والتدخل العسكري، والاعتداء العسكري، والاحتلال العسكري بل صارت تسن قوانين وتضع ميزانيات يقرها الكونجرس علناً للتدخل في شئون الدول الأخرى وبسط نفوذها لتحقيق مصالحها كما فعلت عند عدوانها على العراق في كانون ثاني 1991 بحجة تحرير الكويت، وكما فعلت أيضاً في عدوانها على أفغانستان تشرين أول 2001 بحجة مكافحة الإرهاب. لقد عملت في الحالتين قواعد لها دائمة وهي قائمة في الخليج للجيوش والطائرات ومخازن الأسلحة والمعدات، وهي سائرة في أمثالها في أفغانستان.
فما الذي جعل أميركا تتحول من مهاجمة الاستعمار العسكري والاحتلال بالجيوش والقواعد الدائمة، إلى ممارسة هذا النوع من الاستعمار العسكري والاحتلال بالجيوش والقواعد الدائمة؟
إن أميركا مثل سائر الدول الغربية تقوم على المبدأ الرأسمالي وهو يجعل النفعية مقياساً لجميع الأعمال، فلا يوجد في قاموس الحضارة الرأسمالية عمل إنساني أو روحي أو خيري. وإذا استعمل أتباع الحضارة الغربية مثل هذه الألفاظ فإنهم يستعملونها كشعارات كاذبة. فليس في عقولهم إلا النفعية والسيطرة على خيرات العالم ومص دماء الناس. لذلك فإنَّ الاستعمار للشعوب هو طريقة أساسية في المبدأ الرأسمالي، بواسطته يهيمنون عل مقدرات الشعوب المستعمرة من ثروة وقوة وموقع. وهذا المبدأ يوجد تنافساً بشعاً بين أتباعه للاستحواذ على أكبر قدر ممكن من مناطق الاستعمار والنفوذ. لذلك فإن تسليط أميركا الضوء على الاستعمار القديم، لم يكن المقصود منه القضاء على الاستعمار، فهو طريقة للمبدأ الرأسمالي، بل كان المقصود منه أن تحل أميركا محل الدول الاستعمارية القديمة في مستعمراتها. ولأن أبرز أشكال الاستعمار القديم كان الاستعمار بالجيوش فقد ركزت أميركا عليه حتى تمكنت بشتى الأعمال الدولية والمناورات السياسية أن تضطر الدول الاستعمارية القديمة أن تسحب جيوشها. بعد ذلك أدخلت أميركا أشكال الاستعمار الجديد مكانه كالاستعمار الاقتصادي والسياسي والثقافي واستطاعت أن تحل محل بريطانيا وفرنسا في معظم مستعمراتها.
إلا أنَّ أميركا اكتشفت أن أشكال الاستعمار الجديد لا تمكنها من الحفاظ على مصالحها الحيوية في المناطق الحساسة من العالم، لأن الدول الاستعمارية القديمة أقدر على إتقان هذه الأشكال الاستعمارية، وبالتالي تستطيع تهديد مناطق نفوذ أميركا. هذا الأمر جعل أميركا تعود من جديد لاستعمال قواتها العسكرية للحفاظ على مصالحها الحيوية لأنها ترى أن طاقتها العسكرية تفوق طاقة أية دولة أخرى.
لهذا أنزلت جيوشها في الخليج وأنشأت القواعد واتخذت المطارات للإمساك بنفط الخليج وممراته، كما أنزلت جيوشها واتخذت القواعد والمطارات في أفغانستان وما حولها للإمساك بنفط بحر قزوين وآسيا الوسطى وممراته إلى المحيط الهندي عبر أفغانستان بالإضافة إلى الإمساك بمواقع استراتيجية في منطقة الخليج وآسيا الوسطى.
وإنزال الجيوش هذا وإن برز عملياً في الخليج 1991، وفي أفغانستان 2001 إلا أن أميركا كانت تخطط للعودة العسكرية منذ أن اطمأنت إلى الخروج العسكري لبريطانيا وفرنسا في السبعينيات، وذلك لضمان تحقيق مصالحها الحيوية دون أن تنافسها في السباق إلى هذه المصالح دولة أخرى، وكذلك لضمان هيمنتها في مناطق النفوذ:
1) في دراسة نشرتها مجلة “فورتشون” الأميركية في أيار 1979 بعنوان (التدخل العسكري في منابع النفط) جاء فيها: «لقد أوضح كل من براون (وزير الدفاع) وبريجنسكي (مساعد الرئيس كارتر لشئون الأمن القومي) مؤخراً أن الولايات المتحدة ستتخذ خطوات بينها استخدام القوات العسكرية الأميركية لحماية مصالحنا في العربية السعودية».
2) في دراسة للدكتور بيتر تيزجر بشأن (التدخل العسكري الأميركي في منابع النفط) نشرتها مجلة “شئون فلسطينية” العدد 112 آذار 1981 جاء فيها أنه من بداية السبعينيات وبخاصة بعد حرب رمضان «بدأت المصادر العسكرية الأميركية تتحدث بوضوح عن أنه إذا تعاظم اعتمادنا على النفط الخارجي أو تدهورت سيطرتنا في السياسة الخارجية والنفوذ الدولي فإن البديل قد يكون إرسال حملة عسكرية إلى الشرق الأوسط تجعل فيتنام تبدو بالمقارنة كنـزهة».
3) يقول الرئيس نيكسون في مذكراته التي كتبها سنة 1983 ص105 «أصبحت الآن مسألة من يسيطر على ما في الخليج العربي والشرق الأوسط تشكل مفتاحاً للسيطرة على ما في العالم» ويقول في ص131 «وينبغي علينا أن نكون على استعداد وراغبين في اتخاذ أية أجراءات ـ بما في ذلك الوجود العسكري ـ من شأنها أن تحمي مصالحنا».
4) في شهر آذار مارس 1990 نشرت جريدة “الحياة” جانباً من تقرير بعنوان (التقرير الأمني السنوي لمجلس الأمن القومي الأميركي) جاء فيه «إن المصالح الحيوية الأميركية في الشرق الوسط المتمثلة أساساً في مصادر الطاقة والعلاقات الأميركية القوية مع بعض دول المنطقة تستحق وجوداً أميركياً مستمراً وربما معززاً في المنطقة». وجاء فيه كذلك «وإن الولايات المتحدة ستحافظ على وجود بحري لها في شرق البحر المتوسط وفي منطقة الخليج والمحيط الهندي… وستسعى إلى دعم أفضل للأسطول من الدول المحيطة وإلى خزن معدات سلفاً في مختلف أنحاء المنطقة».
5) وفي شهر أيلول 1990 أي بعد احتلال العراق للكويت نشرت صحيفة لوس إنجلوس تايمز مقالة للسفير السابق في السعودية جيمس إكنـز بعنوان (الآن ومع وجود القوات الأميركية حول حقول النفط هل ندع الفرصة تفوتنا؟) جاء فيها «في شهر يناير من عام 1975 نشرت صحيفة كومنتري التي يصدرها المحافظون الجدد مقالة تقترح غزو السعودية وذلك كحل لمشكلة الغرب الأزلية ولمشاكل الولايات المتحدة الاقتصادية… ومن ثم استغلال النفط إلى آخره» ويضيف «إن الذين عملوا والذين يعملون حالياً في الحكومة الأميركية ومن ضمنهم كيسنجر ـ الذي كان جادّاً في موضوع احتلال آبار النفط في عام 1975 ـ لا بد أنهم يرون الآن عدم ترك هذه المصادر غير العادية بعد أن أصبحت تحت سيطرتنا».
6) سئل بوش الأب في حرب الخليج الثانية (كيف ترسل أميركا أبناءها من أجل شيوخ النفط المستبدين؟ فأجاب نحن ذهبنا من أجل شيوخ أميركا ومصالحها وليس من أجل شيوخ النفط).
7) في 12/02/1998 قدم جون ماريا نائب رئيس مؤسسة يونوكل النفطية للعلاقات الدولية شهادة إلى لجنة الكونجرس الأميركي يبين فيها أهمية وجود حكم ملائم لأميركا ومستقر في أفغانستان من أجل استثمار مشاريع النفط والغاز في المنطقة.
مما سبق يتبين أن أميركا كانت تخطط للوجود العسكري في مناطق نفوذها لضمان هيمنتها وتحقيق مصالحها والحيلولة دون أن تنافسها أية دولة رأسمالية استعمارية أخرى اعتماداً على تعاظم القوة العسكرية عند أميركا بالنسبة للقدرات العسكرية عند الدول الأخرى. حتى قبل أن تقوم بالتنفيذ العملي للتدخل العسكري والوجود العسكري في الخليج وأفغانستان.
ولذلك يمكن القول إن الجشع وحب السيطرة على ثروة العالم والحيلولة دون مزاحمة الدول الاستعمارية الأخرى لأميركا في مناطق نفوذها كان عاملاً مهماً في عودة أميركا إلى الاستعمار العسكري من جديد.
إلا أن هناك عاملاً آخر دفع دول الكفر وعلى رأسها أميركا إلى التدخل العسكري والاستعمار العسكري بإنشاء القواعد الدائمة والمعسكرات الثابتة لجيوشها في المنطقة وعدم الاكتفاء بأشكال الاستعمار الجديد الأخرى.
هذا العامل هو الخوف من عودة سلطان الإسلام في الأرض من جديد.
إن هذا العامل يختلف عن العامل الأول. فالأول يوجد تنافساً بين الدول الاستعمارية على الاستحواذ على الثروة، إلا أن العامل الثاني يجمع هذه الدول الاستعمارية الكافرة معاً على محاربة الإسلام وأهله. إنهم يخشون أن تتحرك هذه الأمة من جديد وتعود القوة العظمى في العالم، وهم قد خبروا قوتها لقرون عدة، يعلمون عظمة حضارتها وتفوق جيشها، الجيش الذي لا يقهر، المنتصر في حروبه بنصر الله. إن عودة سلطان الإسلام هاجس دول الكفر، يقض مضاجعهم، فهم يحسبون له ألف حساب حتى قبل أن تعود دولته وتتوحد أمته، لذلك يصلون ليلهم بنهارهم يتآمرون ويخططون لتكون قواتهم متحركة وثابتة في المناطق الحساسة من بلاد الإسلام:
l نشرت مجلة “الشئون الخارجية الأميركية” سنة 1985 عبارة صارخة للرئيس الأميركي نيكسون يقول فيها «يجب على روسيا وأميركا أن تعقدا تعاوناً حاسماً لضرب الأصولية الإسلامية». ويقول نيكسون في كتابه (نصر بلا حرب) الذي كتبه سنة 1988 يقول فيه «إن العدو الأكبر في العالم الثالث هو الأصولية الإسلامية».
l في أواسط شهر حزيران 1990 قالت إذاعة لندن «إن الجهد الرئيس للمخابرات الأميركية الذي كان منصباً على مراقبة الاتحاد السوفييتي سيتجه أساساً لمراقبة الجماعات الأصولية في العالم الإسلامي ووضع العقبات والعراقيل أمامها».
l أما الرئيس الفرنسي ميتران فقد أطلق عبارة صليبية دموية حينما نجحت الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الجزائر في انتخابات الولايات والبلديات وخشي أن تنجح في الانتخابات البرلمانية وتصل إلى الحكم قال «إذا نجح الأصوليون في الوصول إلى الحكم في الجزائر فسوف أتدخل عسكرياً كما تدخل بوش في بنما».
l أما الكاتب الأميركي صموئيل هنتنغتون فقد كتب سنة 1993 مقالة بعنوان تصادم الحضارات في مجلة شئون خارجية الأميركية في العدد 72/3 جاء فيها «أن الصراع بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية مستمر منذ 1300 سنة» ثم يقول «فالمجابهة القادمة ستأتي حتماً من جانب العالم الإسلامي» ويضيف «فالإسلام حدوده دامية».
l ولا ننسى الإعلام الغربي الذي ملأ صحف الغرب وإذاعاته عن خطر القنبلة الإسلامية الذرية التي فجرتها باكستان مع أن غيرها من الدول تملك أضعاف أضعاف هذه القنبلة.
l ومنذ بضعة أشهر في عدوانه الإجرامي على أفغانستان صرح بوش أن حربه التي يشنها هي حرب صليبية.
وبالتالي فإن حقد دول الكفر بزعامة أميركا على الإسلام والمسلمين وكيدهم له وما يملأ قلوبهم من صليبية كل ذلك جعلهم يعدون الجيوش والقواعد يقيمونها في بلاد المسلمين كرأس حربة متقدم لضرب الإسلام والمسلمين.
والخلاصة أنه بسبب هذين العاملين، السيطرة على الثروة، والخوف من الإسلام، قامت أميركا بالزحف العسكري إلى بلاد المسلمين، وحشدت من خلفها حشوداً من أوروبا ومن عملائها في بلاد المسلمين لإعطاء الغزو بعداً شكلياً دولياً. إلا أن الوجود العسكري الفاعل والدائم هو أميركي الوجه واليد واللسان فقواعدها منتشرة في شبه الجزيرة والخليج، قواعد طائرات وثكنات جند ومستودعات ذخيرة، وهي كذلك قد أنشأت لها قواعد مشابهة في أفغانستان وما حولها باكستان وأوزبيكستان وطاجكستان.
هكذا عادت أميركا إلى الشكل العسكري من الاستعمار، وهو وإن كان فظيعاً دموياً إلا أنه مكشوف ماثل للعيان يتحدى ليس أفكار الناس بل مشاعرهم كذلك فلا يحتاج إلى عمق من التفكير والوعي حتى يلمس فهو يختلف عن الأشكال الأخرى للاستعمار حيث الخداع والتضليل يغلف الاستعمار الثقافي والسياسي والاقتصادي وتحتاج هذه الأشكال إلى عقول واعية وبصيرة نافذة لتضع اليد عليه وتعالجه بما يناسبه فهو كخلط السم بالدسم. أما هذا الشكل العسكري من الاستعمار فهو تحدٍّ صارخٌ للمشاعر والعقول، تدركه الخاصة والعامة، تدركه العقول وتقع عليه الحواس.
إنه لحري بالأمة الإسلامية وهي ترى العدوان الأميركي الصارخ عليها بالجيوش المتحركة والطائرات القاذفة والصواريخ المنطلقة والقواعد الثابتة، حري بها أن تكون أمة واحدة ودولة واحدة تقاتل وراء خليفة واحد تقاتل في سبيل الله ولا تخاف في الله لومة لائم فتعيد سيرتها الأولى، قوية بربها عظيمة بدينها مقتدية بنبيها والله ناصرها إن نصرته (ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز) (الحج) .
2002-04-19