لقد وردت إلى المجلة استيضاحات وتعليقات حول الإجابة الواردة في العدد التاسع من “الوعي” (جمادى الآخرة 1408 هـ) جاءت من الكويت ومن السودان ومن صيدا (لبنان) ومن بيروت. وهذا يدل على أن قراء (الوعي) هم على درجة عالية من الفكر والفقه، مما يلقي على عاتق من يكتب في المجلة مسؤولية أكبر في تحري الحق والبحث عنه كي تبقى المجلة جديرة بالاحترام.
وسنثبت هنا الاستفسار الوارد من السودان، كنموذج، ثم نحاول إجابته، ونسأل الله السداد والرشاد:
بسم الله الرحمن الرحيم
الصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان، الاخوة محرري مجلة الوعي.
أحييكم تحية الإسلام ـ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. استميحكم أولاً أن أشيد بالمستوى الطيب وبالجهد المبذول في إخراج مجلة الوعي سدد الله خطاكم.
أخوة الإسلام،
أثار انتباهي ما جاء في العدد التاسع بتاريخ جمادى الآخرة 1408 بصفحة “سؤال وجواب”، وهي إجابة لسؤال عن أشخاص ينتمون إلى أحزاب وتنظيمات لا تقوم على أساس الإسلام. إذ كانت الإجابة ـ أن هذه الأحزاب والحركات والتنظيمات منكر وأن لا يكتفي المسلم بالابتعاد عن المنكر بل الواجب العمل على إزالة المنكر ـ ومنها انتقلت الإجابة على بعض الفروع منها:
أولاً: – إن هذه الأحزاب تشبه الحكومات الحاضرة من كونها تقوم على أساس غير إسلامي.
بناءً على هذه الحقيقة بنُيت الإجابة. مما أثار عدداً من الأسئلة، ما حدا بي إلى الكتابة إليكم معلقاً ومستفسراً.
لما كانت الدولة عبارة عن كيان تنفيذي، تقوم برعاية شؤون الناس ولها السلطان الحقيقي على الناس، كانت الأحزاب عبارة عن كيانات تسعى لاستلام السلطة وليس لها أي سلطان على الناس من هنا ينعدم وجه الشبه بين الدولة والأحزاب.
ثانياً: – ما جاء عن الانضمام أو الانتماء إلى هذه الأحزاب أو التنظيمات من أجل الراتب.
فالراتب إما أن يكون مالاً يأخذه الشخص نظير عمل يقوم به، وعليه ينظر واقع العمل وانطباق الأحكام الشرعية فيه من حيث صحّة العقد أو فساده، وإما أن يكون تمليك مال بلا عوض بشكل دائم فيبحث عن واقع الهبة تبرعاً أو تفضيلاً. وعلى ذلك يبرز السؤال: هل يجوز للمسلم أن يأخذ مالاً عوضاً عن انضمامه وتكثيره سواد حزب يقوم على أساس الكفر؟
ثالثاً: – ورد في الإجابة أن يكون انتماء المسلم للأحزاب والتنظيمات التي تقوم على أساس الكفر انتماءً شكلياً. وأن يحارب كل التنظيمات التي تقوم على غير الإسلام ومنها تنظيمه الذي ينتمي إليه شكلاً.
هل يعني هذا القول جواز دخول المسلم في التنظيمات والأحزاب التي تقوم على غير أساس الإسلام دخولاً شكلياً دون تحفظ مثل الأحزاب التي تنشئها الحكومات والتنظيمات، وأن يعمل المسلم لهدمها من الداخل؟
رابعاً: – ما جاء عن الانطباع الذي وجد عند الناس ومحو أثر ذلك الانطباع.
إني أتساءل عن جريرة المسلم عن الانطباع الذي يوجد عند شريحة من الناس.
وهل يُبنى الحكم الشرعي على الفعل الذي وقع أم على الانطباع الذي وجد عند الناس.
هذه هي تساؤلاتي وملاحظاتي أرجو منكم مخلصاً الإجابة والتعليق.
وفقنا الله وإياكم
عـ. حـ.
السودان: الخرطوم بحري
5 رجب 1408
قبل الإجابة ننصح بالعودة العدد التاسع ص 28 و29 حيث وردت المسألة التي هي موضع البحث، كي يربط القارئ الفروع بأصلها.
قلنا ونقول بأن كل حركة أو تنظيم أو حزب يقوم على غير الإسلام هو منكر لا يجوز حمل الولاء له، ولا الانتماء إليه، ولا يجوز السكوت عنه، بل يجب محاربته لإزالته كأي منكر من المنكرات. والنظام الحاكم يُتخذ منه الموقف نفسه لأنه من أفظع المنكرات. هذا هو الأصل.
وفي حالة عيش المسلم في دار الكفر فإنه يجوز له أن يكون موظفاً لدى الحكومة التي تحكم في دار الكفر، ما دامت هذه الوظيفة لم يحرمها الإسلام بعينها. ولا يجوز له أن يشترك في الحكم لأن الحكم بأنظمة الكفر حرام، ولأنه حينئذٍ يكون يدعم نظام الكفر.
وفي حالة عيش المسلم في دار الكفر فإنه يجوز له أن يعمل أعمالاً معينة (إذا كانت لم يحرمها الإسلام) لدى حركة أو حزب أو تنظيم يقوم على غير الإسلام، مثل صيانة معدات، أو بناء دار، أو ما شاكل ذلك. مع ملاحظة أن الحركات أو الأحزاب التي تقوم على غير الإسلام لا وجود لها في دار الإسلام، ولا يمكن أن تقوم إلا في دار الكفر. وهذا العمل من المسلم لدى حزب ما ليس تأييداً منه لهذا الحزب ولا انتماءً له.
ونحن هنا لم نسحب حكم جواز عمل المسلم لدى حزب على جواز عمله لدى الحكومة من باب القياس، بل هو حكم واحد، وهو جواز أن يعمل المسلم العمل المباح، كأن يكون خياطاً أو بناءً، سواء أكان عند حكومة أم حزب أم شركة أم فرد، وسواء أكان هؤلاء مسلمين أم غير مسلمين.
أما قولك: بأن الدولة هي التي لها السلطان الحقيقي على الناس، والأحزاب ليس لها أي سلطان على الناس، فهذا ينطبق على بعض الأمكنة، ولا ينطبق على بعضها الآخر. هنا في لبنان، مثلاً الأحزاب والتنظيمات صار لديها قوات مسلحة، ومحاكم، ومعتقلات، وتفرض الضرائب.. إلخ ونحن حين كتبنا هذا الجواب. كان أصحاب السؤال (وهم كثر) من هنا من لبنان. وفي الجواب كنا ننظر، ليس إلى وضع لبنان فقط، بل إليه وإلى غيره. وعلى القارئ أن لا ينظر إلى وضع بلده فقط، بل إليه وإلى غيره.
أما الانتماء إلى تنظيم معين من أجل أخذ الراتب، فهذه حالة غير الحالة السابقة، في الحالة السابقة فإن الشخص يأخذ أجراً لقاء عمل مباح قام به. أما في هذه الحالة فإن ما يسمى راتباً ليس أجراً لقاء عمل، بل هو أُعطيات تُمنح بشرط تسجيل الاسم لدى هذا التنظيم أو ذاك. وربما يكون مثل هذا الوضع غير موجود في السودان أو في أماكن كثيرة، ولكنه موجود هنا في لبنان. مثلاً، عرفات يريد توزيع مال، ويحب أن يربط الناس به، ولا يشترط أكثر من تسجيل الاسم. ويوجد غيره يقوم بهذا العمل أيضاً. والذين سألوا كانوا يقصدون هذا الواقع. ومعرفة المناط أساس هام في معرفة الحكم الشرعي الذي ينطبق عليه.
وقد وجدنا أن المال الذي يوزع ليس من الأملاك الفردية لعرفات أو غيره، بل هو من نوع ملكية الدولة، وهؤلاء الأفراد لهم حق فيه، وخاصة أنهم في حاجة.
ووجدنا أن الشرط المطلوب، وهو تسجيل الاسم عندهم على أنه منتم إلى تنظيمهم، هو شرط فاسد. والأصل في الشروط الفاسدة أنه لا يجوز للمسلم أن يقدم عليها. فلا يجوز له أن يأخذها على الناس، ولا أن يعطيهم إياها على نفسه، إلا في حالات استثناها الشرع.
من هذه الحالات قصة عائشة رضي الله عنها مع بَريرة. وخلاصتها أن بريرة كانت مملوكة وجاءت تستعين عائشة على عتق نفسها. فقال عائشة: أشتريك وأعتقك على أن يكون ولاؤك لي. وكان أهل بريرة يشترطون الولاء لهم، ولا يرضون بيعها لعائشة إلا بهذا الشرط. وسألت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «اشتريها فأعتقيها، وليشترطوا ما شاءوا» وفي رواية أخرى للبخاري: «خذيها واشترطي لهم الولاء فإنما الولاء لمن اعتق». وقد فهم العلماء أن طلب الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله: «خذيها واشترطي لهم الولاء» أنه طلب للإباحة وليس للوجوب ولا للندب. وقد عنون الشوكاني لهذا البحث بعنوان: (باب أن من شرط الولاء أو شرطاً فاسداً لغا وصح العقد). والوضع في هذه المسألة ليس من الضرورات، بل هو حالة عادية. ونستطيع أن نفهم منها أن من يشترط شرطاً منافياً للشرع، ويمنع بشرطه هذا عملاً من أعمال الخير الواجبة أو المندوبة، فإنه يُباح للطرف الآخر أن يتظاهر بقبول الشرط، ويجري العقد ثم لا ينفذ الشرط.
وحينما صدر عندنا جواب سؤال يبين فيه انه يباح للمسلم أن يقبل بشرط الانتماء إلى النقابة (مع أنه شرط فاسد) من اجل أن يحصل على رخصة عمل، وبعد حصوله على الرخصة يهمل هذا الشرط، حينما صدر عندنا ذلك كان يستند إلى هذه القاعدة.
وكذلك الأمر في الحالة المطروحة في مسألتنا: التنظيم يشترط الانتماء إليه بواسطة تسجيل الاسم عندهم. فهو يتظاهر عند تسجيل اسمه بالقبول. ثم بعد ذلك لا يقوم بأي عمل أو قول فيه تأييد لذلك التنظيم، ويجب عليه فوق ذلك أن يحارب هذا التنظيم كما يحارب غيره من التنظيمات التي تقوم على غير الإسلام. فهو لا يساعد هذا التنظيم ولا يكثر سواده.
ورُبَّ قائل يقول: إن فعل ذلك قطعوا عنه الراتب. والواقع أنهم لا يقطعونه حسب الظروف الحالية. أما إن تغيرت الظروف، وأرادوا أن يجعلوه مرتهناً، فعليه أن يرفضن ولو قطعوا عنه الراتب أو سجنوه وعاقبوه.
أما الدخول في تنظيم لهدمه من الداخل، فهذا أمر آخر ولا نراه جائزاً. ذلك انك حتى تستطيع أن تهدم حزباً أو تنظيماً من الداخل، عليك أن تظهر أمام اتباع هذا الحزب انك منه، وإنك من النشطين والحريصين عليه. وهذا يتطلب منك أعمالاً وأقوالاً تدعمه ولو ظاهرياً، وهذا حرام.
وأما قولك: وهل يُبنى الحكم الشرعي على الفعل الذي وقع، أو على الانطباع الذي وُجد عند الناس؟
قلنا ونقول بأن المسلم مسؤول عن عمله ومسؤول عن الانطباع الذي يتركه عمله عند الناس. إذا كان المسلم يقوم بعمل مباح، ولكنه يشتبه على الناس فيظنونه حراماً، عليه أن يزيل الشبهة ويبين لهم أنه يعمل المباح. فقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسير ليلاً مع إحدى أزواجه، ومر به رجلان من المسلمين. فأسرعا، فناداهما، وقال لهما: إن هذه فلانة. فقالا: سبحان الله، وهل نشك بك يا رسول الله.
الرسول عليه السلام كان يقوم بعمل مباح، فخشي أن يتلاعب الشيطان بهما فيظنا بالرسول ظن السوء.
وقد ورد في الأثر أن من وقف مواقف التهم فلا يلومنّ من أساء به الظن.
إما إن كان الفعل المباح الذي يقوم به المسلم ليس من شأنه أن يثير شبهة أو تهمة فليس عليه أي إثم إذا وجد انطباع سيء عنه عند بعض الناس.
والحالة التي تكلمنا عنها هي من الحالات التي من شأنها أن تثير الشبهة والتهمة، فصار واجباً عليه أن يبدد هذه الشبهة ويزيل هذه التهمة.
والحمد الله رب العالمين.