معركة بدر الكبرى
1988/05/18م
المقالات
3,530 زيارة
(وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ هَمَّتْ طَائفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ * وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).
مع حلول الشهر المبارك من كل عام، يذكر المسلمون فيما يذكرون أول معركة عسكرية حاسمة جرت بين المسلمين بقيادة رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم وبين الكفار، وهي معركة بدر الكبرى. وفي هذه المعركة انتصر المسلمون انتصاراً مبيناً، فكان انتصارهم تثبيتاً وتدعيماً لأسس الدولة الإسلامية الناشئة، وبذلك كانت هذه المعركة نقطة تحول فاصلة في التاريخ. وقد سميت بدراً الكبرى تمييزاً لها عن بدر الصغرى أو بدر الأولى.
ورد في سيرة ابن هشام أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم وصل إلى المدينة مهاجراً (لثنتي عَشْرة ليلةً مضت من شهر ربيع الأول وشهر ربيع الآخر، وجماديين، ورجباً، وشعبان، وشهر رمضان، وشوالاً، وذا القعدة، وذا الحجة، والمحرم، ثم خرج غازياً في صفر على رأس اثني عشر شهراً من مقدمه المدينة)، ثم أورد أسماء الغزوات أو السرايا التي حصلت مع ذكر الشهور التي حصلت فيها:
غزوة الأبواء أو غزوة ودان: وحصلت في شهر صفر أي قبل اكتمال العام الأول من هجرته صلى الله عليه وسلم.
سرية عبيدة بن الحارث: وبعثه صلى الله عليه وسلم حين أقبل من غزوة الأبواء، قبل أن يصل إلى المدينة.
سرية حمزة إلى سيف البحر: وبُعث في نفس الوقت الذي يُعث فيه عبيدة بن الحارث، ولكن إلى مكان غير المكان الذي بعث له.
غزوة بواط: خرج على رأسها رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر ربيع الأول أي بعد مرور عام على الهجرة.
غزوة العشيرة: وتمت بقيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت في جمادى الأولى وليال من جمادى الآخرة.
سرية سعد بن أبي وقاص: يقول ابن هشام أن بعض أهل العلم ذكر أن بَعْث سعد هذا كان بعد سرية حمزة إلى سيف البحر.
غزوة صفوان: وهي غزوة بدر الأولى، وكانت بقيادة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في جمادى الآخرة.
سرية عبد الله بن جحش: وقد كانت بعد بدر الأولى في شهر رجب.
غزوة بدر الكبرى: خرج على رأسها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في الثامن من شهر رمضان وحدثت المعركة صبيحة السابع عشر من رمضان المبارك. وقال ابن إسحاق: وكان فراغُ رسول الله صلى الله عليه وسلم من بدر عقب شهر رمضان أو في شوال. ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقم بها (المدينة) إلا سبع ليالٍ حتى غزا بنفسه يريد بني سُليم. وسُميت الغزوة بغزوة بني سُليم، ثم كانت بعدها غزوها السوين، ثم غزوة ذي أمر، ثم غزوة الفرع، ثم غزوة بني قينقاع، ثم سرية زيد بن حارثة إلى القردة ثم كانت غزوة أحد والتي دبرتها قريش للثأر من المسلمين نتيجة هزيمتهم في بدر الكبرى.
أولى معارك الحسم
هذا التسلسل للغزوات الذي ورد في السيرة النبوية يمكننا أن نستخلص منه عدة أمور. منها أن معركة بدر الكبرى لم تكن أول احتكاك بين المسلمين والمشركين، وإنما كانت أول معركة مواجهة تُحشد فيها قوى من الفريقين أكثر عدداً وعدة، وأول معركة تأخذ طابع الحسم إما لصالح الإسلام والمسلمين وإما لصالح الشرك وأهل، لذلك ارتدت طابعاً ذا أهمية لدى كلا الفريقين.
دروس كثيرة تلك التي استخلصها المسلمون من تلك المعركة الفاصلة لكنني أود التركيز على بعض النقاط التي قلّما يتطرق إليها الخطباء والكتاب حين استعراضهم لنتائج هذه المعركة، وذلك من خلال تركيزهم على وقت حصولها في رمضان، وعلى موقف الأنصار المشرّف وحماسهم لها بما لا يقل عن حماس المهاجرين، ومن خلال تركيزهم على نزول سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم عند رأي فنّي لأحد الصحابة في اختيار مكان المعركة، وكذلك تركيزهم على عدد المسلمين القليل، وعدّتهم المتواضعة، مقابل جيش الشرك الذي فاقهم عدداً وعدة، وعن نزول الملائكة لإسناد المسلمين، وعن البطولات التي سطرها كل من شهد بدراً من المسلمين.
كل هذه الحقائق التي وردت في كتب السيرة ينبغي تذكرها دوماً وأخذ العِبرَ منها، لكن لا ينبغي الوقوف عند حد التباهي بأمجاد الماضي والتغني ببطولات السلف الصالح دون الاقتداء بهم والسير على نهجهم، فأولئك الرواد الأوائل لم يخوضوا معاركهم رياءً وسُمعة، وإنما خاضوها لإعلاء كلمة الله ولتكون كلمة الذين كفروا السفلى، ونحن أحفادهم نتغنى بأمجادهم وكلمة الله ليست هي العليا في كل شؤون الحياة وإن كانت العليا عند الأتقياء والمخلصين من المؤمنين العاملين.
مبادأة بالقتال
وفي العودة إلى معركة بدر الكبرى نستشف بعض الحقائق التي تُلقي الضوء على كثير من الجوانب التي أراد أن يعتّم عليها من لا يريد لهذا الدين أن ينتصر وأن يسود. ويستوقفني من هذه الحقائق حقيقة أن غزوة بدر الكبرى وما سبقها من غزوات وسرايا بلغن الثمانية، كلها كانت بمبادأة ومبادرة من قبل المسلمين لعدوّهم، ولم تك غزوات دفاعية أو ردّات فعل على غزو مشرك، فرسول الله صلى الله عليه وسلم أقام دولته في المدينة المنورة ووسط قوم هم الأنصار، وفيهم منعة تكفي لحماية دعوته ودولته ودون الشعور بالخوف القريب من هجمة غدر. والملاحظ أيضاً أن السرايا والغزوات التي سبقت بدر الكبرى كانت في طبيعتها تشبه الجولات التدريبية، ويلاحظ أيضاً أن الكفار في مكة شعورا بأنها تحمل طابع التحدي لسلطتهم وهيبتهم، فمن كان في موقع الدفاع يا ترى كفار مكة أم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام؟
أن الغزوات التي سبقت بدراً الكبرى وتتويجها بغزوة بدر نفسها تعتبر دليلاً قوياً على أن المسلمين كانوا في موقع التحدي للكفر، وفي موقع الفعل وليس رد الفعل، وكل فقهاء المسلمين يسمّون حروب المسلمين مع الكفار جهاداً، وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام قد قاموا بهذا الجهاد ابتداءً وهم في حالة هجوم والكفار في حالة دفاع، فمن أين جاء البعض بدعوى أن الجهاد هو حربٌ دفاعية؟! مع أن كل كتب السيرة تؤكد أن غالبية الغزوات التي خاضها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم كانت المبادأة فيها تتم من قبل المسلمين، ويستثنى من ذلك معركة أحد وغزوة الخندق. ولكن القائلين بأن الجهاد هو حرب دفاعية أرادوا من مقولتهم التخلّص من هجوم الكفار والمستشرقين على الإسلام بأنه دين قام على السيف، فوقفوا موقف الدفاع عن الإسلام وقبلوا أن يكون الإسلام متّهماً، فوقعوا في الخطأ من جراء موقفهم هذا، مع أن الآيات القرآنية والأحاديث النبوية تؤكد أن الشرع يطلب من المسلمين حمل الإسلام والدعوة له بالجهاد، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوصي قادة الجيش بأن يدعوا القوم المتوجهين إليهم بجيشه إلى ثلاثة أمور: أن يدخلوا في الإسلام وإلا فالجزية، وإن رفضوا كلا الخيارين السابقين فلا يتبقى سوى الخيار الثالث هو الحرب. ولكن هذه الحرب لا يُقصد منها التقتيل والإبادة لمجرد الانتقام وتحقيق الغلبة، ولكن يُقصد منها إزالة العوائق المادية التي تحول دون وصول دعوة الحق إلى الأمم الأخرى، ومن تلك العوائق السلطات الحاكمة ومرتكزاتها، وهي أكبر عائق في طريق دعوة الناس للنور والهداية. ومن هنا فإن إزالة تلك العوائق تكون بناءً على تخطيط مسبق ونية مبيّتة وتحضير إعلامي وميداني، واختيار الوقت المناسب ولك ذلك يأتي كمقدمة للمبادأة بالقتال ولا ينتظر دائماً حتى يقوم الآخرون بالمبادأة ليكون ذلك مبرراً لنا للرد عليهم حتى يكون ذلك في عداد الحرب الدفاعية، لأنهم قد لا يهاجموننا طيلة حياتهم فهل ننتظر ونعطّل الجهاد؟ كلا فالجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة كما علّمنا سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم.
من الدعوة إلى الدولة
الملاحظة الأخرى التي تسترعي الانتباه هي ما ورد في سيرة ابن هشام عن عدد المجاهدين من المهاجرين الذين شهدوا بدراً، فقد ورد أن عددهم كان ثلاثة وثمانين رجلاً. وإذا اعتبرنا أن هذا العدد أقصى حد للتعبئة العسكرية التي استطاع سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم تدبيره، فمعنى ذلك أن عدد المهاجرين من مكة من الرجال يزيد عن هذا العدد بقليل، لأنه من المحتمل أن يكون هناك بعض المتخلفين في المدينة فمن العجزة والمرضى وكبار السن. وبناء على ذلك نستنتج أن عدد الصحابة الذين خاضوا تجربة الدعوة في مكة بصحبة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وذلك يعني أن هذا العدد هو حصيلة ثلاثة عشر عاماً من الدعوة لكتلة يقودها الرسول صلى الله عليه وسلم المؤيد بالوحي، ويعني أيضاً أن هذه الكتلة لم تستطع تغيير مجتمع مكة من مجتمع جاهلي إلى مجتمع إسلامي، ولذلك لأن مجتمع مكة كان نظامه نظام كفر وعلاقاته علاقات كفر والناس فيه يحملون عقيدة الشرك والعلاقات بين الناس قائمة على أساس الكفر، ولم يستطع البضع والثمانون رجلاً أن يغيروا كل هذه الأشياء: عقيدة الناس ومشاعرهم وعلاقاتهم والأنظمة التي تطبق عليهم، ولم يتحول مجتمع مكة إلى مجتمع إسلامي إلا بعد فتح مكة عندما سيطر الإسلام بأشخاصه المسلمين ونظامه المأخوذ من العقيدة الإسلامية، وسيطرت أيضاً المشاعر الإسلامية. هكذا حصل تغيير مجتمع مكة. فأي تغيير جذري انقلابي لا مكان في لإصلاح أفراد المجتمع فرداً فرداً، ولا مكان فيه للتدرج في تطبيق الإسلام وإنما تغيير فوري وجذري في كل مكونات المجتمع، وفي ذلك عبرة ودرس لكل من يريد أن يعمل للتغير، فعمل الرسول صلى الله عليه وسلم وقوله وسكوته هو سُ،ّة يجب التقيد بها، وهنا تسقط مقولة: أصلح الفرد يصلح المجتمع، فسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لم ينتظر صلاح مجتمع مكة وهو لا يملك فيه لا السلطان ولا النظام ولا الأفراد المسلمين سوى القلة التي تكتّلت معه، ولكنه بعد نضوج تلك الكتلة وقدرتها على بناء الدولة الإسلامية جاءه الوحي بالهجرة والانتقال إلى المرحلة التالية التي أعقبت مرحلة الدعوة، وهي مرحلة الدولة.
أسوة حسنة
ومن الغزوات التي سبقت بدراً الكبرى ومن غزوة بدر نفسها يتضح أن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بدأ يستعد مع صحابته الكرام لدور جديد غير ما كانوا عليه في مكة، وهذا الدور يمكن في الاستعداد العسكري، والتدريب، والتسلّح، وتعلّم صناعة السيوف، والاستطلاع والاستخبار العسكري تجاه الأعداء، وهذه الأعمال هي من أعمال الدول والقادة العسكريين المنتمين إلى دول، وذلك يعني أن الرسول صلى الله عليه وسلم بدأ يقوم بمهمات إضافية عدا عن مهمة الرسالة والتبليغ عن الوحي، من تلك المهمات إدارة شؤون الحكم في الدولة الناشئة، ومن ثم تجهيز الجيوش، وقيادتها، وخوض المعارك مباشرة مع الأعداء ليكون بذلك الأسوة والقدوة، ولكي يعلمنا الطريقة التي يُحمل بها الإسلام، وكل ذلك تم بوحي من الله سبحانه وتعالى. وما أُمر به الرسول هو أمرٌ موجه إلى المسلمين ما لم يرد دليل يخصصه، ويبقى ذلك الأمر ساري المفعول حتى قيام الساعة، إذاً هكذا يُحمل الإسلام ويُنشر، ولم يقم الرسول صلى الله عليه وسلم بتلك الغزوات بغية توسيع رقعة ملكه، ولا قام بها طمعاً في أرض أو مياه أو عرض من الدنيا، وقد جاءت الآيات التي نزلت في معركة بدر وبعدها تؤكد ذلك، فالآيات التي نزلت لتوضيح حكم الأسرى وحكم الغنائم، والآية التي وصفت المسلمين وما حدثتهم به أنفسهم من أنهم يودون غير ذات الشوكة، والآية التي أخبرت بنزول جنودٍ لم يَروْها من الملائكة، كل تلك الآيات تؤكد أن أعمال سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم كانت بوحي من الله سبحانه وتعالى ولم تكن اجتهاداً من الرسول صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: (وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى). وقال أيضاً (وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) وقال: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) صدق الله العظيم.
1988-05-18