التحديات التي تواجه المسلمين في المجتمعات الغربية
2010/07/17م
المقالات
4,919 زيارة
التحديات التي تواجه المسلمين في المجتمعات الغربية
غسان الحموري
بات وضع المسلمين في الغرب -من وجهة نظر مفكري الدول الغربية وساستهم- يشكل تحدياً حضارياً صارخاً يقوّض دعائم المفاهيم الغربية التي يعتزون بها، ويزلزل المثل العليا التي شيّدت على أساسها مظاهر حضارتهم، ونسجت بخيوطها طبيعة علاقاتهم الاجتماعية، وصبغت بصبغتها مظاهر حياتهم العامة والخاصة.
لقد روى مداد أقلام الكثيرين من مفكري الغرب بذرة الحقد على المسلمين لتنمو وتكبر وتثمر الرعب من كل شيء يمت إلى الإسلام بصلة، فكانت ثمرة ” الإسلامو فوبيا ” هي الثمرة المرة التي تذوقها الغربيون وظنوها من ثمرات الإسلام والمسلمين، غير مدركين أن المسلمين يتعرضون لموجات متتالية من التشويه والتحقير والإهانة والاستعلاء، وما كتابات “دانيال بايبس” مؤسس نظرية الرعب الإسلامي في صحيفة نيويورك صن وجيروزالم بوست، وما بثّ فيهما من سموم فكرية منذ عقد من الزمن، محذّراً الأميركيين والأوروبيين من خطر المسلمين (وأسلمة) المجتمعات الغربية، وبالتالي وجوب التخلص منهم، إلا مثالاً من أمثلة كثيرة تعكس مدى التعمية المتعمدة التي ينتهجها ساسة الغرب على شعوبهم، فالأحزاب السياسية أصبحت تتبنى سياسة التضييق على المسلمين وكتم أنفاسهم، والنيل من شعائرهم ومعتقداتهم، فقد طالب ” حزب الشعب الدنماركي “بترحيل المسلمين من البلاد، وكذلك الأمر بالنسبة للحزب الاشتراكي اللبيرالي”، وفي هذا الشأن أصدر مركز الأهرام للدراسات تقريراً عن أوضاع المسلمين في أوروبا لعامي (2004م- 2005م) أكد هذا التقرير الحملة المسعورة من قبل الأحزاب والجمعيات الأوروبية اليمينية على المسلمين هناك، حيث جعلت هذه الأحزاب أبرز أهدافها طرد المسلمين، وأضاف التقرير أن المشاعر العدائية برزت بوضوح في وسائل الإعلام الفرنسية والقنوات التلفزيونية حيث تعمدت إبراز الإسلام بصورة مشوّهة مملوءة بالمغالطات، ولقد حذّر الخبير الاستراتيجي الأميركي “صمويل هنتنجن” من تنامي المد الإسلامي في الغرب من خلال استقرار الجاليات الإسلامية واستيطانها.
لم يقتصر الأمر على الجمعيات والأحزاب إذ تعداها إلى الرؤساء والرموز الدينية. فتصريحات بابا روما ما زالت تقرع آذان المبهورين بحوار الأديان من “علماء ومفكرين إسلاميين”. وتصريحات سركوزي واستصداره القرارات المتعلقة بمحاربة الحجاب ما زالت حلقاتها تتوالى تباعاً، وإقرار غالبية الشعب السويسري بمحاربة المآذن تعكس الصورة الناصعة للموقف الذي يجب أن يتخذه المسلمون في جميع بقاع المعمورة حيال هذه الحرب المسعورة على المسلمين هناك.
لقد عزا الكثيرون من ساسة دول الغرب ومفكريهم هذه الأمواج العاتية إلى أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وتبعهم بكل أسف بعض ” المفكرين المسلمين “. والحق أن تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر لم تكن سوى الشعرة التي قصمت ظهر البعير المثقل والمثخن بأحمال تراكمت بعد صحوة إسلامية عالمية أبرزت تفوق الحضارة الإسلامية على الحضارة الغربية، وجعلت المسلمين هناك يظهرون مشاعر الاعتزاز بشعائر دينهم من خلال التمسك بها والتفاخر بسموّها.
فالمسلمون لا يشكلون إزعاجاً للغرب طالما استعذبوا أفكاره الآسنة، واستمرؤوا مثله العليا الهابطة، وذابوا في نظمه الاجتماعية الملوثة.
إننا لا نتحدث اليوم عن تواجد المسلمين في أوروبا كتواجدهم يوم انطلقوا فاتحين وحاملين مشاعل الهداية لأهل تلك البلاد، حيث دانت لهم الشعوب واستظلوا بأفياء حكم إسلامي ملأ الأرض عدلاً ونوراً من الأندلس إلى مشارف روما وفينا، ثم ترك المسلمون بعدها آثاراً شامخة تعكس مدى الارتقاء الذي شاد المسلمون صروحه بعد أن أرسوا أسسه وأصوله.
كما أننا لا نتحدث عن تواجد إسلامي مغلوب على أمره عاشه الجيل الأول من المهاجرين إلى بلاد الغرب، حيث لجأ أكثر من ” مائة وخمسين ألفاً ” من المسلمين عقب سقوط الأندلس إلى جنوب فرنسا، أو ما تبع اتفاقيات إيفان عام 1962م من استقرار أكثر من مليون مسلم جزائري في فرنسا، أو استقطاب العمال من أفريقيا للعمل في المصانع الفرنسية؛ لأن واقع المسلمين المتردي في تلك الأيام قد جعل المفكرين الأوروبيين يتوهمون إمكانية اندماج هذه الجاليات وذوبانها في نهر يتدفق حيوية فكرية وهميّة كان يعيشها مفكرو الغرب وساستهم انعكس بريقها على الشعوب الإسلامية في تلك البلاد، ثم تعداها ليبهر عيون الأمة الإسلامية في بلاد المسلمين.
إلا أن جهود المخلصين العاملين قد أعادت للأمة ثقتها بدينها وعقيدتها، فنبذت ما عداها من عقائد وقيم وأفكار، واستخفت بما خالفها من أنظمة وأحكام، وعادت تلتمس طريق نهضتها وعزتها على أساس دينها النقي الصافي المبلور الخالي من كل محاولات الخلط والمزج والدس بحجج واهية تم إدراجها ضمن ما يسمى بالقواسم المشتركة، وبالتالي كانت ردة الفعل الغربية انفجار قنبلة محشوّة بالحقد والبغض والعداء. (قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ) [آل عمران 118].
لقد انبرى بعض “المفكرين المسلمين” للذود عن قضايا الجاليات الإسلامية في الدول الأوروبية، إلا أنهم وللأسف جعلوا الواقع السيئ مصدر تفكيرهم يستقون منه الحلول بدل أن يجعلوه موضع تفكيرهم ليضعوا له الحلول، فتطابق نهجهم مع ما يخطط له الساسة الغربيون قصداً أو عن غير قصد، إنها سياسة قائمة على دمج المسلمين في المجتمعات الغربية، واعتبار وجودهم فيها قدراً مبرماً، وبالتالي يسدون العجز المتنامي لعنصر الشباب في مجتمعات تنحدر نحو شيخوخة قاتلة. وفي هذا المجال يقول ” عواد علي ” في نشرة صادرة عن المعهد الملكي للدراسات الإسلامية الذي يديره الحسن بن طلال بعنوان دمج المسلمين في المجتمعات الأوروبية: «ويتضح من هذه اللمحة التاريخية السريعة أن الوجود الإسلامي اليوم في أوروبا ليس وجوداً طارئاً أو استثنائياً، ولم يعد مجرد جماعات مهاجرة للعمل لا تلبث أن تعود إلى بلدانها، بل أصبح جزءاً من النسيج الاجتماعي لسكان القارة. وثمة أجيال ولدت وعاشت وأضحت جزءاً لا يتجزأ من المجتمعات الأوروبية».
ولم يكتفِ هؤلاء بذلك بل وضعوا آليات للدمج يشارك من خلالها المسلمون في بناء المجتمعات الغربية عن طريق العمل المؤسسي، مقررين أن لا مستقبل لهؤلاء المسلمين إلا مستقبلاً واحداً هو مستقبل الدول الأوروبية التي يعيشون فيها، ناسين أو متناسين أن المسلمين حملة رسالة إلى العالم أوجب الله عليهم فيها أن يحملوا الإسلام كاملاً لغيرهم من الأمم والشعوب ليخرجوهم من الظلمات إلى النور، وبأنهم أمّة واحدة من دون الناس. يقول “علي عواد” في نفس النشرة السابقة
«وإذا ما قارنا بين وجهتي نظر المسلمين وحكومات الاتحاد الأوروبي حول الاندماج، اللتين عرضنا أبرز ملامحهما، نجد أن نقاط التلاقي بينهما أكثر من نقاط التباعد، فكلتاهما تؤكد على مبادئ أساسية هي: الالتزام بالقوانين الخاصة بواجبات المواطنة وحقوقها، والأسس والقيم الرئيسة المتبعة في أوروبا مثل حقوق الإنسان، والديمقراطية، واللوائح الموضوعة من قبل الجهات الرسمية، والمشاركة الإيجابية والفعالة في مؤسسات المجتمع المدني، والأنشطة البيئية والاجتماعية في الحي والمدينة وعلى مستوى الدولة، وبناء العمل المؤسسي، والبعد عن التمحور حول العرقية والمذهبية والطائفية، واعتبار المسلمين جزءاً أساسياً من المجتمعات الأوروبية، ومن تاريخها وحاضرها ومستقبلها».
في خضم هذه المتغيرات التي انقلب فيها السحر على الساحر، ورفض المسلمون فيها أن تمتهن شخصيتهم الإسلامية وتذوب في مستنقع الأفكار الغربية، وبالتالي تصبح جزءاً من النسيج الاجتماعي لتلك الدول؛ طرحت سياسة دمج الجاليات الإسلامية في المجتمعات الغربية، وللوقوف على أبعاد هذه السياسة وما ترمي إليه لا بد من التركيز على الملاحظات التالية.
أولاً: إن الذي أذكى روح الصراع مع المسلمين هم ساسة الغرب ومفكروهم عندما وجدوا أنفسهم عاجزين أمام مد إسلامي جامح يطال كل المسلمين، بل ويتعداهم إلى غيرهم من الأوروبيين الذين يدخلون في الإسلام بشكل لافت للنظر، وبالتالي فإن سياسة تأجيج هذا الصراع ليست عابرة قد تزول بتملق أو مداهنة أو ابتداع قواسم مشتركة.
ثانياً: إن سياسة دمج الجاليات الإسلامية في المجتمعات الغربية قد تم إعدادها في المطابخ الأوروبية من قبل نفس المفكرين الغربيين وساستهم ولكن بقناع آخر، فهم بلا شك يدركون حاجة أوروبا التي غاصت أقدامها في وحل الشيخوخة إلى الأيدي العاملة الشابة، إلا أن وجودها يجب أن يحاصر بإطار من التخويف والتهويل والكبح أحياناً، وبسياسة التذويب والدمج والتخلي عن القيم والمبادئ والأفكار أحياناً أخرى، فتضافرت جهودهم بتنسيق مع الأنظمة في البلاد الإسلامية مع جهود أرباب حوار الأديان السائرين ضمن سياسات هذه الأنظمة التي تأتمر بأمر الغرب لكبح جماح المسلمين، وابتداع دين إسلامي المظهر، غربي الجوهر، وبالتالي فإنه قد بات واضحاً أن السياسة الغربية المتعلقة بالمسلمين هناك تطير بجناحين غربيين، أحدهما جناح الدمج وفقدان الهوية، والآخر جناح الحقد والتخويف بالطرد، وكان تبني سياسة دمج الجاليات الإسلامية في المجتمعات الغربية من قبل بعض علماء المسلمين هو الذيل الذي يحفظ التوازن، غير مدركين وبكل أسف أن وجود قواسم مشتركة بين أحكام الإسلام وأحكام الكفر لا يعدو عن كونه محض وهم، لا يختلف عمن يبحث عن قواسم مشتركة بين الزنا والزواج.
ثالثاً: لقد كان لسياسة الحرب على الإرهاب التي أعلنها بوش الابن الأثر في نفوس هؤلاء فآزروه ونصروه بإصدار الفتاوى التي تتماشى مع محاربة الإسلام السياسي، وتوجب إظهار الذلة والصغار من المسلمين للكافرين في البلاد الإسلامية والغربية، بل وتجعل للكافرين على المؤمنين سبيلاً، والله تعالى يقول (وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا) [النساء 141]. ظانين أن أميركا وأوروبا تحاربان تياراً إسلامياً أصولياً واحداً له معالم بارزة، والحقيقة أن هذه الدول تحارب كل ما يبرز المسلمين بأنهم أمّة من دون الناس وصدق الله العظيم (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء 92] وأن هذه الدول لن يهدأ لها بال طالما أن المسلمين هناك متمسكون بإسلامهم الحقيقي، أما إن هم تخلوا عن خصوصياتهم ودانوا بدين مفترى يرضاه ساسة الغرب، فإن نظرة العداء ستتلاشى، والتهديدات ستضمحل، شأنهم -أي ساسة الغرب- شأن كفار قريش الذين قال الله فيهم (وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا) [الإسراء 73]. وما التصريحات التي صدرت عن ساسة الغرب أمثال بوش الابن وبلير وأوباما المتعلقة بتعريف المسلمين بالإسلام وبأنه دين التسامح والحوار واحترام الآخر إلا شكل من أشكال (لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ) إلا أن الله سبحانه وتعالى تكفل بحفظ كتابه، فكان الافتراء على الأحكام، وهذا ليس غريباً من أعداء الإسلام، إلا أن الغريب المعيب أن تصدر نفس التصريحات عن بعض علماء المسلمين الوسطيين المعتدلين!
رابعاً: إن دعاة حوار الحضارات المنظرين لسياسة الدمج قد تخلّوا عن الإسلام كمشروع سياسي عالمي يجب أن يطبقه المسلمون في جميع شؤون حياتهم، وأن يحملوه لإخراج العالم من الظلمات إلى النور، ولذلك ساروا في ركب الحكام الذين يسوسون الناس بغير ما أنزل الله، وبالتالي انتهجوا سياسة التشكيك في الثوابت الشرعية التي تتعارض مع سياستهم، لقد أقروا سياسة دمج الجاليات الإسلامية، ثم عمدوا إلى ليّ أعناق الأدلة لتنسجم مع ما ذهبوا إليه، بل وصل الأمر بهم إلى إهمال الأدلة والأخذ بفقه الواقع وفقه الموازنات.
ومن أهم الثوابت التي عمدوا إلى التشكيك فيها مفهوم دار الإسلام ودار الكفر أو دار الحرب، فقد أعلن نائب رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، الشيخ عبد الله بن بيه في برنامج الشريعة والحياة في قناة الجزيرة في الحلقة التي تم بثها بتاريخ (11/4/2010م) تحت عنوان الفقهاء وتقسيم العالم، أن مفهوم دار الإسلام لا يخرج عن كونه رأياً فقهياً. وللإمعان في هذه السياسة تم بكل أسف قطع الاتصال عن عالم غيور تدخل ليسرد الأدلة التي تدحض ما ذهب إليه “عبد الله بن بيه”، إن الدافع الذي دفع هذا العالم لمثل هذا الرأي ليس نابعاً من كونه قد استنبط حكماً لمسألة من المسائل فكانت نتيجة الاستنباط مغايرة لما استنبطه العلماء الأوائل ،بل الدافع هو أنّه يريد أن يفصّل حكماً جاهزاً يتماشى مع الواقع المزري الذي تحياه الأمة وينسجم مع سياسة أجمع عليها ساسة الغرب وحكام المسلمين فكانت إجماعاً من نوع آخر، ويندرج تحت هذه السياسة ما نشرته وكالات الأنباء بتاريخ 6/5/2010م بأن مفتي مصر قد طلب من الدول الأوروبية اعتماد الأزهر كمرجعية إسلامية، وقد قوبل طلبه برحابة صدر وارتياح، كيف لا وقد صرّح شيخ الأزهر الراحل سيد طنطاوي بالأمس القريب أن من حق فرنسا منع المسلمات من لبس الحجاب، بل وأصدر العشرات من الفتاوى التي لم يكن يتصور دعاة حوار الحضارات أنفسهم أن تصل جرأته في التطاول على أحكام الله إلى هذه الدرجة.
حيال ذلك كله يتبين لكل ذي لب أن ساسة أوروبا ومفكريها لن يقبلوا بوجود حضارة منافسة لحضارتهم، تمتد جذورها في بلادهم، ويفوح عطرها بين شعوبهم، وما ظن دعاة الاندماج مع بقاء وبروز بعض المظاهر الإسلامية هناك إلا وهماً، بل إن بعضهم توهم أن أوروبا وأميركا أصبحتا تنظران إلى الإسلام على أنه شريك حضاري خاصة بعد الأزمة الاقتصادية الخانقة الني عصفت بالولايات المتحدة وامتدّ لظاها إلى أوروبا وبقية دول العالم، وطرح حينها من البعض أن النظام الاقتصادي في الإسلام هو الكفيل بتجاوز هذه المحنة، وبمعزل عن إمكانية تطبيق النظام الاقتصادي مجرداً من العقيدة المنبثق عنها فإن أنصار سياسة الدمج قد طالبوا المسلمين هناك بخفض الجناح الفكري، وعدم الاعتزاز بدينهم بشكل يستفز ّ الغربيين، وعدم استخدام بعض المصطلحات التي تعزّز “الفوبيا” عند الشعوب الأوروبية، وفي هذا الشأن كتب محمد سلطان في مقال له تحت عنوان “جدوى إخافة أوروبا من الإسلام”: لا نريد إخافتها بخطاب استعلائي يقدم الإسلام بوصفه خصماً من مسيحيتها -سيّما وأنها تبحث اليوم عن الإسلام الشريك الحضاري». ولست أدري ما هو السبيل الذي يجب انتهاجه لدعوة الناس إلى الإسلام، ووجوب ترك عقائدهم الباطلة والتي هي كفر صراح بنص القرآن في خضمّ هذه السياسة؟ ولعل الكاتب قد غفل عن حقيقة أن ساسة أوروبا ومفكريها يعتبرون الصراع القائم ليس مع النصرانية وإنما مع الحضارة الغربية القائمة على فصل الدين عن الحياة. .
إن القرار الذي يتوجب على المسلمين اتخاذه في البلاد الغربية هو قرار شرعي فقط، ولا يجوز أن يكون هذا القرار نابعاً من سياسة الأمر الواقع التي يفرضها ساسة الغرب، سواء أكان ضمن سياسة الدمج أو سياسة التهديد، كما أنه لا يجوز أن يكون هذا القرار نابعاً من سياسة الإرضاء التي درج عليها دعاة الدمج
لقد كان لهجرة المسلمين إلى الدول الأوروبية عوامل كثيرة منها ما كانت الأحداث السياسية دافعاً لها أو مثبتاً لها، ومنها ما هو متعلق بالوضع الاقتصادي المزري والمهين الذي يعيشه السواد الأعظم من أبناء المسلمين في بلادهم، ومنها ما كان فراراً من بطش الحكام في بلاد المسلمين ممن حملوا أفكاراً تهدد العروش التي ناخت على صدر الأمة بأوزارها، وبالتالي فإن انعدام هذه الأسباب سيؤدي حتماً إلى عودة هؤلاء المسلمين إلى وضعهم الطبيعي بين أهليهم وذويهم.
أن هموم المسلمين في الغرب لا تختلف كثيراً عن هموم المسلمين في البلاد الإسلامية؛ لغياب الراعي الذي يرعى الأمّة كأمثال أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعمر بن عبد العزيز، ولغياب الكيان السياسي الواحد الذي يحمي بيضة المسلمين وبه تصان عزتهم وكرامتهم. وبإقامته تتلاشى أسباب الهجرة المهينة إلى بلاد من يدوسون على مبادئهم في سبيل أطر المسلمين على مفاهيم الغرب أطراً، وخدش خصوصياتهم الدينية، بل واتباع سياسات التحقير والتجسس والاعتداء على الحريات أثناء التفتيش في المطارات، كتب المفكر الإسلامي حسن الحسن في مقال تحت عنوان «المسلمون في الغرب ومعركة القيم»:
«ومن هنا نلحظ أنه على الرغم من دوام تقهقر الحجج الغربية وإفلاسها بخصوص المواضيع المطروحة، فإنها تجدد نفسها بشكل أو بآخر لتدور دوماً على محور واحد، وهو لفت انتباه المواطن الغربي إلى أن أمنه واستقراره ورفاهيته تقف على كف عفريت، وأن محافظته على مكتسباته رهنٌ بمكافحة الإسلام، وأن التضحية ببعض القيم في الغرب لصالح تأمين تلك المصالح أمر ينبغي تفهمه وتبريره والقبول به بل وتأييده. الأمر الذي ينذر بمستقبل قاتم يتهدد المسلمين في الغرب، والذي يجعل منهم كبش فداء لتحقيق أطماع النظم السياسية الغربية».
أمام هذه التحديات الجسام يقع على كاهل المسلمين في أوروبا دور كبير في إرساء دعائم المشروع الإسلامي العالمي المتمثل بإقامة دولة الخلافة الراشدة الثانية التي بشر بها رسولنا الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، ويكون ذلك من خلال:
أولاً: أن يعتزّ المسلمون في البلاد الأوروبية بعقيدتهم وأحكام دينهم، وأن يظهروا هذا الاعتزاز ويبينوا لغيرهم من الشعوب في بلاد الغرب أن لا نجاة للبشرية من الرأسمالية الجشعة التي سلبت الشعوب وقتلت الأطفال والشيوخ وامتهنت الكرامات وتنكرت للقيم والمثل التي وضعها مفكروها إلا الإسلام، ضاربين عرض الحائط توصيات دعاة الدمج المتمثلة بإظهار التذلل الفكري لأهل العقائد الباطلة واسترضائهم، وصدق الله العظيم إذ يقول: (وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا) [الإسراء 74] ويقول سبحانه: (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) [القلم 9]. كما أن عليهم أن لا يأبهوا لردّات الفعل عند السياسيين الغربيين طالما أنهم ينتهجون الأسلوب الفكري ودحض الحجة بالحجة. والإتيان بالدليل والبرهان بعيداً عن أي عمل مادي، اقتداءً بالرسول عليه الصلاة والسلام.
ثانياً: أن يتواصلوا مع أمتهم في البلاد الإسلامية معتبرين تواجدهم في الدول الغربية تواجداً طارئاً عرضياً فرضته ظروف قاسية ومؤامرات مبرمة من ساسة الغرب وحكام المسلمين وبطانتهم. وبأن هذه الظروف زائلة عما قريب إن شاء الله حين تأخذ الأمة زمام أمورها وتساس ذاتياً من أبنائها المخلصين، ولعل لهؤلاء المسلمين دوراً هاماً في عملية دمج الأقطار المختلفة إلى دولة الخلافة حال قيامها، كونهم من سائر بلاد المسلمين التي مزّقتها الحدود المصطنعة وقسّمتها إلى دويلات، فإن مجرّد انتقالهم من البلاد الغربية إلى دولة الإسلام وتواصلهم مع أهلهم سيكون له بالغ الأثر على بقيّة المسلمين لكونهم النموذج العملي الذي يمثل اجتماع أبناء المسلمين على اختلاف أعراقهم وقومياتهم ومذاهبهم، ورغم الحدود المصطنعة بين بلدانهم الأصلية، في كيان سياسي واحد هو دولة الخلافة.
ثالثاً: أن يدركوا أن دعوتهم للاندماج في المجتمعات الغربية دعوة مشبوهة، ولدت من رحم المفكرين الغربيين، وتبناها حكام المسلمين، وسوّقها بعض العلماء والدعاة على غير هدى وبصيرة ووعي سياسي وشرعي، وأن عمل هذه الجاليات الأصلي يجب أن ينصبّ على بناء دولة الإسلام والنهوض بها حال قيامها، وبالتالي فإن على العلماء في كافة التخصصات، وعلى الخبراء الذين اكتسبوا المهارات المختلفة أن يكونوا على أهبة الاستعداد للنهوض بدولتهم -دولة الإسلام- وأن يكونوا مهيئين لهذا الدور بشكل دائم خاصة وأن الفرج بإذن الله قريب.
رابعاً: أن يدركوا أنهم يشكلون ذخراً لأمتهم إذا ما ملكت زمام نفسها وتخلصت من ربقة الهيمنة الغربية، وأن رسالتهم في الحياة هي خدمة الإسلام والمسلمين لا خدمة الكفار والنهوض بمجتمعاتهم، خاصة وأنهم ناصبوا المسلمين العداء، ودعموا أعداء الله اليهود، وأمدوهم بكل أسباب القوة والمنعة، واحتلوا الكثير من بلاد المسلمين، وسلبوا النفط والمعادن والخيرات، فلا بد من ترك هذه البلاد لتتدبر أمرها بنفسها، وهي مقبلة على شيخوخة مهلكة سطّر أسبابها مفكروهم حين جعلوا مفهوم السعادة عندهم هو أن ينال المرء أكبر قدر ممكن من المتع الجسدية، فكان هذا المفهوم وبالاً عليهم، ولا يليق بأن يكون أبناء المسلمين هم الذين يسدون العجز ويرقعون الخرق، خاصة لدول تبغض المسلمين وتمعن في أبنائهم قتلاً وتعذيباً وأسراً، إنه لحري بهم أن يكونوا سادة في بناء مشروعهم السياسي العالمي، لا أن يكونوا أدوات يستخدمها الغرب لأطماعه وطموحاته، يقتاتون بفتات الغربيين، ويساهمون في تشييد صروح الرقي والازدهار والعمران في بلاد يعتبرهم أهلها غرباء، أظهرت دراسات إحصائية أن 31% من المواطنين في الدنمارك يعتبرون قدوم أصحاب الأديان الأخرى يمثل إزعاجاً لحياتهم اليومية، وأن 80% منهم لم يتعامل مع المسلمين البتة.
نسأل الله سبحانه أن يعجّل لنا بالنصر والتمكين، وأن يخلص المسلمين في بلاد المسلمين من حكم الطاغوت، وأن يخلص المسلمين في الغرب من الهيمنة والاستعباد والتجبر، وأن يلم شعث المسلمين في دولة تطبق شرعه وتحمله إلى عالم أنهكته النظم الوضعية البشرية وأفقدته إنسانيته وكرامته.
2010-07-17