القول المختار في وجوب اتحاد المسلمين في الصيام والإفطار
2010/09/17م
المقالات
2,501 زيارة
القول المختار في وجوب اتحاد المسلمين في الصيام والإفطار
لقد كثُر حديث المسلمين قديماً وحديثاً في أمر الصيام والإفطار، وهل يجب على المسلمين أن يتوحدوا صياماً وإفطاراً وإن تباعدت أقطارهم، أم أن لكل بلد رؤيته، ولا يُلزَم برؤية غيره -وهو القول المنقول عن ابن عباس (رضي الله عنهما)-، وأدلى كلٌّ بدلوه متوسلاً بالأحاديث التي تؤيد رأيه وما ذهب إليه، ولأننا نرى أن هذه المسألة ليست من الاجتهاد في شيء، فهي تُصادم النصوص الصريحة الصحيحة، لذلك آثرنا الكتابة في موضعها.
بدايةً لا بد من التذكير بأنه ليس كلّ خلافٍ جاء معتبَراً، إلا خلافاً له حظّ من النظر، فلو أراد إنسان أن يجمع من كتب الفقه ومن أقوال الفقهاء وآرائهم ما يتصادم والنصوص الصريحة الصحيحة لجمع المجلدات، وما ذلك إلا لأنهم -ببساطة- بشرٌ ويصحّ عليهم ما يصحّ على سائر البشر، فليس كل خلاف في مسألة من مسائل الفقه محل اعتبار ونظر، وبخاصة تلك الآراء التي تُصادم النصوص، وكما قيل إن الاجتهاد في النص، ولا اجتهاد مع النص، بمعنى أن المسألة إذا جاء النص فيها لا يحتمل تأويلاً ولا اجتهاداً، تعيَّن المصير إلى النص دون الالتفات إلى ما قيل في المسالة من أقوال.
فالقول مثلاً بأن الربا لا يكون إلا في النسيئة قول خطأ، والقول بأن ليلة القدر قد تكون في غير رمضان هو قول خطأ، والقول بسلسلة حوادث لا أول لها هو قول خطأ، والقول بأن البيعة بالتّعيين تصحّ هو قول خطأ، ومعنى أنها خطأ، أنها أقوال جاءت مصادِمةً لنصوص صريحة صحيحة قطعية في دلالتها لا تحتمل اجتهاداً ولا تأويلاً، فهي ليست من الاجتهاد في شيء ولا قيمة شرعاً لها، بغضّ النظر عن عدد قائليها ومكانتهم (فكل ابن آدم خطّاء).
ولو عدنا إلى المسألة محل النقاش لتبين لنا أن القول فيها واحد، ولا اعتبار فيها لأي خلاف أو اجتهاد لمصادمتها للأدلة، ومنها:
الدليل الأول: قوله تعالى: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) [البقرة 185].
وشهد في اللغة لها أربعة معانٍ:
الأول: بمعنى أخبر بالأمر وذلك كقولنا (شهد فلان بكذا عند القاضي).
الثاني: بمعنى اطّلَع وعاين وذلك كقولنا (شهدتُ فلاناً يُصلي).
الثالث: بمعنى حَضَر وذلك كقولنا (شهد عليٌّ (رضي الله عنه) بدراً).
الرابع: بمعنى عَلِم وذلك كقول الله تعالى (قَالَتْ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ) [النمل32].
أما الأول وهو شهد بمعنى أخبر، فلا تعلُّق له بالآية من قريب أو بعيد، أما الثاني فباطل بالنقل والإجماع، وذلك لأنه يفيد بأن الصيام لا يجب إلاّ على من رأى الهلال رؤى العين، فوجب على هذا الحمل أن يذهب المسلمون كلهم لرؤية الهلال، وأما الثالث وهو القول بأن شَهِد بمعنى حَضَر، فهو قول لبعض العلماء وهو حضر بمعنى كون المكلف حاضر (مقيم) أي ليس مسافراً، فهو قول صحيح لكن لا شأن لنا به هنا في مسألتنا، أما الرابع وهو أنَّ شهد بمعنى عَلِم فإن هذا المعنى هو الذي يتعيَّن المصير والذهاب إليه، ذلك بأن المعنى الذي ذهب إليه عليه الصلاة والسلام (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) فكان هذا المعنى هو الذي بينه لنا (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله وفعله، فإنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قد صام وأفطر برؤية غيره دون تكلُّف، فإنه قد اكتفى بأن قال لمن شهد عنده بالرؤية: أتشهد أن لا اله إلا الله وأن محمداً رسول الله، قال: نعم. وذلك لأن هذا من الشهادة في حكم شرعي وهي لا تُقبَل إلا من مسلم.
الدليل الثاني: قوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [البقرة 189].
والأهلة هي اثنا عشر هلالاً، والشهر هو ما بين الهلالين، فإذا رئيَ الهلال في بلد صحّ لنا أن نقول بأن الشهر الفلاني دخل، ويصبح ميقاتاً لنا في صيامنا وحجّنا، ولعمري لو أن رجلاً خرج علينا بقوله إنه يرى ليلة القدر، «وهي الليلة التي نزل فيها القرآن، والتي جاء القرآن القطعي الدلالة والثبوت بأنها ليلة واحدة»، لو خرج علينا بقوله إنها ليست ليلة واحدة، بل لياليَ عدة، أفيكون لقوله هذا أي اعتبار، أم يكون قولاً فاسداً كما لا يخفى؟ ولا أدلَّ على فساده من أنه لم يقل به أحد من المسلمين فضلاً عن علمائهم.
الدليل الثالث: قوله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) [النساء 59].
والردُّ إلى الله معناه الردُّ إلى كتابه بمعنى أن يكون المُحكَمُ قاضياً على المتشابه والنّاسخ قاضياً على المنسوخ وهكذا، فلا محل مثلاً للاستدلال بآية الوصيّة في الميراث مع نسخها بآية المواريث، ونسخ ثبوت الواحد للعشرة، بثبوت الواحد للاثنين بقوله تعالى: (الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) [الأنفال 66] وغير ذلك كثير.
أما الرد إلى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فإن المقصود منه، أنه يتعين على المسلم الذي يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقف عند فعله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقوله الذي بينه لنا، ومن ذلك أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) لِرفعِ الإشكال والإجمال في حديث: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ»… الحديث.
بين لنا ذلك بفعله، فقد صام وأفطر برؤية غيره. فضلاً عن أن الحديث ليس فيه ذكر لاختلاف المطالع ولا أن لكل بلد رؤيته، بل إن كل ذلك من التقوُّل على الحديث وتحميله ما لا يحتمل سيما أن الحديث ورد مبيَّناً مفسَّراً من رواية كريب نفسه وهو الحجة والفصل.
الدليل الرابع: قال البيهقي في سننه، أخبرنا علي بن أحمد بن عبدان، أنبأنا أحمد ابن عبيد، حدثنا عبيد بن شريك، حدثنا بن أبي مريم، أنبأنا محمد بن جعفر، أخبرني محمد بن أبي حرملة، أخبرني كُريب أنه سمع ابن عباس يقول: «أمَرَنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن نصوم لرؤية الهلال ونفطر لرؤيته فإن غُمّ علينا أن نكمل الثلاثين» فهذا هو حديث كريب نفسه اختصَره بعض الرواة بقوله «هكذا أمرنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)» ولم يزد.
والواقع أن ابن عباس قاله مفسَّراً ويدل على ذلك أن الراوي لحديث كُريب الذي احتجوا به هو نفس الراوي لهذا الحديث المفسَّر وهو محمد بن أبي حرملة، ويدل على هذا أن مسلماً في روايته ساق الحديث بقوله: عن محمد -وهو ابن أبي حرملة- عن كُريب أن أم الفضل… وذكر الحديث.
وبذلك يتعين المصير إلى الحديث المفسَّر دون الحديث المجمل، وهذا من الزيادة المقبولة، سيما وأن الراوي للحديث هو نفسه محمد بن أبي حرملة.
الدليل الخامس: لنعد قليلاً لقراءة الحديث الذي رواه كُريب، والذي استدل به القوم على أنه حُجة لهم، وليس الأمر كذلك، فإن كريباً قد سأل ابن عباس (رضي الله عنهما) أَوَلا تكتفي برؤية معاوية وصيامه..؟ فقال: لا، هكذا أمَرَنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
فإن الحديث مشتمل على موقوف ومرفوع
فأما الموقوف فهو عدم قبول ابن عباس خبر كُريب وعدم موافقته معاوية في صيامه وإفطاره وأما المرفوع فهو «هكذا أمرنا الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)».
والحديث الموقوف حُجة على صاحبه ليس غير، كما هو معلوم عند أهل الصنعة، وهو ليس من الأدلة المعتبرة شرعاً.
الدليل السادس: قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا العِدَّةَ ثَلَاثِينَ».
وهذا الحديث من أصرح ما جاء في ضرورة اتحاد المسلمين في صومهم وفطرهم، ذلك أن قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «صُومُوا وَأَفْطِرُوا» إما أن يكون للحاضرين معه، وإما أن يكون لمجموع أمته، ولا يحتمل لغة غير هذا.
أما الاحتمال الأول فباطل ولم يقل به أحد، ذلك أن خطاب الرسول خطاب لأمته كلها، لا يُخص به فرد أو مجموعة، إلا أن يأتي دليل يدل على التخصيص، فلم يبقَ إلاّ أن يكون الخطاب لأمته غير مخصَّص.
هذا في قوله «صُومُوا وَأَفْطِرُوا» أما قوله «فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ» فإنه قد علَّق الأمر بأداة الشرط «إنْ» فكأنه قال (صوموا إلا أن يُغَمَّ عليكم الهلال) وهو لم يُغم علينا مع رؤية بعضنا، وكذلك فإن الفعل الماضي غُمَّ هو فعل ماضٍ مبني للمجهول، وكأن القول أصبح (أيها المسلمون، إذا رأى الهلالَ أيُّ واحد منكم فيَلزمُكم برؤيته الصيام والإفطار).
الدليل السابع: روى البيهقي من طريق ورقاء بن عمر عن عبد الأعلى الثعلبي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: ((كنت مع البراء بن عازب وعمر بن الخطاب (رضي الله عنهما) بالبقيع فنظر إلى الهلال فأقبل راكب فتلقاه عمر فقال: من أين جئت قال: من المغرب، قال: أَهَلَلت…؟ (أي هل رأيت الهلال) قال: نعم، قال عمر: الله أكبر، إنما يكفي المسلمين الرجل)). ورواه الدارقطني بمعنى قريب من هذا المعنى، فهذا عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) قد فهِم من الحديث خلاف ما نُقل عن ابن عباس (رضي الله عنهما) وهو الفهم الذي نَدين الله به، ولا نرى غيره، وحجتنا الآيات والأحاديث الصحيحة الصريحة.
وهنا مسالة هامة: ذكرها علماء الفَلَك في جامعة الملك عبد العزيز، قالوا بعد كلام طويل: (وإذا أخذنا بالقول الشرعي بأنه إذا اشترك بلد مع آخر بليل، فإنه يؤخَذ برؤية البلد الآخر ويصومان ويفطران معاً، وعلى هذا الأساس، فإن جميع بلدان العالم الإسلامي يجب أن تصوم وتفطر في يوم واحد لأنها جميعاً تشترك مع بعضها البعض بليل).
وأخيراً فإن القول باختلاف المطالع ذريعة للحكام المتلاعبين بالدين، النابذين له وراء ظهورهم، لكي يُفرقوا الأمة تبعاً لإبراز شخصياتهم على غيرهم من الحكام -وإن رئيَ الهلال- بحجة أنهم لم يروه في بلادهم التي قسمها الكافر المستعمر بعد احتلالها، وإلا فأي دين وأي فقه هذا الذي جعل الحكم الشرعي تابعاً للحكام؟ فاليمن مثلاً كانت مَطْلَعَين قبل الوحدة ثم أصبحت بعد الوحدة مطلعاً واحداً، والضفة الغربية كان مطلعها مع الشرقية قبل فك الارتباط، ثم بعد فك الارتباط وأوسلو أصبحت مَطْلَعَين.
فليتّق الله هؤلاء الذين يتسمّون بالعلماء الذين -والله- يُرسِّخون التقسيم في بلاد المسلمين تبعاً لحكامهم الذين لم ينظروا للأمر إلا مطاوعةً لـ(سايكس – بيكو) وليس مطاوعةً للحكم الشرعي.
2010-09-17