نظام الخلافة فرضه الله وليس من صنع الصحابة
1988/04/17م
المقالات
4,219 زيارة
بقلم: الأستاذ عايد شعرواي
قال تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ).
نشرت جريدة «الأيام» السودانية في عددها الصادر في 7 كانون الثاني عام 1988م حواراً قالت إنه أجرى مع د. محمد أحمد خلف الله الأمين العام المساعد لحزب التجمع الوحدوي بمصر، وعرفت عنه بأنه «مفكر مصري». وذكرت الجريدة أنها التقت الدكتور خلف الله أثناء مشاركته في أعمال ما يسمى «المؤتمر القومي للأحزاب العربية» الذي انعقد في طرابلس الغرب، وقد برز حياء الجريدة من اسم الدكتور حينما عنونت الحوار بعبارة: «حوار مع المفكر المصري محمد أحمد خلف» أي بحذف لفظ الجلالة.
وكان أجدر بالجريدة السودانية أن تهتم بمشاكل السودان الاقتصادية والمجاعة فيه، والحرب في جنوبه، قبل أن تنتقل إلى طرابلس الغرب لتفتري على الإسلام.
أما ما قاله الدكتور المذكور فهو بالنص: ليست هناك دولة دينية وإنما هناك نظامان سادا المجتمع العربي منذ نشأة الإسلام، فالنظام الأول هو نظام النبّوة والرسالة، وهو نظام ديني لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي يختار الرسول، وإن الرسول يؤدي وظيفته التي حددها الله له وهي دعوة الناس إلى الإيمان بما جاء به الوحي من عند الله ثم ممارسة حياتهم على أساس منه. والنظام الثاني هو نظام الخلافة، والذي صنعه هم الصحابة، وقبل أن يقيموه اختلفوا فيما بينهم من يتولى الخلافة: الأنصار أم المهاجرون؟ وهذا وإنما يعني أنه لم يكن هناك نص ديني في هذه القضية وإلا لما اختلفوا فيما بينهم عند وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم. ويؤيد ذلك أيضاً أن كل خليفة جاء بطريقة غير التي جاء بها سابقه، فأبو بكر رضي الله عنه جاء بعد جدل عنيف بين الأنصار والمهاجرين انتصر فيه المهاجرون آخر الأمر لانضمام بعض الأنصار إليهم بسبب الصراع بين القبائل. وعمر رضي الله عنه جاء باختيار من أبي بكر، وهذه طريقة ثانية غير السابقة، وعثمان رضي الله عنه جاء بأسلوب ثالث وهو تحديد عمر بن الخطاب نفراً للخلافة يختارون واحداً من بينهم، وعليّ كرم الله وجهه جاء بعد حروب مع الأمويين، وهذه الطريقة الرابعة تدل هي الأخرى على أنه لم يكن هناك نص ديني وإلا لما اختلفت السبل في مجيء الخلفاء.
وعن تطبيق الحدود في الشريعة الإسلامية أجاب الدكتور: تطبيق الحدود نظام ديني جاء به النص القرآني وهو من المعاملات وليس من المعتقدات والعبادات، ومن هنا يتأثر بمرور الزمن، أما المعتقدات والعبادات فلا تتأثر، فهي صالحة لكل زمان وكل مكان. ونضرب في ذلك مثلاً واحداً يبين لنا كيف تتأثر الحدود بمرور الزمن، ذلك المثل هو حد الزنا، فالإدانة والعقوبة لا يمكن أن تتم بحكم شرعي إلا إذا شهد أربعة أنهم شاهدوا بأعينهم جريمة الزنا، هذا كان يصلح في القديم وتتم الشهادة في سهولة ويسر أما اليوم فيحتاط مرتكبو جريمة الزنا كل الاحتياط بوسائل مختلفة تتعذر فيها شهادة برؤية الأعين، ومن هنا نرى أن الحكم لا يسهل تطبيقه في هذه الحالات.
وقبل الخوض في الرد على افتراءات الدكتور أورد بعض الملاحظات:
أولاً: يبدو واضحاً أن الجريدة التي تجرأت ونشرت هذه الافتراءات هي من الجرائد الناطقة باسم الأنظمة المحلية، تلك الأنظمة المرتبطة كلياً بالغرب، وعن سبق إصرار وتخطيط قامت بإجراء المقابلة مع شخص تعرف سلفاً علمانيّته وأفكاره المعادية للإسلام، وتعرف أن أجوبته ستكون كما يريد ويشتهي من هم وراء تلك الجريدة والنظام الذي أفرزها.
ثانياً: إن الدكتور العلماني النزعة والعروبي العصبية والغربي الفكر تجرأ وبدأ تنظيراته حول الإسلام وهو لا يجهل ما يقول، ولا هو من سكان القطب الشمالي حيث يتجاهل شروق الشمس يومياً من المشرق وغيابها في جهة الغرب حين أنكر حقائق بديهية وزوّرها.
ثالثاً: إن حضور الدكتور المذكور مؤتمراً للأحزاب القومية في طرابلس الغرب يدل دلالة واضحة على أن راعي المؤتمر هو القذافي الذي أنكر الأحاديث النبوية واعترض على بعض الآيات القرآنية، وروّج لكتاب غير هو «الكتاب الأخضر»، وعلق المؤمنين من حَمَلة الدعوة على أعواد المشانق، فلا عجب إذن أن يصدر هكذا هراء من تلميذ «الكتاب الأخضر».
رابعاً: إن كتّاب السلاطين نشطين في هذه الأيام لعلهم يستطيعون تطويق أو تضليل جيل الصحوة الإسلامية درءاً لأخطار ذلك على عروشهم، ودفعاً لخطر الفكر الإسلامي على فكر أسيادهم الغربيين.
خامساً: أراد الدكتور والجريدة التي استنطقته فنطق أن يصور للناس بعض الأضاليل ومنها:
1- إن نظام الخلافة نظام من صنع الإنسان فهو بشري وليس استجابة لشرع الله سبحانه. وبناء على ذلك يجوز في نظره أن تكون جمهوريات وإمارات وممالك وإمبراطوريات متعدّدة ضمن العالم الإسلامي، بل يجوز أن تبقى مجموعة قبائل هائمة في الصحراء بدون رقيب ولا سلطان، تتصارع في مجتمع الجاهلية الجديدة.
2- يدعي الدكتور أن للإسلام نظامين: الأول نظام النبوة والرسالة وهو نظام ديني، والثاني نظام الخلافة والذي صنعه الصحابة (على حد تعبيره).
3- أنكر وجود «نص ديني» في قضية الخلافة.
4- أدّعى أن كل خليفة جاء بطريقة غير التي جاء بها سابقه.
5- تفتّقت عبقريته عن نتيجة أخرى وهي أن تطبيق الحدود هو من المعاملات لذلك يتأثر بمرور الزمن، أما المعتقدات والعبادات فلا تتأثر بمرور الزمن.
سادساً: من المعروف لدى كل الفقهاء والمجتهدين أن كل رأي أو قول لا يستند إلى دليل شرعي من كتاب أو سنة أو إجماع صحابة أو اجتهاد صحيح لا يعتبر رأياً إسلامياً، وإنما هو سفسطة كلامية لا قيمة لها، وبمعنى آخر لا يجوز شرعاً لأي مسلم أن يقول هذا جائز وهذا غير جائز بدون الاستناد إلى دليل، ولا يعتبر رأيه اجتهاداً إلا إذا كانت عنده أهلية الاجتهاد ودعم ذلك بدليل أو شبهة دليل، وإلا لأصبح الخوض في الأحكام الشرعية وإصدار الفتاوى مثل قرض الشعير وعلى كل شفة ولسان، ولأصبح كل من يحمل شهادة مفتياً. فالإسلام ليس ألعوبة بيد الإعلام وحرّاس الفكر الغربي، ولا ينبغي أن يُسمح للمغرضين باللهو في أي مجال من مجالاته، والتبرقع بغلالات كثيفة من التزييف.
وبعد هذه المقدمة ننتقل إلى الأدلة الدامغة التي تكشف زيف ادعاءات كتّاب السلاطين والذين يثيرون نفس المواضيع في أكثر من ندوة وفي كل مجلة وجريدة تسير في خطهم وخط أسيادهم. ونستعرض هنا الأدلة الواردة في القرآن الكريم والسنّة النبوية وإجماع الصحابة، وبعد ذلك نورد قاعدة أصولية وآراء كبار الفقهاء التي وردت في المراجع المعتبرة.
أولاً: القرآن الكريم
هناك آيات تخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يحكم بين المسلمين، بما أنزل الله أي بالشرع الإسلامي، ومعروف بداهة أن الخطاب للرسول هو خطاب لأمته ما لم يرد دليل تخصّصه قال تعالى: (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنْ الْحَقِّ) [المائدة الآية 48]، وقال تعالى: (وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ) [المائدة آية 49]، (فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعْ الْهَوَى) [سورة ص، 46]، وبما أنه لم يرد دليل يخصص هذا الخطاب الموجّه إلى سيدنا محمد، فإن الخطاب يبقى خطاباً للمسلمين إلى يوم الدين بالحكم بما أنزل الله. والحكم بما أنزل الله لا يقوم به مطلق نظام حكم في الدنيا، بل الذي يقوم به هو الخليفة الذي بايعته الأمة ووكّلته لينوب عنها في تطبيق شرع الله عليها، ويسمى نظام الحكم في هذه الحالة نظام الخلافة، ويسمّى من يطبقه خليفة للمسلمين.
وهنالك آيات في موضوع الحكم تنفي صفة الإيمان عمن لا يحكم بما أنزل الله وتصفه بالكفر والظلم والفسق: قال تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ) [المائدة 44]، وقال: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ) [المائدة 45]، وقال: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ) [المائدة 47]، وقال: (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ) [النساء 65].
وقد ورد في كتب التفسير أن من يحكم بغير ما أنزل الله إنكاراً له ولصلاحيته يكفر لأنه ينكر حكماً قطعيّ الثبوت قطعي الدلالة. ومن يحكم بغير ما أنزل الله مع اعترافه بأنه الحق ولكنه يتبع الهوى أو أوامر جهات أخرى فإنه بين ظالم وفاسق. وإذا طبقنا هذه الأوصاف على الخليفة فإنها لا تنطبق عليه لأن من شروط نصب الخليفة أن يكون مسلماً وليس كافراً، وعدلاً وليس فاسقاً، وعادلاً وليس ظالماً (وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ). وإذا فقد الخليفة شرطاً من شروط الأهلية فقد وجب عزله، وإذا ظلم وجبت محاسبته من قبل المسلمين، لذلك ينجو من عقاب الله ومن وصفه بالكفر والفسق، إلا من يحكم بكتاب الله وسنة نبيّه، ومن يقوم بذلك غير الخليفة أو الإمام، أو من تتوفر فيه الشروط الشرعية: مسلم، حر، بالغ، عاقل، عدل، رجل، مبايع بيعة شرعية من قبل المسلمين، وهو لكل المسلمين وليس لقطر أو إقليم معين. وجميع هذه الأوصاف لا تنطبق على أي رئيس جمهورية أو نظام جمهوري، ولا على ملك أو نظام ملكي، وسواء كانت تلك الأنظمة برلمانية أو رئاسية أو دكتاتورية لأنها كلها بعيدة كل البعد عن الإسلام لأنها أنظمة وضعية أي من وضع البشر وتفصل بين الدين والدولة. فيبقى أن الحكم بما أنزل الله لا يتم إلا في ظل نظام الخلافة.
ومن جهة أخرى وردت آيات تذمّ من يتحاكم إلى الطاغوت، وتذمّ حكم الجاهلية (أي كل ما عدا الإسلام).
قال تعالى: (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ) [النساء آية 60]، وقال أيضاً (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) [المائدة آية 50]، ومن البديهي أن الخليفة لا يقبل التحاكم إلى الطاغوت ولا يحكم بأحكام الجاهلية، بل كل الأنظمة الرأسمالية والشيوعية السائدة في العالم مع كل الجمهوريات والممالك والإمارات هي التي تتحاكم إلى الطاغوت وتتبنى حكم الجاهلية، فالجاهلية ليست حقبة تاريخية ولّت، وإنما هي تنطبق على كل فترة أو زمن أو عصر لا تسود فيه أحكام الله وإنما تسود أحكام البشر الوضعية.
هذا بالنسبة للحكم، أما بالنسبة للطاعة فقد وردت آيات تطلب من المسلمين طاعة أولياء أمورهم وهي: قال تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ) [النساء آية 59]، وقال أيضاً (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) [النساء آية 83]. وحينما يرد طلب من المؤمنين بطاعة أولي الأمر فإن ذلك يعني طاعة الحكام، والحكام في الشرع الإسلامي هم الخليفة ومعاونوه والولاة. والخليفة هو الذي يعيّن المعاونين والولاة لذلك فهو الحاكم الأول وهو ولي أمرهم الأول، وقد ورد هذا المعنى أي أن أولياء الأمر هم الحكام في كل من أحكام القرآن لأبي عربي، وتفسير ابن كثير وقد ذكر العلماء مع الأمراء، وفي تفسير الطبري فيما يرويه عن ابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهم، وفي الكشاف للزمخشري وفتح الباري لابن حجر، وروح المعاني للألوسي، وأعلام الموقعين لابن القيم، والفصل في المِلَل لابن حزم، والسياسة الشرعية لابن تيمية، ونظام الحكم لتقيّ الدين النبهاني، وبناء على النصوص القرآنية التي تأمر بالطاعة للحاكم فإنه يتبين أن الطاعة فرض، وإذا كانت طاعتهم فرضاً فإن نصب ولي الأمر يصبح فرضاً لأن الله سبحانه وتعالى لا يأمر بطاعة شخص غير موجود ولا يمارس مهام الحكم، وبذلك يكون الأمر بطاعة ولي الأمر أمراً بإيجاد ولي الأمر، أي أن إيجاده يكون امتثالاً لحكم شرعي وليس امتثالاً لأمر عقلي كما يدّعي البعض.
ثانياً: الأدلة من السنة
هذا فيما يتعلق بالأدلة من القرآن الكريم، أما الأدلة من الحديث الشريف فهي كثيرة، منها:
1- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية» [رواه مسلم].
2- وعن أبي حازم قال: قاعدتُ أبا هريرة خمس سنين فسمعته يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي وستكون خلفاء فتكثر، قالوا ما تأمرنا؟ قال: فوا ببيعة الأول فالأول وأعطوهم حقهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم» [رواه مسلم والبخاري وابن حنبل وابن ماجه].
3- قال صلى الله عليه وسلم: «الإمام جُنَّة يُقاتَل من وراءه ويُتّقى به» [رواه مسلم والنسائي وأحمد وأبو داود].
4- قال صلى الله عليه وسلم: «ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده، وثمرة قلبه، فليطعه ما استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر» [رواه مسلم وابن ماجه].
5- وعن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من كَرِهَ من أميره شيئاً فليصبر عليه فإنه ليس أحدٌ من الناس خرج من السلطان شبراً فمات عليه إلا مات ميتةً جاهلية».
6- روى هشام بن عروة عن أبي صالح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «سيليكم بعدي ولاة فيليكم البرّ ببرّه والفاجر بفجوره فاسمعوا لهم وأطيعوا في كل ما وافق الحق، فإن أحسنوا فكلم وإن أساءوا فلكم وعليهم».
7- وقال صلى الله عليه وسلم: «من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصا الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني ومن يعص الأمير فقد عصاني». [رواه البخاري بهذه الرواية ورواه مسلم والنسائي وابن ماجه وأحمد برواية مشابهة]. وهذا الحديث يؤكد أن طاعة أولي الأمر الواردة في القرآن تعني طاعة الأمير.
8- وقال صلى الله عليه وسلم: «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، الإمام راع ومسؤول عن رعيته» [رواه البخاري].
9- وعن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما».
10- وهناك حديث بأكثر من رواية عن أمير السفر مثل الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن عبد الله بن عمروا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « لا يحلُّ لثلاثة نفر يكونون بأرض فلاة إلا أمّروا عليهم أحدهم»، وما رواه أبو داود من حديث أبي هريرة قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا كان ثلاثة في سفر فليؤمّروا أحدهم» وما نقله الشوكاني من حديث عمر بن الخطاب بلفظ: «إذا كنتم ثلاثة في سفر فأمّروا أحدكم. ذاك أمير أمّره رسول الله صلى الله عليه وسلم». وقول عمر ذاك أمير أمّره رسول الله أي أنه بوحي من الله سبحانه وتعالى ثم إن كل من لفظتي «لا يحل» و«فليؤمروا» قولان على أن نصب أمير السفر هو على الوجوب وليس على الندب أو الإباحة. لأن قوله: «لا يحل» يعني أنه يَحُرم، وما يقابل الحرام هو الفرض وبما أن كلمة فليؤمّروا الموجهة إلى الأمة كلها جاءت بصيغة المضارع المقرون بلام الأمر ومسبوقة في أول الحديث بكلمة «لا يحل» معنى ذلك أن الأمر للوجوب وليس للندب أو الإباحة، والأمر للثلاثة هو أمر لكل عدد جاوز الثلاثة، ويصبح بذلك نصب أمير للأمة جمعاء أكثر أهمية وإلحاحاً وخطورة من نصب أمير الثلاثة. فيكون تنصيب رئيس الدولة أمير الأمة من باب أولى واجباً لأنه واجب على الثلاثة في سفر، فكيف لا يكون واجباً للأمة التي تحمل رسالة تريد إيصالها إلى جميع أقطار الدنيا بالجهاد وغيره، كمقدمة لقيادة الدنيا بالنور المبين.
ثالثاً: إجماع الصحابة
إن إجماع الصحابة يكشف عن دليل شرعي فَهِموهُ من قول الرسول صلى الله عليه وسلم أو علمه أو سكوته، لذلك يعتبر إجماعهم رضوان الله عليهم أجمعين من مصادر التشريع في الإسلام، أي أنه يعتبر دليلاً على أن ما أجمعوا عليه أو شرع وليس عقل، وهو من الطريقة وليس أسلوباً من الأساليب، والطريقة لا تتغير بتغير الزمان والمكان، لذلك يخطئ كل من يقول إن العقل هو مصدر اتفاق الصحابة على أن يختاروا خليفة، لرسول الله صلى الله عليه وسلم فالعقل وظيفته فهم النصوص وليس تشريع شرع جديد، لأن المشرع هو الله سبحانه وتعالى، ولم يترك الشرع ثغرة دون حكم شرعي (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ). كذلك يستحيل أن يترك الشارع أمراً بحجم نصب خليفة وراع للأمة لعقل الإنسان المحدود القدرة، المتفاوت بين إنسان وآخر.
وقد بدا إجماع الصحابة واضحاً فور وفاة الرسول، حين انشغلوا رضوان الله عليهم بتنصيب خليفة له، وتأخر دفنه من يوم الاثنين حتى آخر ليلة الأربعاء [كما ورد في سيرة ابن هشام وابن كثير وسبل السلام]، مع أن دفه الميت فرض ولا يجوز الانشغال عن دفنه بأمر غيره حين اشتراكهما في نفس الوقت إلا لقناعة الصحابة أن نصب الخليفة نُقدم على دفن الميت مع أن كلاهما يعتبر فرضاً، لذلك نرى أنهم أخرّوا الدفن ريثما ينتهون من نصب الخليفة، ولو كان نصب الخليفة مندوباً أو مباحاً لما قدمه الصحابة على الفرض الذي هو دفن الميت. هذا، وهناك أقوال لبعض الصحابة، وأقوال أخرى لكبار الفقهاء، نسوق منها:
وفي هذا المجال قال سيدنا أبو بكر: ألا إن محمداً قد مات، ولا بد لهذا الدين ممن يقوم به، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة مع قدرتهم على ذلك، وموافقتهم هو سكوتهم، وسكوتهم هو الإجماع.
وهناك قول لسيدنا عمر: لا إسلام إلا في جماعة، ولا جماعة إلا بإمارة، ولا إمارة إلا بطاعة.
ويقول الشهرستاني أنه ما دار في قلبه ولا في قلب أحد أنه يجوز خلو الأرض من إمام. فدل ذلك كله على أن الصحابة وهم الصدر الأول كانوا عن بكرة أبيهم متفقين على أنه لا بد من إمام، فذلك الإجماع على هذا الوجه دليل قاطع على وجوب الإمامة..
ويقول ابن خلدون في المقدمة: لذلك فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عند وفاته بادروا إلى بيعة أبي بكر رضي الله عنه، وتسليم النظر إليه في أمورهم، وكذا في كل عصر من بعد ذلك. ولم يترك الناس فوضى في عصر من الأعصار واستقر ذلك إجماعاً، وقال: أن نصب الإمام واجب قد عرف وجوبه في الشرع بإجماع الصحابة والتابعين.
وقال الماوردي في الأحكام السلطانية: عقد الإمامة لمن يقوم بها في الأمة واجب بالإجماع.
هذا بالنسبة إلى إجماع الصحابة وأقوال بعض علماء السلف فيه، وهنالك أقوال لعلماء آخرين حول وجوب إقامة الخلافة نورد منها:
الآمدي: (مذهب أهل الحق من الإسلاميين أن إقامة الإمام واتّباعه فرض على المسلمين).
الغزالي: (أن الدنيا والأمن على الأنفس والأموال لا ينظم إلا بسلطان مطاع وهذا تشهد له مشاهدة أوقات الفتن بموت السلاطين والأئمة، وان ذلك لو دام ولم يتدارك بنصب سلطان آخر مطاع دام الهرج وعمّ السيف وشمل القحط).
ابن تيمية: (يجب أن يعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين، بل لا يقام الدين إلا بها)، (فالواجب اتخاذ الإمارة ديناً وقربة يتقرب بها إلى الله).
الشوكاني: (… وفي ذلك دليل لقول من قال يبج على المسلمين نصب الأئمة والولاة والحكام، لأنه إذا حرم الشرع على ثلاثة من المسلمين أن يظلوا بلا أمير، فكيف ببقاء الأمة الإسلامية كلها بدون أمير).
وقال الشوكاني أيضاً: (نصب الإمام عندنا واجب علينا سمعاً)، (ونصب الإمام بعد انقراض زمن النبوة واجب على الأمة عندنا مطلقاً سمعاً لا عقلاً).
البغدادي: (إن الإمامة فرض واجب على الأمة لأجل إقامة الإسلام).
رابعاً: من علم الأصول
القاعدة الشرعية (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب). فقد وردت آيات كثيرة في القرآن الكريم بصيغة الجمع تطلب من المسلمين إقامة الحدود وحماية الثغور وجباية الزكاة، والحكم بما أنزل الله، والجهاد في سبيل الله، وبما أن إقامة هذه الأعمال هو فرض، وبما أن هذا الفرض لا ينفذ إلا بواسطة خليفة ودولة وسلطة سياسية وعسكرية وأمنية، فإن إقامة الدولة التي تنفذه والخليفة الذي هو رأس الدولة تصبح واجبة، لأن الواجب الأول لا يمكن القيام به إلا بعد القيام بالواجب الآخر وهو نصب الخليفة، وهذا معنى (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب).
والآيات التي جاء فيها الخطاب لعموم المسلمين نستعرض بعضاً منها مثل قوله تعالى: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة آية 179]. وقوله تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ) [الأنفال آية 60]. (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا) [البقرة 190] (قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ) [التوبة 29]، (وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً) [التوبة 36]، وقوله تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا) [المائدة 38]، وقوله تعالى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) [النور 2]، (انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ) [التوبة 41]، (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا) [المزمل 20]، (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً) [آل عمران 130]، (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ) [المائدة 90].
هذه الآيات الكريمة وغيرها والتي تطلب من المسلمين إقامة فروض معينة، تلك الفروض التي من طبيعتها لا يستطيع فرد واحد أن يقوم بها من تلقاء نفسه، ولا تستطيع الأمة مجتمعة أن تقوم بها حيث يتعذر جمعهم في نفس المكان والزمان لقطع يد سارق أو جلد زانٍ، ولا يتم الجهاد ومقارعة الكفار بشكل عشوائي وكيفما اتفق، ولا يتم جمع الزكاة وتوزيعها على أبوابها الثمانية بدون سلطة تراقب وتحاسب، ولا يتم تدبير الشأن الاقتصادي والمالي ومنع تعاطي الربا بدون سلطان، ولا يتم منع صنع الخمر وبيعه وشربه إلا بدولة، ولا يتم منع القمار وتعاطي المخدرات والفساد والمفسدين إلا بأمير ينظّم وينسّق ويتولى الضبط والربط نيابة عن الأمة التي تختاره من أبنائها البررة وتبايعه على السمع والطاعة للعمل بكتاب الله وسنة رسوله، فيكون وكيلاً عنها في تنفيذ ما طلبه الشارع من إقامة الحدود وحماية الثغور، ورعاية الشؤون، ونشر الإسلام، وحفظ الأنفس والأموال من عبث العابثين. هذه الفروض لا يمكن القيام بها إلا بأمير وجهاز حكم يتولى تنفيذها، فأصبح إيجاد الأمير والجهاز الحاكم فرضاً لأن الفرض الأول لا يقام إلا بإقامة الفرض الثاني. يقول الماوردي في كتاب أدب الدنيا والدين: (فليس دين زال سلطانه إلا بُدّلت أحكامه، وطمست أعلامه… لما في السلطان من حراسة الدين، والذب عنه ودفع الأهواء منه… ومن هذين الوجهين وجب إقامة إمام يكون سلطان الوقت، زعيم الأمة ليكون الدين محروساً سلطانه، والسلطان جارياً على سنن الدين وأحكامه). ويقول الجرجاني في ” شرح المواقف”: (إنا نعلم علماً يقارب الضرورة أن مقصود الشارع فيما شرع من المعاملات والمناكحات والجهاد والحدود وإظهار شعار الشرع في الأعياد والجمعات إنما هو مصالح عائدة إلى الخلق معاشاً ومعاداً، وذلك المقصود لا يتم إلا بإمام… بل نقول: نصب الإمام من أتم مصالح المسلمين وأعظم مقاصد الدين). ويقول القلقشندي في “مآثر الانافة في معالم الخلافة”: (أن الخلافة هي حظيرة الإسلام ومحيط دائرته، ومربع رعاياه، ومرتع سائمته، بها يُحفظ الدين ويحمى، وتُصان بيضة الإسلام وتُسكن الدهما، وتقام الحدود، فتمنع المحارم من الانتهاك وتُحفظ الفروج فتصان الأنساب عن الاختلاط، وتحصّن الثغور فلا تُطرق، ويذاد عن الحرم).
وبعد هذا الإسهاب في عرض الأدلة الشرعية على أن نصب خليفة هو مطلب شرعي وهو فرض وليس تدبيراً عقلياً كما يدعي الدكتور محمد خلف الله المتعصب للعرب، كما هو شأن زملائه المنتشرين في زوايا البلدان العربية، والذين يصل تعصبهم للعروبة لدرجة العنصرية والتمييز العنصري إن لم نقل لدرجة إحياء الفرعونية في مصر والفينيقية في لبنان رغم تعارضها مع عروبتهم، ولكنهم لا يجدون الوقت الكافي لمهاجمة إسرائيل أو الانحراف بمصر نحو الفرعونية (حضارة 6000 سنة) كما يدعي حكامها، وذلك بسبب انشغال كُتّاب الطواغيت بالكيد للإسلام وأهله. وهو عندما يردد وراء المستشرقين ووراء الفكر الغربي بقوله أن هناك نظام ديني وآخر غير ديني، فإنما هو يعني حتماً فصل الدين عن الدولة، أو الدين عن السياسة، أو السلطة الزمنية عن السلطة الروحية، كما هو حال المجتمعات الرأسمالية في الغرب. وحينما يقول لا توجد نصوص فهو يكذب لأن النصوص واضحة، وحينما ينكر أن نظام النبوة والرسالة لم تنشأ عنه دولة دينية فهو ينكر أن نظام النبوة والرسالة لم تنشأ عنه دولة دينية فهو ينكر السيرة وحقائق التاريخ إذا كان لا يعترف بالنصوص كمصدر لمعلوماته. وحين يدعي أن الحدود هي من المعاملات ولذلك تتأثر بمرور الزمن ويضرب مثالاً: توفر أربعة شهود لإقامة حد الزنا فهو يوجّه دعوة سافرة لتحريف الشرع وتغييره بكل جرأة، وبكل استهتار بمشاعر المسلمين، ولكن سواء وجد من يصغي له أم لم يوجد، فلن يؤثر على سير القافلة التي انطلقت منذ سنين عدة، وهيهات أن ينالوا منها لأن الله وعد بإتمام نوره (وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) ولن يبقى لهم بعدها سوى أن يموتوا بغيظهم (قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) [آل عمران 119].
1988-04-17