صدر عام 1993 كتاب اسمه (خارج حدود السيطرة OUT OF CONTROL. مؤلفه «زبغنيو برجنسكي» مستشار الأمن القومي للرئيس الأميركي السابق جيمي كارتر (1977 ـ 1981) والذي يعمل حالياً مستشاراً في مركز الدراسات الاستراتيجية والعالمية بواشنطن، كان يعمل محاضراً في مادة السياسة الخارجية الأميركية في معهد بول نيتس في جامعة هوبكنز في واشنطن. وهو يهودي هاجر من بولندا وحصل على الجنسية الأميرية عام 1908.
وأهمية هذا الكتاب في نظر الباحثين الأميركيين والغربيين تكمن في كون يدق ناقوس الخطر بشكل جدي بأن الأمور باتت على وشك الانفلات من السيطرة. ويقترح ما يراه علاجاً لأدواء العالم المعاصر حتى لا يخرج تماماً عن نطاق السيطرة.
وقد أخذنا فصلاً من الكتاب بعنوان «إباحية الوفرة» يشرح فيه المؤلف العوامل التي تنخر في النموذج الأميركي بشكل خاص والغربي بشكل عام، هذا النموذج الذي يقوم على الحضارة الغربية. وقد أخذنا هذا الفصل عن مجلة «قضايا دولية» تاريخ 18/04/94 من إعداد مختار محمد:
إباحية الوفرة:
يقصد برجنسكي بإباحية الوفرة الحالة التي تسود العالم الغربي اليوم وعلى رأسه الولايات المتحدة الأميركية، ويعرّفها بأنها «حالة المجتمع الذي يُسمح فيه بكل شيء ويمكن الحصول فيه على كل شيء، وهو مجتمع انحط مستواه الأخلاقي وانصب جهد الإنسان فيه على تلبية رغباته وإرضاء شهواته؛ ويمكن أن نستعرض ما كتبه برجنسكي عن إباحية الوفرة ونتائجها بالتركيز على بعض السمات الرئيسية لهذه الحالة، والتي من أهمها:
– أن هذه الحالة نتيجة لعاملين: أ- الوفرة المادية عند قطاع من الناس. ب- الشعور بعدم الامتلاك الكامل لهذه الوفرة عند القطاع الأكبر، ويصل هذا الشعور إلى حالة من الجشع والنهم الذي لا يعرف الحدود ولا يشبع، ويدفع الفرد إلى سلوك أي سبيل وانتهاج أية طريقة لامتلاك هذه الوفرة.
– إن هذه أشبه ما تكون بفلسفة متكاملة للحياة، وهنا يسجل برجنسكي احترازاً لأن فلسفة الغرب ـ كما يقول ـ في حالة تقلب وتحول مستمرين ومن الصعب تحديدها في حالة إباحية الوفرة.
– عالَم إباحية الوفرة عالم اختلف فيه موازين الأخلاق وموازين الخير والشر وتم استبدالها بموازين من صنع البشر «قانوني وغير قانوني»، وهكذا تم إقصاء القيم الدينية الداخلية في ضمير الفرد ووُضعت مكانها قوانين وقواعد خارجية تنفذها أجهزة الشرطة والأجهزة القانونية، فلم تنتج الانضباط لوجود ثغرات عديدة في هذه القوانين ولأنها خارجية وغير ملزمة أدبياً، ولغياب الضوابط الداخلية المطلقة. ويضرب برجنسكي مثالاً على تفنن الأفراد في خرق هذه القوانين الخارجية وعدم تحرجهم من اقتراف الجرائم؛ بفضائح سرقات الأموال التي تهز مؤسسة «وول ستريت» من حين لآخر.
– عالَم إباحية الوفرة يشكو كذلك من اختلال مفهومي «الحرية» و«الحياة الطيبة»، حيث أصبح مفهوم الحرية إطلاق العنان لشهوات الأفراد دون التقيد بالمسؤوليات العامة ومصلحة المجتمع، وبالتالي أصبحت الحرية تعني انعدام الضوابط تماماً باستثناء الحالات التي تترتب عليها عقوبات قانونية.
أما مفهوم «الحياة الطيبة» المرتبط أساساً بمفهوم السعادة، فهو يعني في قاموس إباحية الوفرة طلب اللذة والمتعة الحسية عن طريق جمع المادة والاستهلاك لأجل الاستهلاك، وبالتالي أصبحت الوفرة غاية في حد ذاتها لا وسيلة لتحقيق السعادة، ويشن برجنسكي بهذا الصدد حملة قوية على الإعلام الغربي وعلى التلفزيون بوجه الخصوص لقيامة بالدور الأكبر في نشر مبادئ الإباحية، والجري وراء المتع والشهوات المحمومة، وإشراب قيم إباحية الوفرة للناشئة وللعنصر النسائي بصفة خاصة. ويدعم برجنسكي انتقاده هذا ببعض الإحصائيات الدقيقة التي استمدها من واقع الولايات المتحدة الأميركية، حين يذكر أن ربة البيت الأميركية تقضي ما معدلة 28.5 ساعة أمام التلفزيون أسبوعياً أو ما يعادل ربع الوقت الذي تقضي مستيقظة، وأن الأطفال في سن الثالثة عشرة تصل مدة مشاهدتهم للتلفزيون إلى خمس ساعات يومياً أو ما يعادل 35 ساعة أسبوعياً، ويختم برجنسكي انتقاده لدور الأفلام والبرامج التلفزيونية في إفساد المجتمع؛ بدعوة لاعتبار منتجي أفلام وبرامج هوليود ـ والتي تبثها شبكات التلفزيون الأميركي ـ من «المخربين والمفسدين» لما لإنتاجهم من أضرار بالغة على أخلاقيات المجتمع ومبادئه وقيمه.
– عالم إباحية الوفرة عامل متناقضات أو ما أطلق عليه برجنسكي اسم «الاستقطات الفلسفي»، حيث تنقسم البشرية إلى قطاعين يقفان على طرفي نقيض، القطاع الأول في الدول الغنية وقد تطورت اهتماماته بعد طلب اللذة والمتعة إلى أمور قد تخرج به عن نطاق إنسانيته؛ مثل طموحات العقل البشري لتغيير طبيعة الإنسان عن طريق التلاعب بالجينات البشرية (الهندسة الوراثية) وطموحاته في مجال الذكاء الاصطناعي لاستحداث كمبيوتر قد يصل إلى حد التفكير والإبداع ويخرج عن نطاق سيطرة الإنسان ويهدد وجوده. أما القطاع الثاني فهو قطاع الفقراء والمعوزين في باقي دول العالم وفي الدول الغنية نفسها، ولا تزال اهتمامات هذا القطاع تنحصر في تحصيل لقمة العيش وتوفير أساسيات الحياة البشرية. وهذا الاستقطاب الصارخ بني حالتي الغنى الفاحش والفقر المدقع أحدثت ـ كما يرى برجنسكي ـ نوعاً من التوترات والحزازات داخل البشرية، وتصبغ العلاقات الدولية بطابع المنافسة والعداوة، وتثير بالإضافة إلى مشاكل الغرب الناجمة عن إباحية الوفرة؛ تساؤلات كثيرة حول قدرة الغرب ـ وعلى رأسه أميركا ـ وصلاحيته لقيادة البشرية وتقديم نموذج مثالي يمكن اتباعه من قبل دول العالم الثالث ومن قبل دول الكتلة الشرقية التي خرجت حديثاً من تحت عباءة المثالية القسرية.
وهذا ما يفصله في الفصل الثالث أثناء تشخيصه لمشاكل الحضارة الغربية.
القسم الثالث: القوة العالمية الوحيدة
أولاً: تناقض القوة العالمية:
يركز برجنسكي في الفصل الأول من هذا القسم على مكانة أميركا في العالم وعلى دور الريادة والقيادة المنوط بها، ويشير إلى حالة التناقض التي تعاني منها هذه القوة العالمية والمتمثل في أن هناك مشاكل داخلية تهددها تتعلق بديناميكية التغييرات الاجتماعية وبمحتوى الرسالة الحضارية التي تحاول أميركا إيصالها إلى بقية بلدان العالم. ويرى برجنسكي أن الولايات المتحدة تمتلك حالياً قوة عالمية لا تضارع، حددها في أربعة عناصر أساسية هي:
أ- الانتشار العسكري العالمي: ويقصد به قدرة أميركا على الوصول بقوتها العسكرية إلى أي مكان في العالم، ويضرب لذلك مثلاً بحرب الخليج التي تمكنت فيها الولايات المتحدة من حشد ونشر مئات الآلاف من جنودها وتحقيق أهدافها العسكرية في منطقة نائية مثل الجزيرة العربية.
ب- التأثير الاقتصادي العالمي: ويعني بهذا نفوذ أميركا الاقتصادي وسيطرتها على الأسواق العالمية، ويدلل بأن الاقتصاد الأميركي يمثل نسبة تتراوح بين 25 و30% من الإنتاج العالمي وهي نسب حافظ عليها الاقتصاد الأميركي منذ مطلق هذا القرن.
جـ- الجاذبية الثقافية والأيديولوجية العالمية: ويريد بهذا قوة الإشعاع الثقافي والأيدلوجي الذي تمارسه أميركا على بقية بلدان العالم، ويرى برجنسكي أن لهذه الجاذبية مظاهر كثيرة من أهمها تهافت الدول الأخرى على محاكاة النموذج الأميركي في الحكم وفي الاقتصاد وفي الإعلام وفي نمط العيش… إلخ، ويسوق بعض الأمثلة على قوة انجذاب الآخرين إلى النموذج الأميركي بوجود أكثر من نصف مليون شاب أغلبهم من دول آسيا يدرسون في الجامعات الأميركية، وهو رمق ـ كما يقول برجنسكي ـ يعادل أضعاف أي رقم آخر في أية دولة أخرى، كما أن 80% من برامج البث الإذاعي والتلفزيوني والمعلومات تصدر من أميركا.
د- القوة السياسية العالمية الضاربة: ويقصد برجنسكي بهذا تضافر جميع العناصر التي ذكرها لتجعل من أميركا القوة التي تحسب لها الدول الأخرى ـ مجتمعة كانت أو منفردة ـ حساباً كبيراً ويستدرك هنا يشير إلى نقطة في غاية الأهمية وهي أن انفراد أميركا بمجموع عناصر القوة الاقتصادية والسياسية والعسكرية لا يعنى رضى الأطراف العالمية الأخرى وتسليمها بزعامة أميركا، لأن هذا الرضى وهذا التسليم لا يحصلان ـ حسب رأي برجنسكي ـ إلا بوجود قيم حضارية مشتركة تجمع كل الأطراف وتجعل العلاقة بين القائد والمقود علاقة تعاون لا علاقة تصادم، وهنا بالتحديد يكمن الخلل والتناقض في وضع الولايات المتحدة التي تمتك قوة مادية لا تضاهي ولكنها في الوقت نفسه لا تمتلك القيم الحضارية التي يقبل بها الجميع والتي تؤهلها للمحافظة على دورها القيادي العالمي خلال القرن الحادي والعشرين. ومن هنا يخلص برجنسكي لتشخيص المشاكل والأمراض التي تهدد النموذج الأميركي من داخله.
ثانياً: الرسالة النشاز:
ويقصد برجنسكي بهذا العنوان أن الرسالة الحضارية التي تقدمها أميركا حالياً للعالم غير متناسقة؛ لأنها تحرص على المحافظة على الدور القيادي لأميركا خلال القرن الجديد رغم مشكلاتها الكثيرة، والتي يذكر برجنسكي منها ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ عشرين مشكلة صنفها في ثلاثة أصناف رئيسية: اقتصادية، واجتماعية/ سياسية، وروحية (ميتافيزيقية)، ونورد هنا هذه الأصناف وبالترتيب نفسه الذي اعتمده الكاتب:
* المشاكل الاقتصادية:
1- المديونية: حيث بلغت الديون القومية 4 تريلون دولار مما سبب عجزاً في الميزانية قدر بـ 400 مليار دولار عام 1992م، ومما يهدد بمصاعب اقتصادية كثيرة في المستقبل.
2- عجز الميزان التجاري: مما يضطر الولايات المتحدة للاقتراض ويجعلها على رأس قائمة الدول المدينة ويضاعف من مشاكل الإنتاج والبطالة.
3- تدني مستوى التوفير والاستثمار: وترجع هذه الظاهرة أساساً إلى نظام الضرائب الذي يخدم المصالح الخاصة ويشجع على الاستهلاك لا على الاستثمار.
4- عدم القدرة على المنافسة في المجال الصناعي: وهي مشكلة تتفاقم باطراد في ظل غياب أهداف قومية واضحة على المدى البعيد (خلافاً لأوروبا واليابان).
5- انخفاض معدلات الإنتاجية: وهي ظاهرة تزداد تعقيداً بسبب عدم الاستقرار في قطاع العمالة وبسبب الاضطرابات وتدني مستوى الأخلاقيات المهنية.
المشاكل الاجتماعية والسياسة:
6- عدم كفاءة النظام الصحي، فعلى الرغم من إنفاق مبالغ هائلة في هذا المجال إلا أن عشرات الملايين من المواطنين الأميركان لا يتمتعون بالرعاية الصحية المطلوبة كما هو الحال في بعض الدول الأوروبية وفي اليابان مثلاً.
7- تدني مستوى التعليم الثانوي: فرغم ارتفاع نسبة النفقات على هذا القطاع كذلك، إلا أن الملاحظ هو تدني المستوى التعليمي للنشء الأميركي بالمقارنة مع أقرانهم في أغلب الدول الأوروبية في اليابان، كما أن الإحصائيات تشير إلى وجود 23 مليون أميركي في سن الكهولة يمكن اعتبارهم عملياً من الأميين.
8- تهلهل البنية الاجتماعية وتداعي المرافق العمرانية: وهذا ينطبق على معظم المدن الأميركية الكبيرة، حيث توجد أحياء سكانية فقيرة ومتداعية شبيهة بالموجود في أفقر دول العالم الثالث، هذا فضلاً عن تداعي نظام الطرق الرئيسية والعدد الكبير من الجسور التي تحتاج إلى إصلاح وانعدام نظام سكك حديدية سريع وفعال..، إلى غير ذلك من مظاهر البينة التحتية لدولة حديثة ومعاصرة.
9- جشع طبقة الأثرياء؛ التي تسعى جاهدة لمعارضة أي نظام جباية يعتمد النسبية (علماً بأن الأكثر ثراء في أميركا وهم خُمس السكان كانت لهم عام 91م نسبة 46.5% من الدخل القومي، بينما لم يكن للخمس الأكثر فقراً إلا 3.8% منه) ولزيادة ثروتها كثيراً ما تلجأ طبقة الأثرياء إلى ضروب من النصب والاحتيال على نظام الضرائب.
10- الإفراط في التحاكم إلى القضاء: وهي ظاهرة ليس لها مثيل في أية دولة أخرى، فرجال القضاء والمحامون في أميركا يشكلون ثلث رجال القضاء في العالم، ويكلف الجهاز القضائي فيها 3% من الدخل القومي العام (وهي نسبة تعادل 3 أضعاف النسب الموجودة في أوروبا واليابان).
11- تجذّر مشكلة العنصرية والفقر: حيث تشير الإحصائيات إلى حقيقة مؤلمة ومخجلة وهي أن نسب الأميركيين الذين يعيشون تحت خط الفقر يشكلون 32.7% من السود و 11.3% من البيض (إحصائيات عام 92م) أي ما يعادل مجموع 35.7 مليون مواطن أميركي، ولا يجد قسم كبير منهم سقفاً يستظل به، وهذه الحالة ـ على حد بعبير برجنسكي ـ لا تليق بالقوة العالمية الوحيدة.
12- استفحال ظاهرة الجريمة والعنف: وهي نتيجة جزئية للمشكلة السابقة، وتفيد الإحصائيات أن 50% من نزلاء السجون من السود في حين أنهم لا يشكلون أكثر من 12% من سكان الولايات المتحدة. وتزداد مشكلة الجريمة والعنف تعقيداً بإمكانية حصول المدنيين على الأسلحة النارية بسهولة أكثر من حصول معظم جيوش العالم عليها، هذا بالإضافة إلى انتشار الأفلام وبرامج التلفزيون التي تشجع على العنف والجريمة،وهذا كله يجعل أميركا تنفرد بأعلى نسب من جرائم القتل في العالم.
13- الانتشار المذهل للمخدرات: وتتركز هذه المشكلة أيضاً في المدن وفي الأحياء السكنية الفقيرة وضمن الأقليات العرقية، وهي تعود من ناحية إلى محاولة نفسية للهروب من واقع يائس، ومن ناحية أخرى إلى كون تجارة المخدرات البديل الأكثر إغراء للحصول على الثروة بأسرع طريق. وتشير التقارير إلى أن تجارة المخدرات تدر على أصحابها مبلغاً يصل إلى 100 مليار دولار سنوياً.
14- تجذّر ظاهرة القنوط والتواكل الاجتماعي: إذ أصبح اليأس من تحسين الوضع المادي والتواكل والاعتماد على ما تقدمه الحكومة من مساعدات… (التكافل الاجتماعي)، هي النظرة الغالب على الملايين من الفقراء والمشردين وخاصة في صفوف السود من سكان المدن، ومما زاد المشكلة تعقيداً أن أجيالاً بأكملها نشأت تحمل هذه النظرة وهذا التوجه في الحياة، ويمكن تسمية هؤلاء بالمدمنين على نظام التكافل الاجتماعي.
15- شيوع الإباحية الجنسية: وقد أصبحت هذه الظاهرة الطابع العام للحياة في أميركا، وبالتالي فهي تهدد مكانة وبنية الخلية الأساسية في المجتمع وهي الأسرة، وذلك بتفاقم مشكلة ما يسمى بالأسر التي يقوم عليها أحد الأبوين (الأم غالباً) واليت تنشأ فيها أجيال من الأطفال غير الشرعيين، مع ما يصاحب هذه الظاهرة من آثار خطيرة تتمثل في تفكك الأواصر الاجتماعية. كما أن شيوع الإباحية الجنسية من أهم أسباب تفشي الإيدز الخطر.
16- استشراء الفساد الأخلاقي على أوسع نطاق؛ عن طريق وسائل الإعلام المرئية: إذ أن كل ما تقوم به هذه الوسائل باسم الترفيه هو نشر الفساد وبث مفاهيم الجنس والعنف كوسيلة لجذب المشاهدين، وهي بذلك تخدم فلسفة إباحية الوفرة وتحقيق المتعة الذاتية.
17- تداعي الوعي الاجتماعي للمواطنين: حيث انعدام الشعور بالمسؤولية لديهم تجاه المجتمع والدولة وقد انقطع معه أي إحساس بضرورة تقديم الخدمات والتضحية من أجل الصالح العالم.
18- بروز ظاهرة التعدد الثقافي المؤذنة بتفتيت وحدة الحضارة الأميركية: وهي ظاهرة تمثل اعترافاً حتمياً بتنوع الثقافات ـ أو ما يسميه برجنسكي الفسيفساء الثقافية ـ التي تشكل الحضارة الأميركية من ناحية، كما أنها تهدد بتفتيت الروابط التي تؤلف بين مختلف الثقافات مثل اللغة والتاريخ والمبادئ والقيم السياسية من ناحية أخرى وذلك بالتركيز على ذاتية كل ثقافة على حده.
19- بروز ظاهرة الحواجز الفاصلة بين الشعب والحكومة: وتتمثل هذه المشكلة في الشعور المتعاظم لدى قطاع واسع من الناخبين الأميركيين بأن الحكومات التي ينتخبونها تنأى بنفسها عن همومهم ومشاكلهم ولا تضطلع بمسؤولياتها على الوجه المطلوب، وتعاني من الفساد وتكريس بعض الامتيازات لصالح النخبة السياسية التي تحاول التشبث بمناصبها في الحكومات المتعاقبة لأطول فترة ممكنة.
* المشاكل الروحية:
20- الشعور المتعاظم بالخواء الروحي: وهو شعور يعاني منه الكثيرون ممن يتوقون إلى العيش في كنف معتقد سماوي ولكنهم يصطدمون بجمود الأديان الموجودة وتركيزها على الشكليات وبعدها عن مشاكلهم، ويجدون الكنيسة عاجزة عن جذب الناس إليها والوقوف في وجه تيار الإباحية الجارف.
وفي معرض حديثه عن الحلول التي يمكن طرحها لهذه المشاكل يشير برجنسكي إلى أن أكثرها استعصاء على الحل هي المشاكل الاجتماعية والروحية، وهي تهدد النموذج الحضاري الأميركي من الأساس، وتحتاج أميركا من أجل تقديم حلول مقبولة لهذه المشكلات إلى مراجعة كاملة للفلسفة المادية التي تقوم عليها حضارتها وإخضاع هذه الحضارة إلى عملية نقد ذاتي صارمة، كما أن على أميركا أن تصل إلى قناعة بأن المجتمع الذي لا يمتلك قيماً وثوابت مطلقة والذي يقوم على فلسفة تحقيق المتعة الذاتية وإرضاء النزوات هو مجتمع محكوم عليه بالانهيار والذوبان. وفي هذا الصدد يهيب برجنسكي بأميركا أن تفقه دروس التاريخ في ازدهار الحضارات وانهيارها وفي تبوئها مرتبة الريادة وانحسارها عن هذه المرتبة فيقول: «إن التاريخ يعلمنا أنه لا بد لأية قوة عظمى ـ لكي تحافظ على دور الريادة ـ من رسالة حضارية تقوم على فضائل الأخلاق وتكون نموذجاً يحتذى من الآخرين عن طواعية لا بالقوة والإكراه… وفي غياب هذه الرسالة الحضارية فإن النموذج الأميركي سيتم رفضه كما رُفض النموذج الشيوعي السوفياتي من قبل».