مسلمو جنوب السودان .. ضياع في زمن الهوان
2010/10/17م
المقالات
2,460 زيارة
مسلمو جنوب السودان .. ضياع في زمن الهوان
الكاتب/ ابراهيم عثمان أبو خليل
الناطق الرسمي لحزب التحرير في ولاية السودان
إن سكان جنوب السودان الأصليين كانوا مجموعة من القبائل الوثنية التي لم تعرف الأديان السماوية إلا منذ عهد قريب شأنهم شأن كل بلاد أفريقيا الوسطى حيث صعوبة المنطقة، فالأمطار مستمرة في هذه المناطق عدة أشهر، والغابات بوحوشها وطرقها الوعرة وحشراتها المسببة للأمراض والأوبئة، لذا ظل جنوب السودان مغلقاً أمام أي دين سماوي. وأول عهد لأهل الجنوب كان عن طريق أفراد من التجار من شمال السودان، ثم الفتح الذي قامت به دولة الخلافة العثمانية عن طريق محمد علي باشا للسودان حتى وصل إلى الحدود اليوغندية بل تعداها وصولاً إلى منابع النيل.
بعد هذا الفتح وضمِّ السودان إلى جسم دولة الخلافة نشط أهل الشمال في الهجرة إلى جنوب السودان وكان ذلك في بدايات القرن التاسع عشر الميلادي – الثاني عشر الهجري، وأدت هذه الهجرات للتجار من شمال السودان إلى انتشار الإسلام في جنوب السودان؛ فإن مجرد قيام التاجر المسلم بالوضوء وأداء الصلاة أمام أهل الجنوب كان دافعاً للتساؤل ومن ثم الدخول في الإسلام باعتبار أن أهل الجنوب كانوا في وثنيتهم أقرب إلى الفطرة مما سهل دخولهم في الإسلام. لهذا فإن المسلم الذي يذهب إلى جنوب السودان كان يتحول إلى داعية للإسلام. وقد أدى انتشار الإسلام في جنوب السودان إلى نشر اللغة العربية باعتبارها لغة القرآن ووسيلة حمل الإسلام، وقد ساعد على انتشار اللغة العربية في جنوب السودان أن قبائل الجنوب لم تكن لهم لغة واحدة تجمعهم وإنما كان لكل قبيلة لهجتها الخاصة بها، فكانت عملية التواصل والتخاطب بين هذه القبائل قبل دخول الإسلام إليهم شبه منعدمة إن لم تكن مستحيلة، فأصبحت اللغة العربية هي اللغة الوحيدة التي تربط بين جميع قبائل جنوب السودان، وأصبحت لغة التخاطب فيما بينهم، حتى الذين ظلوا على وثنيتهم كانوا يتحدثون العربية.
الاستعمار الإنجليزي ومحاولات التغيير:
بعد أن قُضيَ على الدولة المهدية في السودان عام 1898م على يد الإنجليز، كان تفكيرهم ينصب على العمل بقوة من أجل جعل جنوب السودان منطقة معزولة عن الشمال، والعمل على تغيير أهل الجنوب بعد أن وصلوا إلى قناعة بأنه من المستحيل تغيير أهل الشمال المسلمين، وقد خططوا للتغيير بوسائل عديدة منها:
1- إقامة المدارس والمستوصفات التنصيرية.
2- تنمية العمل التنصيري عن طريق المؤسسات وبلوغ هذا العمل إلى كافة مناطق السودان.
3- العمل ضد الإسلام والمسلمين. خاصة في جنوب السودان.
4- العمل على استيعاب القبائل الزنجية بجنوب السودان، وإثارة الفتنة بينهم بنشر الأكاذيب ضد المسلمين، وتشجيع اضطهادهم.
لقد وجد الإنجليز أن الإسلام واللغة العربية ينتشران بسرعة مذهلة في جنوب السودان، وقد أزعجهم هذا الانتشار، فقامت مؤسسات التنصير بالعمل على تخريب القرى الإسلامية الواقعة على الحدود بين شمال السودان المسلم وبين الجنوب الذي يندفع بقوة نحو الإسلام، وحتى يظل جنوب السودان مرتعاً لنشاط المؤسسات التنصيرية المعادية للإسلام والمسلمين، ثم قامت سلطات الإنجليز بمحاربة اللغة العربية في الجنوب، وعملوا على تشجيع اللهجات المحلية وتدوينها بالأبجدية اللاتينية، ثم جعلوا لغة التعليم بالمدارس (الإرساليات) باللغة الإنجليزية، حيث كان التعليم في الجنوب محصوراً أصلاً في مدارس الإرساليات التبشيرية الكنسية؛ ولذلك انتشرت النصرانية فقط بين المثقفين من أبناء حنوب السودان. ورغم الأموال التي بذلت والجهود لم تستطع هذه البعثات التبشرية أن تستقطب أعداداً معتبرة من أهل الجنوب إلى الدين النصراني، فأضافت السلطات أعمالاً أخرى للحيلولة دون انتشار الإسلام، فعملت ما سمي بالمناطق المغلقة؛ أي أغلقت الجنوب في وجه أهل الشمال فلا يسمح لأي مواطن من الشمال بدخول الجنوب إلا بإذن خاص وبعد معرفة الغرض من الزيارة، إضافة إلى أنها طردت أعداداً كبيرة من المسلمين من جنوب السودان، كما تم طرد علماء مسلمي الجنوب، وتم تحويل العاصمة من مدينة منقلا الاستوائية إلى مدينة جوبا (العاصمة الحالية للجنوب) عام 1928م، وأنشئت العاصمة الجديدة على نمط أوروبي كنسي، وتعرض المسلمون أيضاً للاضطهاد من جانب المتمردين بعد خروج المستعمر بل قبل خروج المستعمر الإنجليزي بجيوشه من السودان، وظل المتمردون طوال تمردهم على حكومات الشمال يعملون على اضطهاد المسلمين في جنوب السودان، وقد تكاثر هذا الاضطهاد في التمرد الأخير الذي قاده المتمرد الهالك جون قرنق، حيث أحرق متمردوه المساجد وعاثوا فيها فساداً إضافة إلى النهب والسلب بل والقتل ما أدى إلى هجرة مئات الآلاف من مسلمي الجنوب نحو شمال السودان.
تغلغل الإسلام في جنوب السودان:
بالرغم من كل هذه الأعمال البربرية من قبل سلطات الإنجليز في السودان، ورغم ما قاموا به من بذل الأموال وزيادة القيود على نشر الإسلام في جنوب السودان، إلا أن الدعوة الإسلامية لم تقف يوماً بفضل رجال نذروا أنفسهم من أجل نشر الإسلام في جنوب السودان في ظل غياب دولة إسلامية تطبق الإسلام وتحمله بالدعوة والجهاد، ومن أشهر هؤلاء الدعاة (الشيخ محمد أبو صفية) الذي عمل على نشر الإسلام بين أفراد قبيلة الدينكا (أكبر قبائل الجنوب تعداداً) و(الشيخ محمد بن القرشي) الذي يعتبر من رواد الدعوة الإسلامية في الجنوب، وكان قاضياً شرعياً وتفرغ للدعوة وأسس العديد من الخلاوي لتلاوة القرآن وحفظه، وقد أسلم على يديه أكثر من عشرين ألف من أهل الجنوب، وغيرهم من الدعاة حتى أصبح الإسلام هو الدين الأول في جنوب السودان لو استبعدنا الوثنيين، فقد جاء في الكتاب السنوي للتبشير في العام 1981م والذي يصدره مجلس الكنائس العالمي أن 65% من أهالي جنوب السودان وثنيون (أي لا يؤمنون بدين) وأن 18% مسلمون و17% نصارى، وأن الإسلام قوي في المدن، ورغم أننا لا نصدق أرقامهم هذه ولكن الملاحظ اعترافهم بأن الإسلام أعلى نسبة من النصرانية، وهو حقيقة ولكن ليس كما يدعون، بل إن الإسلام في جنوب السودان يفوق 30%، وأن النصرانية لاتتجاوز 7% ولكن صوتهم هو الأعلى لوقوف الغرب الكافر المستعمر معهم وتصويرهم بأكبر من حجمهم.
نيفاشا وضياع المسلمين في جنوب السودان:
مما لا شك فيه أن اتفاقية نيفاشا التي أبرمت بين حكومة المؤتمر الوطني في الشمال وبين متمردي الحركة الشعبية في جنوب السودان في عام 2005م؛ قد فصلت جنوب السودان عن شماله بحق تقرير المصير، الذي يتم بموجبه إجراء الاستفتاء في بداية العام 2011م.
ويتفق الجميع على أن أوضاع مسلمي الجنوب ستبدو أكثر سوءاً في حال انفصل الجنوب عن شمال السودان -لا قدر الله- يقول القيادي من أهل الجنوب والباحث أبو بكر دينق (مسلم من أهل الجنوب): «يبدو أن اتفاقية السلام وضعت إطاراً نظرياً ممتازاً للتعايش بين الأديان، ولكن هناك شعوراً عاماً بين المسلمين الجنوبيين بأن الاتفاقية أهملتهم ولم تنصفهم كما أنصفت مسيحيي الشمال، والمقارنة بين المبادئ والحقوق العامة في الاتفاقية والممارسات الحالية على أرض الواقع تؤكد أن ذلك الشعور لم يأتِ من فراغ».
إن هناك عوامل ذاتية تضعف المسلمين في جنوب السودان، وأخرى خارجية تؤثر سلباً عليهم. فهناك تعدد في الجمعيات والمنظمات التي تتحدث باسمهم في ظل غياب دولة تتبنى مصالحهم، أما العوامل الخارجية فمن أبرزها وجود تيار انفصالي إقصائي من غير المسلمين يعمل على زعزعتهم وإبعادهم عن التأثير انتقاماً منهم باعتبارهم مسلمين، وبالتالي لا مكان لهم في الجنوب النصراني اللاديني، إضافة للمضايقات التي تحدث للمسلمين تحت ذريعة «إعادة التخطيط العمراني» مثل محاولة الاستيلاء على مقر منظمة البر وإزالة مسجدها بحجة أنه يقع على الطريق، ونفس الحجة تستخدم الآن لإزالة العديد من المساجد العتيقة في الجنوب كمسجد مدينة بور ومسجد رمبيك الذي بني عام 1935م ويعتبر جزءاً من تاريخ المدينة. كما يواجه كثير من مسلمي الجنوب مضايقات في أداء عباداتهم؛ إذ تعرض البعض للاعتقال في رمبيك لاستخدامهم مكبر صوت في الأذان، وتعرض مؤذن في ملكال للاعتداء بآلة حادة، هذا بخلاف منع الأذان في عدد من مناطق جنوب السودان وتحويل بعض الخلاوي (أماكن تعليم القرآن) إلى خمارات، كما تم استبدال المنهج الدراسي في جنوب السودان والذي كان جزءاً من منهج التدريس في السودان وباللغة العربية، ثم تحويله إلى المناهج اليوغندية والكينية، وتحولت لغة التدريس إلى الإنجليزية بدلاً عن العربية، كما منع ارتداء الحجاب بالنسبة للطالبات في بعض مدن الجنوب. كل هذا وغيره من الانتهاكات الصارخة يحدث في ظل صمت حكومة السودان المناط بها الآن رعاية شؤون رعاياها في كل مكان، ولكن أنّى لمثل هذه الأنظمة الخانعة الذليلة أن تقوم بواجب الرعاية في ظل سيطرة حركة التمرد التي أصبحت الحكومة في جنوب السودان وتسيطر على مقاليد الأمور في الجنوب.
كل هذا وغيره يحدث قبل أن ينفصل الجنوب، بل إن رئيس حكومة الجنوب سلفاكير يُنذِر ويحذر المسلمين من أهل جنوب السودان قائلاً: «يجب عدم استغلال الدين للأغراض السياسية» ما يعني أنه يريدهم تُبَّع لا حول لهم ولا قوة، ولا صوت لهم ولا حركة، بل يريدهم أمواتاً. فكيف سيكون حال المسلمين من أبناء الجنوب في حال انفصال جنوب السودان عن شماله، قطعاً سيكون حالاً لا يَسُرُ صديقاً، وسيكون الضياع والهوان مصيرهم، والاضطهاد والذل مآلهم، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
2010-10-17