فريضة الحج دلالات وعبر
2010/12/17م
المقالات, كلمات الأعداد
3,238 زيارة
فريضة الحج دلالات وعبر
حمد طبيب
الحج ركن من أركان هذا الدين العظيم، انبثق من عقيدته الراسخة السامية المتصلة بخالق السماوات والأرض، قال عليه الصلاة والسلام: «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ» (متفق عليه).
ففي هذه الأيام العظيمة المباركة من شهر ذي الحجّة من كل عام، تتوجه قلوب المسلمين وعقولهم، ويتوافدون من كل فج عميق آمين بيت الله الحرام ومناسك الحج؛ قربة إلى الله العلي العظيم؛ معظمين شعائره،ذاكرين اسمه في أيام معدودات، ملبّين ومكبرين بصوت واحد نابع من قلب إيماني واحد: «لبيّك اللهم لبيّك، لبيّك لا شريك لك لبيّك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك» و«الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر ولله الحمد…» يلبسون ثياب الإحرام بيضاء ناصعة، نقيةً من أي دنس، ويسيرون في موكب واحد يؤدّون المناسك حول البيت وفي المسعى وفي عرفة ومزدلفة ومنى!!…
وفي هذا الموضوع لا نريد أن نفصّل في موضوع الأحكام الشرعية المتعلقة بهذه الفريضة من حيث الأعمال والأقوال والمناسك وشروط الاستطاعة وغير ذلك من أحكام، إنما نريد أن نقف على بعض الدلالات والعبر التي تنمّي وتعزّز الجانب النفسي، والجانب الدعوي عند حامل الدعوة من أجل التغيير .
وسنتناول هذا الموضوع بإذنه تعالى من عدة زوايا؛ الأولى: الرحمة الإلهية في موضوع التوبة النصوح وارتباط ذلك بنسك الحج. الثانية: معاني عظيمة في مناسك الحجّ. الثالثة: فوائد عظيمة في رحلة الحجّ. ومنها أن فريضة الحج تذكر المسلمين بفريضة الخلافة.
أما الزاوية الأولى وهي: (الرحمة الإلهية الواسعة، وقبول التوبة من عباده المؤمنين)؛ فإن الله عز وجلّ جعل من أسمائه الحسنى وصفاته العليا (الرحمن الرحيم)؛ قال تعالى: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) [الأعراف 156]، وقال عليه الصلاة والسلام: «إِنَّ لِلَّهِ مِائَةَ رَحْمَةٍ، أَنْزَلَ مِنْهَا رَحْمَةً وَاحِدَةً بَيْنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالْبَهَائِمِ وَالْهَوَامِّ، فَبِهَا يَتَعَاطَفُونَ وَبِهَا يَتَرَاحَمُونَ وَبِهَا تَعْطِفُ الْوَحْشُ عَلَى وَلَدِهَا، وَأَخَّرَ اللَّهُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً يَرْحَمُ بِهَا عِبَادَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (رواه مسلم)، وهو التواب الرحيم؛ يحبّ العبد التائب إليه من ذنوبه ومعاصيه، قال عليه الصلاة والسلام: «لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ مِنْ أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فَلَاةٍ، فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَأَيِسَ مِنْهَا فَأَتَى شَجَرَةً فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا قَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ، فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذَا هُوَ بِهَا قَائِمَةً عِنْدَهُ، فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ: اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ، أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ» (رواه مسلم)، وقال أيضاً: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا» (رواه مسلم).
وقال: «كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ» (رواه الترمذي وصححه) وفي حديث آخر: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ ، وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ» (صحيح مسلم).
وقد جعل الحق تعالى الحج موسماً عظيماً للتوبة النصوح والرجوع إلى الله تعالى؛ فجعل الحج المبرور مكفراً للذنوب والخطايا، يرجع منه المسلم كيوم ولدته أمه؛ قال عليه الصلاة والسلام: «… وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةُ» (رواه البخاري)، وقال: «مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» (رواه أحمد).
فالمسلم الذي يعزم على الحج يعزم على التوبة النصوح أولاً فيُقبل على الله عز وجل بقلب منفتح، راغباً إليه سبحانه، وراغباً عمّن سواه من كل مظاهر الدنيا وزينتها وبهرجها، راجياً عفوه وصفحه سبحانه وتعالى، وآملاً في قبوله في عباده المؤمنين الصالحين، وفي نفس الوقت عاقداً العزم على ترك كل الذنوب والخطايا بكافة أشكالها وألوانها؛ سواء أكانت فعل المحرمات، أم التقصير في الواجبات والفرائض!! ..
والمسلم الذي يعزم أداء هذه الفريضة العظيمة يبرئ ذمته من حقوق العباد قبل أن يضع رجله في الراحلة قاصداً بيت الله عز وجل، لأن حقوق العباد لا تسقط إلا بالمسامحة أو بالأداء، وبغير ذلك تبقى معلقةً في الذمة، وتُدخل صاحبها نار جهنم والعياذ بالله لأنها من الكبائر، قال تعالى: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا) [النساء 31] وليست الكبائر كما يتصور البعض من المسلمين السبع الموبقات فقط وهي ما وردت في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام: «اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصِنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ» (رواه مسلم) فهذه هي أكبر الكبائر وليست جميع الكبائر. قال الإمام الشوكاني في تفسيره: أخرج البيهقي في الشعب عن ابن عباس (رضي الله عنهما) قال: «الكبائر كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب». (فتح القدير1/458).
فكم من مسلم يؤدي فريضة الحج ولا يدفعه أداء هذا النسك العظيم لأداء حق الله في إدراك ما قصر به من واجبات تجاه دينه وأمته، وهو يدرك ويعلم أنه واجب شرعي في رقبته!! وكم من مسلم يطوف ويسعى ويرفع كفيه للسماء وهو ظالم لحقوق العباد، ولا يحرك الحج شعوره نحو ذلك!!.. فمثل هؤلاء وأولئك لا يرجعون كيوم ولدتهم أمهاتهم، وإن كان قد أسقط فريضة الحج من عنقه، ولم يؤدِّ حجاً مبروراً كما ورد في الحديث، لأن الحج المبرور هو الذي يؤثر في صاحبه فينقّي نفسيته من طاعة الشيطان، ويدفعها نحو طاعة الرحمن في كل ما أمر، واجتناب كل ما نهى عنه وزجر ..
فالمسلم الذي يريد حجاً مبروراً بحقٍّ وحقيقة، ويريد أن يعود كيوم ولدته أمه أو كالثوب الأبيض الخالي من أي دنس، فإن عليه أولاً أن يعزم على أداء حق الله وحق الناس، وأن يقبل على الله بقلب سليم، ويتوب عما سلف توبة نصوحاً غير آسف على دنيا فانية أو متاع زائل أخذه بغير حقه، ويبحث عن الواجبات الشرعية التي قصر فيها وخاصّة ما يتعلق بأمة الإسلام، وإعادة الحكم بما أنزل الله تعالى، لأنه أوجب الواجبات ويترتب على تركه أو التقصير فيه إثم عظيم!
أما الزاوية الثانية في هذا الموضوع فهي: (المعاني العظيمة التي يتعلمها المسلم أثناء رحلة الحج في المناسك)؛ وأول هذه المعاني العظيمة ما يتعلق بالطواف بالبيت الحرام، حيث يتذكر المسلم عظمة الله عز وجل، لأن هذا البيت هو بيت الله في الأرض، وقد بنته الملائكة، وهو أول بيت وضع للناس كما ورد في قوله عز وجل: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ، فِيهِ ءَايَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ ءَامِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) [آل عمران 96-97].
فعندما ينظر المسلم إلى هذا البيت ويرى كيف يطوف الناس حوله، مع أنه حجارة صماء لا تضر ولا تنفع، يتذكّر كيف تطوف ملائكة السماء بالبيت المعمور وتطوف بالعرش، فيستشعر المسلم عظمة الخالق جلّ جلاله، ويستشعر معنى الطاعة والانقياد له سبحانه ويتذكر كيف أن الملائكة العظيمة تهلّل وتسبح بحمده سبحانه ليل نهار لا تفتر أبداً، وهي تطوف بالعرش الكريم!!..
ومن المعاني العظيمة في الطواف اجتماع قلوب المسلمين من كل لون وجنس على هذا النسك في دائرة واحدة، في مكان واحد يردّدون نفس الكلمات والمعاني؛ في تمجيد الله عز وجل، وهذا مدعاةٌ لتذكّر معنى وحدة الأمة رغم كلّ دعوات الفرقة والتفريق التي تصيبها.
ومن معاني الطواف أيضاً تذكّر معنى الذنوب، وما تفعله في القلوب وذلك عندما ينظر إلى الحجر الأسود (الأسعد) ويتذكّر قصة هذا الحجر وكيف سوَّدته ذنوب العبادْ بعد أن نزل من الجنة أبيض من اللبن الصافي، عن ابن عباس (رضي الله عنهما) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «نَزَلَ الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ مِنْ الْجَنَّةِ وَهُوَ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنْ اللَّبَنِ، فَسَوَّدَتْهُ خَطَايَا بَنِي آدَمَ» (رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح)، ويتذكر أيضاً أن الذنوب تسوّد قلب الإنسان كما سودت الحجر الأسود؛ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) قَالَ: «إِنَّ العَبْدَ إِذَا أَخْطَأَ خَطِيئَةً نُكِتَتْ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، فَإِذَا هُوَ نَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ وَتَابَ صُقِلَ قَلْبُهُ، وَإِنْ عَادَ زِيدَ فِيهَا حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ، وَهُوَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ، (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)» (أخرجه الترمذي وقال حسن صحيح).
ومن معاني الطواف كذلك النظر إلى المسلمين وقد تجرّدوا من كل شيء من زينة الدنيا، وصاروا بلونٍ واحدٍ، وبلباسٍ واحدٍ هو لباس الإحرام، لا فرق بين عجمي أو عربي ولا بين فقير أو غني.. الجميع حالهم واحدٌ في ظلّ رحمة الله تعالى وعبادته!!..
أما السعي بين الصفا والمروة فإن فيه معاني عظيمة وذلك بتذكر قصة إبراهيم عليه السلام مع زوجته هاجر وولده إسماعيل، وكيف أحضرهما إلى هذه البقعة الخالية من أي أثرٍ للحياة؛ وذلك امتثالاً لأمر ربه عز وجلّ!، وكيف أن هاجر عليها السلام قد اطمأنت إلى أمر الله وذلك عندما أراد إبراهيم الرجوع وقد وضع معهما قليلاً من الزاد والماء، فقالت: إلى أين يا إبراهيم؟ قال: إني عائد يا هاجر!!، فقالت وإلى من تتركنا في هذه البقعة القفراء يا إبراهيم؟؟!، قال: إن الله معكما يحفظكما ويرعاكما، وهو خيرٌ حافظاً وهو أرحم الراحمين، وهو أرحم بكما مني!! قالت: آلله أمرك بهذا يا إبراهيم؟! قال: نعم، قالت: إذن لن يضيعنا الله. اذهب يا إبراهيم في رعاية الله وحفظه!..
أما المعنى الثاني في هذا المسعى فهو: شفقة الأمّ على ولدها، وسعيها بين الصفا والمروة لإنقاذ طفلها من الهلاك، وهذا فيه تذكيرٌ بحقيقة شفقة الأم على ولدها، وتعلق قلبها به، ومدعاة لتذكّر معنى البرّ لهذه الأم التي تضحي من أجل إنقاذ ابنها، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ الصُّحْبَةِ؟ قَالَ: أُمُّكَ، ثُمَّ أُمُّكَ، ثُمَّ أُمُّكَ، ثُمَّ أَبُوكَ، ثُمَّ أَدْنَاكَ أَدْنَاكَ» (رواه مسلم)… وقال عليه الصلاة والسلام: «رَغِمَ أَنْفُهُ ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُهُ ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُهُ، قِيلَ: مَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: مَنْ أَدْرَكَ وَالِدَيْهِ عِنْدَ الْكِبَرِ، أَحَدَهُمَا أَوْ كِلَيْهِمَا، ثُمَّ لَمْ يَدْخُلْ الْجَنَّةَ» (رواه مسلم).
والمعنى الثالث هو رحمة الله عز وجل بالناس في تفجير الماء من بين قدمي إسماعيل عليه السلام، وإنقاذ حياته وحياة أمه في معيّته!… فماذا كان سيحصل لهاجر ولإسماعيل لو لم يفجّر الله عز وجل الماء من هذه البقعة القفراء؟!
وفي هذا أيضاً تذكّر لمعنى الرحمة الإلهية بهذا الولد الصغير؛ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ (رضي الله عنه) أَنَّهُ قَالَ: «قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) بِسَبْيٍ، فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنْ السَّبْيِ تَبْتَغِي، إِذَا وَجَدَتْ صَبِيًّا فِي السَّبْيِ أَخَذَتْهُ فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ، فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم): أَتَرَوْنَ هَذِهِ الْمَرْأَةَ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ؟ قُلْنَا: لَا وَاللَّهِ، وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لَا تَطْرَحَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم): لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا» (رواه مسلم).
أما الوقوف بعرفة فإن فيه معاني عظيمة أيضاً تتمثل أولاً في تذكّر معاني المحشر والمنشر حين يقف الناس في صعيد واحد بين يديه سبحانه ينتظرون الحساب، ويتذكر المسلم أيضاً معاني الوحدة لهذه الأمة التي يحاول حكام المسلمين تفريقها حتى في هذا المكان بتخصيص مكان لكل دولة على حدة، لا تختلط مع الآخرين!!..، والأصل أن يختلط المسلمون جميعاً عرباً وعجماً ليعرفوا أنهم أمة واحدة من دون الناس، ويسمعوا همومهم وقضاياهم والمخاطر التي تحيط بهم كأمة واحدة، ويتشاوروا في كيفية حلّ هذه القضايا.. فالأصل في المسلم في هذا النسك العظيم أن يختلط مع المسلمين ولا ينحصر في خيمة واحدة كما يريد له الحكام المجرمون.
ومن المناسك أيضاً رمي الجمار في ثلاثة مواضع: العقبة الصغرى، والوسطى، والكبرى، وأن لهذا النسك دلالات ومعاني عظيمة في إعلان الحرب على الشيطان بعد أن أدى المسلم أغلب مناسك الحج من طواف وسعي ووقوف بعرفة ومزدلفة؛ وأول هذه المعاني هو: عصيان الشيطان، وإعلان الحرب عليه وعلى أتباعه وأشياعه من بني البشر، مستعيناً بالله عز وجل، حيث يقول المسلم عند كل جمرة يرميها: بسم الله؛ أي أستعين بالله عزّ وجل في هذه الحرب ومعصية الشيطان، والله أكبر ؛ أي أكبر منك أيها الشيطان، وقادر عليك وعلى أشياعك وأتباعك من الإنس والجن!!..
وأثناء هذا العمل العظيم يتذكر المسلم تضحية إبراهيم عليه السلام بفلذة كبده إسماعيل عندما أخذه ليذبحه في هذا المكان، وكيف تصدّى له الشيطان، وحاول صدّه عن هذه الطاعة الكبرى، فتصدّى إبراهيم له بالحجارة يرجمه في كل مرة عند موضع الجمرات الثلاث، وبعد ذلك أنعم الله عزّ وجل على ذريته من بعده، وعلى البشرية جميعاً بالفداء العظيم بدل إسماعيل عليه السلام ، وظلت هذه السنّة حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وهي شعيرة الأضحية والنحر في يوم العيد (عيد الأضحى).
الزاوية الثالثة في هذا الموضوع هي فوائد عظيمة في رحلة الحج هذه:
ومن هذه الفوائد العظيمة:
1- فريضة الحج تذكر المسلمين على وجه الأرض بفرضية الخلافة الإسلامية وفرضية العمل لها، فعندما ينظر المسلم ويرى هذه الجموع من المسلمين ويتفكر في حالها؛ كيف فرّقها الكفار إلى أعراق ودول، وأنسوها أنها أمة واحدة من دون الناس بأمر المولى عز وجل في قوله: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء 92]، وبعمل رسولها عليه الصلاة والسلام استجابة لمعنى هذه الآية؛ حيث وحّدها في دولة واحدة في المدينة المنورة، وقال وهو يكتب وثيقة المدينة ( الموادعة): «أمتي أمة واحدة من دون الناس». وقال : «المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم. ويرد عليهم أقصاهم. وهم يَدٌ على من سواهم. ألا، لا يقتل مسلم بكافر، ولا ذو عَهْد في عهده» (رواه أبو داود والنسائي).
فالذي أوصل الإسلام إلى كل هذه الشعوب؛ من الأتراك والفرس والأفارقة والمغول والأوروبيين، وغير ذلك من أجناسٍ وألوانٍ شتّى هي دولة الإسلام، وجيوش الفتح التي انطلقت من عقر هذه الدولة ترفع راية الإسلام، وشعار الله أكبر، فأصبحت كل هذه الأعراق في ظل دولة واحدة؛ من غانا جنوباً إلى فرغانا شمالاً، ومن جاكرتا شرقاً إلى طنجة على المحيط الأطلسي غرباً، ثم تفرقت هذه الدول كما كانت قبل الإسلام، وتبعثرت إلى دول ودويلات في ظل غياب دولة الإسلام، على أيدي أعداء الأمة من الكفار الغربيين والشرقيين!!
فالخلافة فرض تقوم به كل الفروض على وجه الأرض بما فيها فرضية الحج هذه التي يؤديها المسلمون من كل حدب وصوب من أقطار المعمورة. فالأصل في هذه الفريضة أن تُؤدّى في ظل خليفة المسلمين كما كان يحصل في عهد الخلفاء الراشدين، حيث كان الخليفة هو أمير الحج بنفسه في أغلب الأحيان، أو يبعث أميراً نائباً عنه اسمه (أمير الحجّ)!!
ولو ألقينا نظرة سريعة على أعداد المسلمين المحرومين من أداء هذه الفريضة لرأينا أنهم بالملايين، ومنهم من يموت وفي نفسه شوقٌ لأداء هذا الفرض العظيم، ولم يستطع إلى ذلك سبيلاً بسبب العراقيل والموانع السياسية التي يضعها الحكام أمامهم!!.
وهذا يذكر المسلمين بمعنى قوله عز وجل: (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَءَاتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) [الحج 41]. فحتّى العبادات بمفهوم هذه الآية ومنطوقها تحتاج إلى دولة ومكنةٍ وقوة، وبغير ذلك لا يمكن تطبيقها ولا أداؤها أداءً كاملاً .
2- الحج يعلّم المسلم دروساً في البذل والتضحية والصبر وهو نوع من أنواع مجاهدة النفس، وقد ذكره الرسول عليه الصلاة والسلام بأنه جهاد المرأة، لأن فيه تحمل مشاق كثيرة !! فالمسلم يبذل من خاصّة ماله في الراحلة وفي النفقة ذهاباً وإياباً وفي مناسك الحجّ، ويضحّي بوقته وعمله، ويفارق أهله وولده ودياره من أجل عبادة الله وإرضائه عز وجلّ، ويتعلم في رحلة الحج دروساً في مجابهة الصعاب والصبر عليها، لأن هذه الرحلة شاقّة وطويلة وخاصة لأغلب المسلمين ممّن يفدون على الرحمن من مناطق بعيدة مثل باكستان والهند وإندونيسيا وجمهوريات روسيا، وغيرها من مناطق بعيدة وفقيرة في نفس الوقت.
وهذا الدرس في البذل والتضحية والصبر ينفع المسلم في أداء الواجبات الشرعية الأخرى؛ فإذا كان بخيلاً مثلاً في أداء الزكاة تصبح عنده القوّة والجرأة والتضحية لإخراج الزكاة؛ لأن نفسيته قد تمرّنت على التضحية والبذل، وإن كان جباناً لا يقوى على مفارقة الأهل للجهاد، فإن نفسيته قد تدرّبت على ذلك، فيخرج مجاهداً غير آبه بالصعاب والعقبات.
3- الحج رحلة إيمانية عظيمة تشحن صاحبها بالتقوى، والعزيمة على عدم الرجوع إلى الذنوب بعد أن حباه الله بالخلاص منها. لذلك خاطب الحق تعالى الحاجّ العائد إلى موطنه بعد رحلة الحج بقوله: (فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ ءَابَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا ءَاتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ) [البقرة 200] أي فليكن الله في قلوبكم بعد الحج كما كان في قلوبكم في المناسك، وعظّموه في جميع الأحكام كما عظمتموه في المناسك.. وهذا هو حال العبادات جميعاً، ففي الصيام قال الحق تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة 183]، وفي الزكاة قال: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [التوبة 103]. وفي الصلاة قال: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ) [البقرة 153] وقال: (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) [العنكبوت 45].
فكثير من الناس ينشرح صدره ويعود إلى رشده بعد هذه الرحلة العظيمة وقد تحقّق منها الخير الكثير له بالإيمان والتقوى والعمل الصالح.
نسأله تعالى أن يكرم الحجيج بحجّ مبرور وأن يعيدهم إلى ديارهم مغفوراً لهم كيوم ولدتهم أمهاتهم..
كما نسأله تعالى أن يكرم أمة الإسلام بخليفة يجمع شملها عرباً وعجماً في خلافة راشدة على منهاج النبوة إنه سميع قريب.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
2010-12-17