الانتعاش الاقتصادي في ظل الإسـلام (3)
2001/10/11م
المقالات
2,075 زيارة
ثالثاً: حرمة الكنـز وتأثير ذلك في الرفاه والانتعاش:
وقبل أن نذكر مخاطر الكنـز في النظام الرأسمالي، وإيجابيّة وفوائد منعه وتحريمه في نظام الإسلام، نقف قليلاً عند معنى الكنـز لغة وشرعاً: وحتى نقف على هذا المعنى نقول: المال ابتداء هو لله تعالى، فهو المالك الحقيقي، قال تعالى: (وءاتوهم من مال الله الذي آتاكم) (النور/33) ، والإنسان مستخلف في هذا المال، يتصرف به حسبما أراد الشرع، وليس حسب هواه، قال تعالى: (وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه) (الحديد/7). لذلك عرف الفقهاء الملك فقالوا: هو تمكين من الشارع بالانتفاع بالمال، مباشرة، أو عن طريق الهبة، أو عن طريق أخذ العوض عنه.
فالتصرف في المال ليس مطلقاً وإنما مقيد بحدود الشرع التي فرضها وأباحها، أو منعها وحرمها، ومن هذه القيود الكنـز، قال تعالى:(والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم) (التوبة/34).
ومعنى الكنـز: ورد في لسان العرب: الكنـز اسم للمال الذي أحرز في وعاء، ولما يحرز فيه، وقيل الكنـز، المال المدفون وجمعه كنوز، قال: وتسمّي العرب كل كثير مجموع يتنافس فيه كنـز.
فالكنـز في اللغة إذن، هو: الإغلاق على المال وخزنه وجمعه بعضه إلى بعض سواء أكان في بطن الأرض أم في أي مكان، دونما تصرف فيه، لأن مفهوم الإغلاق أو الدفن يشير إلى عدم إخراجه، فإذا أخرج لم يعد كنـزاً.
أما معناه الشرعي، فهو نفس المعنى اللغوي للكنـز، والدليل على ذلك: روي أن رجلاً من أصحاب الصفّة توفي في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فوجد في مئزره دينار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كيّة، ثم توفي آخر بعد فترة، ووجد في مئزره ديناران، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : كيّتان، أي كيّتان في نار جهنم. فهذا الحديث يفهم منه أن الإغلاق على المال دونما نفع، فإن صاحبه يعاقب بالنار، ولو كان الإغلاق على المال قليل. فأصحاب الصفّة كما ورد في الحديث أغلقوا على دينار، ودينارين ولم ينتفعوا منها في الإنفاق على مأكلهم وملبسهم ومسكنهم، وكان الأصل أن لا يأخذوا من الصدقات ومعهم شيء ينفقونه على أنفسهم، لكنهم حرموا أنفسهم من نفع هذا المال وأغلقوا عليه، فكان ذلك كنزاً حوسبوا عليه عند الله تعالى.
وعليه فإن الكنـز في الشرع هو بالمعنى اللغوي نفسه، أي هو مجرد جمع المال بعضه إلى بعض لغير حاجة، فإن دفن المال يعني حفظه لعدم الحاجة إليه، وخزن المال وإغلاقه يعني عدم الحاجة إليه، إذ إن وضع المال موضع الإنفاق يجعل دفنه غير وارد، ويجعل خزنه غير وارد. أما إذا كان جمع المال لحاجة مشروعة يراد إنفاقه عليها فليس بكنـز.
والكنـز حرام حتى لو أخرجت زكاته لأن آية الكنـز عامة ولم يرد تخصيص لها، كذلك لم يرد نسخ لها. ولا يقال إنَّ الآيات التي فرضت فيها الزكاة قد نسخت آية الكنـز، لا يقال ذلك لأن الزكاة قد فرضت في السنة الثانية للهجرة، وآية تحريم الكنـز نزلت في السنة التاسعة للهجرة ولا ينسخ المتقدمُ المتأخرَ في النـزول. وبالتالي فجمع المال لغير حاجة يكون كنـزاً وهو حرام حتى لو أخرجت زكاته.
والحقيقة أن من يتمعن في معنى الكنـز، وفي حقيقته، وفي واقعه، يرى أنه يشكل خطراً، وضرراً كبيراً على المجتمع، وأي ضرر؟!!
فالمال كما قلنا هو جزء من ثروة الأمة بشكل عام، والإنسان يتصرف في هذا المال بما يعود بالنفع عليه وعلى أمته بالخير.
فالتاجر الذي يتاجر بالمال يخدم المزارع، ويخدم الصانع، ويخدم العامل، وفي نفس الوقت يزيد من ثروة البلد بواسطة ما يقدمه من خدمات تسويقية، وبواسطة ما يجلبه من عملات صعبة من خارج حدود الدولة، والمزارع الذي يعمل بماله في مشاريع الزراعة، يخدم التاجر، ويخدم الصانع، ويخدم الناس كافة… وهكذا فالمال الذي يعمل يعود بالنفع على الجميع، لأنه يشغل قطاعات عريضة من الناس، ويعمل حركة تداول في الأسواق، وفي نفس الوقت يزيد من حجم الثروة والإنتاج، وهذا بعكس الإغلاق عليه، فإن ذلك ضرر من غير نفع. فبزيادة الثروة من زراعة ترخص الأسعار، وترتفع الأجور، وتزداد العملات الصعبة في الدولة وبين أيدي الناس.
أما خطر الإغلاق على المال فهو كبير، لأن هذا المال الذي أغلق عليه هو في الأصل ثمرة جهود مجتمع، وليس ثمرة جهد الذي ملك هذا المال، وبالإغلاق عليه فإنما نقوم بوأد جهود المجتمع وحرمانها من التداول والحركة الاقتصادية في السوق.
فلو أخذنا مثلاً بسيطاً، وهو ما يقوم به أصحاب المليارات من الدولارات في بعض بلاد المسلمين من إخراجها ووضعها في بنوك الغرب، فهذا العمل هو بمثابة وأد لهذا المال، وحرمان للأمة من نفعه، وجعل منفعته تعود للكفار، بدل تشغيله في المشاريع المثمرة في بلاد المسلمين، وبالتالي تشغيل العمالة والقضاء على البطالة، وزيادة حجم الزراعة، والصناعة، والخدمات العامة، أي بمعنى آخر كان يمكن أن يساهم في الانتعاش والرفاه الاقتصادي في بلاد المسلمين، لأنه بزيادة الزراعة، والصناعات، وحجم الخدمات، ترتفع الأجور، وترخص الأسعار، ويصبح هناك انتعاش اقتصادي عالٍ.
وعملية الإغلاق على المال في داخل المجتمع هي مثل إخراج المال فلا ينتفع منه أحد بل على العكس يتضرر من ذلك قطاعات المجتمع المختلفة.
وبعد هذا العرض السريع لخطر الربا والكنـز في نظام الكفر الرأسمالي، لو نظرنا في نظام الإسلام الذي يمنع ويحرم الربا والكنـز في مجتمع المسلمين، فإننا نرى العكس من ذلك تماماً.
فأموال الناس بدل أن تصبح خنجراً مسموماً يوجّه إلى صدورهم بواسطة الأيدي الآثمة (البنوك)، يصبح هذا المال سبباً في رخائهم، وانتعاشهم، وبحبوحة العيش لديهم.
فالمال عندما تحرّم تعامله بالربا ومؤسساته، وتحرّم كنـزه، فإنه حتماً سيتجه الاتجاه الصحيح، إما فردياً عن طريق المالكين مباشرة، وإما عن طريق المشاركة.
وهذا سيدفع الناس للتفكير بإيجاد المؤسسات الخدماتية العامة، والخاصة، إما عن طريق الأفراد، وإما عن طريق الدولة. وهذه المؤسسات تقوم بدور تقديم الإرشاد والعون لكل إنسان يطمع باستغلال ماله، وتقوم كذلك بالإشراف المباشر على إنشاء شراكات صحيحة ومنتجة بين مجموعة من الناس من أصحاب الأموال، وتقدم لهم العون، والخبرة، والإرشاد ـ كما قلنا ـ إما أن تكون خاصة عن طريق الأفراد تتقاضى أجراً معلوماً يدفع لموظفيها، وإما أن تكون عن طريق الدولة لمساعدة الناس في استغلال أموالهم استغلالاً صحيحاً. أما من يريد حفظ ماله، إذا احتاج لحفظ قسم منه، فإنه أيضاً يمكن أن توجد مؤسسات لذلك بنفس الطريقة إما خاصة، وإما عن طريق الدولة.
وبعد هذا انظر الفارق الكبير بين مؤسسات تنهب الثروات، وتسيّرها للمصالح الخاصة لتجلب الخراب والدمار على المجتمع عامة، وتجعل من الناس طبقتين تعيش إحداهما على دماء الأخرى، وبين نظام ومؤسسات تحافظ على ثروات الناس وتنميها لهم، وتعيد كل درهم من الأرباح لمصالحهم. انظر الفارق بين نظام يتسبب دائماً في ارتفاع الأسعار، وانخفاض الأجور، وتآكل المدخرات باستمرار، وبين نظام يحفظ على الناس أموالهم، ويرخص الأسعار، ويحفظ المدخرات، ويزيد من قيمتها باستمرار.
وقد يقول البعض من غير المتفحصين المتعمقين في طبيعة النظام الغربي: إن أميركا، ودول أوروبا عندها انتعاش اقتصادي رغم وجود الربا، والكنـز، والفساد في النظام، فما هو تعليل ذلك؟
وللإجابة على هذه الشبهة أقول: إن زيادة الثروة وقلتها في المجتمع مرتبطة بعلم الاقتصاد، من حيث التوسع الراسي والأفقي، ومن حيث التحسين للنوعيات والرقي الصناعي، وليس لذلك ارتباط بالنظام مباشرة.
ولو أن الثروة في أميركا وفي دول أوروبا وزّعت وفق نظام عادل، وسلمت من الاحتكارات ومن آثام المؤسسات الربوية، ومن نهب أصحاب رؤوس الأموال لنال الناس من هذه الثروات أضعاف ما ينالون الآن.
أما وجود الرفاه عند قطاع كبير من الناس فهذا راجع ليس للنظام وحسنه، وإنما راجع لضخامة الثروة والوسائل العلمية الحديثة في إنتاجها، ونشبّه هذا الأمر بروافد قوية تصب في وعاء مثقّب، فقوة الروافد تغطي على هذه الثقوب وتبقى الثروة نوعاً ما محفوظة فينال الناس ـ لعظمها ـ نصيباً منها، ولكن هذا ليس معناه أن الانتعاش النسبي راجع للنظام، بل على العكس فإن وجود هذه الثقوب في وعاء المجتمع الاقتصادي تُذهب كثيراً من الثروات إلى أيدي الرأسماليين الكبار.
ورغم ذلك كله ـ أي رغم عظم الثروة ـ فإن هناك مفاسد ظاهرة في مجتمعات الغرب، ويمكن ملاحظتها، ورؤيتها، وهي تدلل حتماً على سوء النظام، مثل التفاوت الفاحش بين طبقات المجتمع، إذ تجد طبقة في أعالي السحاب من حيث رأس المال ومستوى العيش، وفي نفس الوقت تجد طبقة تعيش في الحضيض عيش الكفاف مقارنة مع حجم الثروة ومستوى المعيشة.
ونجد في الوقت نفسه كذلك ناطحات السحاب وبجانبها أناس يعيشون على حاويات القمامة، ويسكنون في الشوارع، أو الكرافانات، وهذا الأمر تجده في نيويورك، وواشنطن.
وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن الثروة الضخمة لا توزع بنظام صحيح، وإنما تذهب هدراً بين أيدي الرأسماليين، والسبب هو هذه الأفكار المنبثقة من النظام الرأسمالي الغربي مثل الربا والكنـز والمؤسسات الربوية والشركات المساهمة.
والسؤال الذي يرد هنا، كيف يصبح الحال في هذه الدول، وفي اقتصادها إذا قام نظام صحيح في العالم يتمثل بدولة ترعاه وتطبقه في المجتمع، وتحمله إلى العالم؟!!
الحقيقة أن اقتصاد هذه الدول السبع أو الثماني والتي تسمى الدول الصناعية، أو العملاقة مثل أميركا، وبعض دول أوروبا، والصين، واليابان…، إنما هو أوهى من بيت العنكبوت، ولكن السبب الذي يظهرها بهذا المظهر الخادع هو عدم وجود النظام الصحيح أمامها.
فإذا ما ظهر النظام الصحيح في ظل التقدم العلمي الهائل هذه الأيام، فإن تلك الدول ستظهر على حقيقتها، ستظهر أنها أقزام أمام مارد عملاق، وسيرى الناس السوء في التوزيع بجانب نهب قوى الشر والفساد من الأنظمة والمؤسسات التابعة لها، ويرون في نفس الوقت أين تذهب أموالهم، وثرواتهم وكيف تتسرب إلى خزائن أولئك الجشعين من الرأسماليين، وذلك عندما يرون التوزيع الصحيح، ويرون نتائج حرمة الكنـز وحرمة الربا في الواقع الاقتصادي،… عندما يرون الأموال الفائضة عن حاجات الناس الكمالية ولا تجد من يأخذها في مجتمع المسلمين الذي يطبق الإسلام.
إن المنافسة الحقيقية أمام دولة الإسلام التي تحمل نظاماً صحيحاً ينبثق من فكر صحيح (من فكرة العقيدة)، سيجعلها أسد الغابة دونما منافس حقيقي، وستصبح هذه الدول السبع بمثابة الفئران، لا قيمة ولا وزن لها، وستتخلف وستتراجع وبعد ذلك ستتهاوى.
وستظهر هذه الدول بنظامها السقيم كجبل من ثلج، لا يلبث أن يذوب أمام الشمس والنور الساطع، أمام نظام الإسلام العادل الصحيح.
وإن هذا سيكون له الأثر الكبير في المقارنة عند الشعوب في الناحية الاقتصادية،… المقارنة بين نظام ينهب ثرواتهم ويطعمها لغيرهم، وبين نظام يحفظ عليهم كل قطرة عرق تندى من جبينهم.
سيكون لذلك الأثر الكبير في إقبال الناس على هذا الدين العادل الصحيح، ليدخلوا في دين الله أفواجا.
رابعاً: الأحكام الشرعية التي تعالج موضوع الأرض:
الأرض لها موقع عظيم في الاقتصاد، ومنابع الثروة، فهي مصدر رئيسي من مصادر الاقتصاد الأربعة وهي:
(الزراعة، الصناعة، التجارة، جهد الإنسان)، بل هي أهم المصادر، وعمودها الفقري، الذي يقوم عليه إنتاج الثروة في المجتمع، إذ عليها تقوم الزراعة، والصناعات، والمؤسسات الخدماتية، وغير ذلك من مصالح اقتصادية فهي بلا شك المورد الرئيسي في اقتصاد المجتمع.
لذلك فإن أحكام الإسلام قد عالجت هذا الموضوع بشكل مفصل مستفيض، من جميع النواحي العملية المتعلقة بعلاقة الإنسان بهذه الأرض، من حيث التقسيم العام، ومن حيث الانتفاع، ومن حيث استمرارية الانتفاع وعدم التعطيل، كل ذلك من أجل الانتفاع بأكبر قدر مستطاع من هذا المصدر العريض، للفرد وللجماعة وللدولة، لتحقيق معنى قوله تعالى: (ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض) (الحج/65)،(هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور) (الملك/15).
وأول هذه الأحكام: تقسيم الأرض من حيث الناتج، أو ما يؤخذ عليها، حيث قسمت إلى ثلاثة أقسام الأول: أرض عشرية: وهي ما يؤخذ منها الزكاة على الناتج، العشر أو نصف العشر، وهي كل أرض أسلم أهلها عليها دون قتال مثل إندونيسيا، وتشمل جزيرة العرب كلها، سواء أسلم أهلها عليها أو فتحت عنوة وكذلك الأرض التي فتحت بالقوة ثم قسمت على المحاربين مثل أرض حمص، ويلحق بذلك أيضاً ما أقطعه الخليفة، أو ما يقطعه في المستقبل للناس من الأرض المفتوحة، أو الأرض التي لم تفتح كما حصل مع تميم الداري t، ويعتبر من الأرض العشرية كذلك الأرض التي يحييها الإنسان سواء من الأرض العشرية، أو من الأرض الخراجية لقوله عليه السلام: «من أحيا أرضاً ميتةً فهي له» (الترمذي).
أما القسم الثاني فهو أرض الخراج: وهي الأرض التي فتحت عنوة، ولم تقسم بين المحاربين وهذه سواء بقيت بيد أهلها الأصليين، أو أعطيت لعامة المسلمين من غير المحاربين فإنها تعتبر أرض خراج، ويخرج من هذا القسم الأراضي غير المعدة للزراعة مثل الأراضي السكنية، فهذه ليست خراجية وإنما هي أراض مملوكة ملك رقبة ولا خراج فيها.
والأرض الخراجية حكم رقبتها أنها ملك لجميع المسلمين، مع بقاء ملك منفعتها لمن هي في يده ما دام يؤدي خراجها ويراعي أحكام الله فيها.
أما النوع الثالث: فهي الأرض التي صولح أهلها عليها، على أن تبقى في أيديهم، ويؤدوا عنها الخراج (الجزية) أو يجلوا عنها حسب شروط الصلح الذي صولحوا عليه. وهذه مثل هجر والبحرين ودومة الجندل… وتبقى كذلك من حيث الحكم (حسب الصلح) ما دام أهلها كفاراً فإن أسلموا أصبحت أرضاً عشرية.
والنا ظر في هذا التقسيم الشرعي يرى أنه يضع تصنيفاً شاملاً للأرض يشمل كل أرض، فلا يبقى قسم من أرض إلا وله حكم، وكذلك فإنه يتعامل مع الأرض من حيث إنتاجها، كما هو في العشر وكذلك في الخراج (أي على ما تخرج الأرض)، ولا يتعامل مع الأرض داخل حدود الدولة كما يتعامل الغرب بنظام الضرائب الذي يثقل كاهل المواطن، سواء كانت هذه الضرائب فيما تخرج الأرض أو كانت على رقبتها، مما يضطر المالك في نهاية المطاف لأن يترك أرضه للدولة بدل الضرائب المستحقة عليها.
فحتى الخراج في أحكام الإسلام إنما هو على ما تخرجه الأرض، أما الأرض غير الزراعية فلا خراج عليها، كالأراضي المعدة للسكن مثلاً، أو الأراضي التي لا تصلح للزرع.
وهذا يدعو صاحب الأرض سواء أكان مالكاً لرقبتها (العشرية)، أو يملك منفعتها (الخراجية)، يدعوه لاستغلال الأرض، بنفسية متشجعة، من غير إحباط ولا تردد.
وكذلك فإن هذا التصنيف الشامل للأرض يجعل هناك مصدراً دائماً للدخل في بيت مال المسلمين، وبالتالي للمسلمين بشكل عام، مما يساعد ويصب في دائرة رفاهية المجتمع بشكل عام، حيث تعود منافع هذه الأرض على أكبر قطاع من الناس في المجتمع وليس على قطاع واحد كما هو في نظام الإقطاعيات في النظام الرأسمالي.
وأيضاً فإن هذا التصنيف الشرعي يجعل الأرض مقسمة بحق الله فيها، وليس كما يريده البشر، أو تريده الدول في النظام الرأسمالي، حيث تجعل الأرض حسب أهواء الرأسماليين في الإقطاع والتمليك، وخاصة الأرض المشاع التي لا مالك لها.
أما التقسيم الثاني للأرض فهو حسب ملكيتها: حيث قسّمها الشارع إلى ملكيّة فردية، وملكيّة عامّة وملكيّة دولة، وأرض مشاع ميتة ليس لها مالك متصرف.
الملكيّة الفردية: الملكية الفردية بشكل عام ـ كما عرفها الفقهاء ـ هي حكم شرعي مقدر بالعين أو المنفعة، يقتضي تمكين من يضاف إليه من انتفاعه بالشيء، وأخذ العوض عنه.
ومن الأعيان التي تُملك فردياً الأرض. فللإنسان أن يملك ـ بإذن الشارع ـ للزراعة، وللصناعة، وللسكن، وللمرافق الخاصة، وللمشاريع التجارية وغير ذلك. وقد ملك المسلمون في عهد الرسول عليه السلام، وفي عهد الخلفاء الراشدين، وهذه الملكية قد تكون إرثاً، أو هبة، أو شراء، أو إقطاعاً من خليفة المسلمين، أو إحياءً لأرض ميتة… أو غير ذلك.
فهذا الصنف من الأرض للشخص كامل التصرف به ـ ضمن حدود الشرع ـ بيعاً، وهبة، ووقفاً، وانتفاعاً… ولا تمنع الدولة أي إنسان من حقه في الانتفاع ما دام ضمن حدود الشرع، ولا تستطيع كذلك الدولة أن تحجز على هذا الصنف من الأرض إلا إذا تعلق حكم شرعي بذلك، مثل أن يكون فيها معدن عدّ تتفرق الجماعة في طلبه مثل الملح، فإن الملكية العامة تطبق عليه في هذه الحالة حسب أحكام الشرع.
الملكية العامة: الملكية العامة هي إذن الشارع للجماعة بالاشتراك بالانتفاع بالعين مما أجاز الشارع الانتفاع العام فيه، ومنع الأفراد من حيازتها وتملكها. وهذه في الأرض مثل المراعي، أو الأرض التي توجد فيها منابع الماء الضرورية لوحدة الجماعة، وعدم فرقتها، وكذلك مثل الأراضي التي فيها معادن غير محدودة، أي لا تنقطع، مثل الملح، والذهب والفضة، والنفط، ويشمل هذا الصنف من الملكية العامة كذلك الساحات العامة، ومصبّات الأنهار والبحيرات، والمستشفيات والملاعب… وغير ذلك. فهذه الأنواع من الأرض، وضعها الشرع لمنفعة الجماعة بشكل عام، ولا يجوز للشخص، ولا للدولة أن تضع يدها عليه.
النوع الثالث هو ملكية الدولة: ملكية الدولة في الأرض، هي الأراضي التي فيها حق لعامة المسلمين والتدبير فيها للخليفة حسبما يرى من مصلحة. فهذه الأراضي تعود ملكيتها للدولة سواء اشترتها من الأفراد بأموال الدولة، أو وهبها لها المسلمون، أو كانت من أراضي من لا وارث له من الكفار والمسلمين، أو من غير ذلك.
فهذه الأرض يجوز للدولة أن تملكها، ومطلق التصرف فيها يعود لخليفة المسلمين حسبما يراه من نفع عام للمسلمين، فله أن يهبها، وله أن يبني عليها مراكز للدولة ومنشآت، وله أن يجعلها في أي طريق فيه مصلحة عامة. ولا يدخل في هذه الأرض الأملاك العامة، فلا تتصرف الدولة بالأملاك العامة حسبما يراه الخليفة، وإنما يرعى ذلك رعاية بحيث يتحقق الانتفاع الكامل للجميع.
إن النا ظر في هذا التصنيف من حيث الملكية يرى أن الأملاك محددة تحديداً دقيقاً، يحفظ على كل صاحب حق حقه، ولا يوجد أي تداخل، أو جهالة يفتح الباب أمام الدولة تتصرف في الأرض كما تشاء، وتجعل لنفسها مطلق الصلاحيات للتصرف بالأرض وما هو في داخل الأرض وخارجه كما هو حاصل اليوم في النظم الرأسمالية، والدول التي تأثرت بهذه النظم في بلاد المسلمين.
ولم يقف الأمر في الأحكام الشرعية عند حد تصنيف الأرض من حيث ما يؤخذ منها، أو من حيث ملكيتها بشكل عام بل وضع أحكاماً تضمن استغلال هذا المصدر الهائل للثروة بأكبر قدر مستطاع، وعدم تعطيله، أو إهماله من قبل الأفراد.
ومن هذه الأحكام الشرعية التي عالجت هذا الموضوع أولاً: إحياء الأرض الموات: والأرض الموات هي الأرض التي لم يملكها أحد ولم يظهر عليها تعمير سابق.
فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أحيا أرضاً ميتةً فهي له» (الترمذي)، وقال: «من عمّر أرضاً ليست لأحد فهو أحق بها»، وقال: «من أحاط حائطاً على أرض فهي له» (أبو داود). فالأصل في الأرض أن تستغل بأكبر قدر مستطاع، ولا تبقى هكذا دونما نفع لأحد، لذلك جعل الشارع إحياءها تملكاً لها بهذه الطريقة، تشجيعاً للناس على إحيائها، لأن الإنسان يحب التملك ويحب الإعمار ويحب الثروة كذلك، وإذا فتح له المجال فإنه يبدع في ذلك.
أما إذا وضعت الدولة يدها على الأرض الموات، وأخذت تؤجرها، أو تبيعها كما هو في نظم البشر القاصرة فإن ذلك لا يدعو للتشجع على الإعمار والاستصلاح، وإذا حصل وأحيا إنسان الأرض بهذه الطريقة ـ أي بالاستئجار أو الابتياع من الدولة ـ فإنه يكون قليلاً دون حوافز تذكر، ويثقل كاهل الإنسان.
بل إن الدولة في النظام الإسلامي تسعى لتشجيع الناس فوق ما وضعه الشارع من حوافز بالإحياء، فالدولة تعطي الناس المال اللازم حسب طاقتها، وتوفر لهم الخبراء، والمعدات، وكل الإمكانات التي تسهل هذا الأمر، لأن منفعة ذلك كبيرة على الفرد، وعلى المجتمع بشكل عام.
ثانياً: التصرف في الأرض واستغلالها وعدم تعطيلها بوضع اليد عليها.
فالأرض ابتداءً هي لله، والشرع قد مكن الإنسان من الانتفاع بها حسب أحكام شرعية تضمن المنفعة للفرد وللمجتمع.
وقد انعقد إجماع الصحابة في عهد الإمام عمر t عن أخذ الأرض، إذا عطلت فوق ثلاث سنوات، حيث قال لبلال المزني وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أقطعه العقيق: “… إنما أقطعك رسول الله لتعمل ولم يقطعك لتحجره على الناس فخذ ما قدرت على عمارته ورد الباقي” (كتاب الخراج)، وروى البيهقي كذلك أن عمر جعل المدة التي يمهل فيها الشخص ثلاث سنين، فإن أحياها غيره فهي له.
فالدولة ابتداء تحث الشخص للانتفاع بالأرض التي يضع يده عليها، وتقدم له العون حسب إمكاناتها، فإن عمرها وداوم على استغلالها بقيت في يده، وإن عطلها فوق ثلاث سنين ولم يستغلها أخذت منه بالقوة، وأعطيت لمن يعمرها.
ثالثاً: منع إجارة الأرض للزراعة: الأصل في الأرض أن يقوم صاحبها بزراعتها وإعمارها بأي شكل من الإعمار، وإلا أخذت منه إن كانت أرضاً زراعية، وأعطيت لغيره بعد ثلاث سنين. أما تأجيرها لغيره فقد نهى الشارع عنه نهياً جازماً إن كان للزراعة، قال عليه السلام: «من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه فليزرعها» (البخاري).
وفي هذا الحكم فائدة كبيرة لمن يباشر استغلال الأرض، حيث لا يثقل كاهله بدفع عوض عن رقبة الأرض وكذلك لا يفكر في موضوع الخسارة بسبب القحط أو غيره، بل إنه يسخر جهده وماله في سبيل نفعه بزراعة الأرض والعناية بها، وفي هذا تشجيع كبير للناس لإعمار الأرض المتروكة في يد أصحابها.
إن النا ظر في هذه الأحكام الشرعية ـ بشكل عام ـ التي تعالج موضوع الأرض، يرى أنها معالجات مثالية فريدة تحقق العدالة أولاً في توزيعها على الناس، وتمكنهم من تملكها بعد أن سخرها لهم ربهم، وتمكن الأفراد من استغلال مادة الثروة بأكبر قدر مستطاع q
[يتبع]
أبو المعتصم ـ بيت المقدس
2001-10-11