ضـجَّة التمـاثيـل في أفغـانسـتان
2001/04/11م
المقالات
2,756 زيارة
طالعتنا، لعدة أيام، وسائل الإعلام المرئية، والمسموعة، والمقروءة، بأخبار متتالية حول ما أعلنته (طالبان) عن تدمير التماثيل في أفغانستان وبخاصة تمثالا بوذا في (باميان)، وتوالت الأخبار عن حجم التدمير ومن ثَـمَّ تسارع الاحتجاجات من الأمم المتحدة ومنظماتها كاليونسكو وغيرها ثُم من الولايات المتحدة ودول أخرى من الغرب والشرق وحتى من الحكام في بلاد المسلمين. وقد حضر كوفي عنان إلى باكستان واجتمع هناك مع بعض المسئولين الباكستانيين ووزير خارجية طالبان، وحضر بعد ذلك وفد من منظمة المؤتمر الإسلامي يضم مفتي مصر (نصر فريد واصل) ويوسف القرضاوي وغيرهم في محاولات لمنع التدمير أو تأجيله، وقبل هذا وبعده ما تنافست في عرضه (الفضائيات) وما تناقلته من آراء وحوار ومناقشات مع عدد من الذين اتصلت بهم في بلاد المسلمين، وغير المسلمين، حتى أصبحت قضية التماثيل قضية القضايا، وصارت تثار على أنها تدخل ضمن حفظ التراث الإنساني وعدم إلحاق الأذى بمن يعبدون تلك التماثيل في الهند واليابان وغيرها.
وحيث إن الضجة التي أثيرت حول الموضوع كانت لافتة للنظر، عليه فلا بد من النظرة الثاقبة الواعية للموضوع لتجلو الضباب الذي أحاط بالقضية ولتزيل الغشاوة عن البصر والبصيرة، ومن خلال هذه النظرة يتبين أن ثلاثة عوامل قد اجتمعت في موضوع التماثيل وكأنها ثلاثة أبعاد لصورة واحدة، وهذه الأبعاد نوضحها كما يلي:
أولاً: البعد التشريعي:
إن التماثيل إن كانت أصناماً تعبد في جزيرة العرب أو في البلاد التي تفتح عنوة أو في أي بلد مصّره المسلمون كالكوفة والبصرة وأمثالها، فإن الحكم الشرعي فيها أن تزال من مكانها وتطمس وتهدم كما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأصنام حول الكعبة، وكما أرسل خالد بن الوليد لهدم صنم العزّى وكما أرسل أبا سفيان والمغيرة بن شعبة لهدم الطاغية (اللات).
أما إن كانت البلد قد فتحت صلحاً وفيها تماثيل تعبد في غير المناطق المذكورة، فإن الحكم في هذه التماثيل يكون وفق الصلح الذي تم ما بقي أحد يعبد تلك التماثيل من أهل البلاد المفتوحة صلحاً، روى محمد بن الحسن في السير الكبير قال (وعن عمر بن الخطاب t قال أمنع أهل الذمة من إحداث شيء من الكنائس في البلاد المفتوحة من خراسان وغيرها ولا أهدم شيئاً مما وجدته قديماً في أيديهم ما لم أعلم أنهم أحدثوا ذلك بعد أن صار ذلك الموضع مصراً من أمصار المسلمين) وأخرج ابن أبي شيبة عن أبيّ بن عبد الله قال (جاءنا كتاب عمر بن عبد العزيز لا تهدم بيعة ولا كنيسة ولا بيت نار صولحوا عليه) وأخرج كذلك عن ابن عباس (وأما مصر مصرته العجم ففتحه الله على العرب فنـزلوا يعني على حكمهم فللعجم ما في عهدهم) قال السبكي وقد أخذ العلماء بقول ابن عباس وجعلوه مع قول عمر وسكوت بقية الصحابة إجماعاً وحكى هذا الإجماع ابن القيم في أحكام أهل الذمة.
فإذا أسلم أهلها ولم تعد تلك التماثيل تعبد في ذلك البلد أي إنها لم تبق أصناماً تُعبد وإنما مجرد تماثيل فإن الحكم الشرعي أنه يحرم إبقاؤها على هيئتها كتماثيل لذي روح، والواجب في تغيير هيئتها هو على الأقل أن تقطع رؤوسها أو تطمس وجوهها ولا تعطى لها أهمية أو وزن أو احترام في مكانها كأن تزار أو يحتفى بها. وذلك لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه أحمد من طريق أبي هريرة وفيه قول جبريل عليه السلام للرسول صلى الله عليه وسلم: (… فمر برأس التمثال يقطع فيصير كهيئة الشجرة…) وفي الحديث الذي أخرجه مسلم من طريق أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه: أن لا تدع تمثالاً إلا طمسته. وعند عبد الرزاق والبيهقي ولا تمثالاً في بيت إلا طمسته.
وحيث إن التماثيل في أفغانستان هي تماثيل عادية أي ليست أصناماً تعبد عليه فإنه يجوز تفجيرها أو تكسيرها كاملة ويجوز قطع رؤوسها أو طمس وجوهها بذهابها عن صورتها أو تلطيخها أو إخفائها ببناء جدار أمامها ملتصق بها أو نحو ذلك فكل ذلك يجزئ شرعاً مع عدم إبقاء أي احترام أو أهمية لأمكنتها كمناطق للسياحة أو الاحتفاء بها بأي شكل كان.
هذا هو الحكم الشرعي وكان يمكن أن ينفذ هذا الحكم بسهولة ويسر دون ضجيج وبسرعة مناسبة لولا تغليف البعد التشريعي بالبعد السياسي.
ثانياً: البعد السياسي:
إن واقع طالبان الآن أنها تسيطر على معظم أفغانستان، ويبدو أن الوقت قد حان لإدخالها في المجتمع الدولي كما تفهمه الدول الكبرى وبخاصة الولايات المتحدة. ومن المعروف أن باكستان هي المغذي الأساس بشرياً وعسكرياً لطالبان، كما أنها، أي باكستان هي ركيزة للولايات المتحدة في المنطقة، فلا يستبعد أن تكون إثارة هذا الموضوع بهذه الكيفية قد تمت بهدف سياسي من قبل هذه الدول المؤثرة في المنطقة، كمدخل للتفاوض في شئون أفغانستان سواء ما كان منها متعلقاً بابن لادن أو تجارة المخدرات أو العلاقات مع المعارضة ومن ثم ترتيب أمور الحكم والاعتراف به. وللوصول إلى هذا الهدف أثير موضوع التماثيل إعلامياً قبل تنفيذ الإجراء المعلن عنه من طالبان.
قد لا يكون مسئولو طالبان مدركين للعبة السياسية في الموضوع فانطلقوا من البعد التشريعي دون سواه ولكنهم لم يحسنوا التنفيذ، وتمكن الذين أثاروا الموضوع سياسياً من إدخال الضجة عليه قبل تنفيذه فبرز البعد السياسي بقوة، وبالتالي فإن الأعمال السياسية لإدخال طالبان في المجتمع الدولي قد بدأت بجدية سواء دمرت التماثيل بشكل كامل أو جزئي، والمتوقع أن يتبع هذا الأسلوب، أي ضجة التماثيل، أساليب أخرى كمدخل لصياغة وضع معلن ظاهر للحكم في أفغانستان.
ثالثاً: البعد الأثري ـ المتعلق بالآثار ـ:
إن موضوع الآثار مرتبط، منذ سنين طويلة، وبخاصة في بلاد المسلمين، مرتبط بالمطامع الاستعمارية وغير منفصل عن المصالح السياسية وتغليفه بالحفاظ على الآثار من الناحية الموضوعية ليس أكثر من ستار يخفي مطامعهم من ورائه. لقد ظهر هذا بوضوح في القرنين الماضيين عندما كانت أعمال التجسس والمؤامرات تتم في البلاد الإسلامية عن طريق البحث عن الآثار والتنقيب عنها، وأكبر جاسوسين في بلاد المسلمين كلورنس وفيلبي وغيرهما من الجواسيس دخلوا البلاد بحجة التنقيب عن الآثار والاهتمام بها، وقد سببت تلك الأعمال كثيراً من المتاعب للدولة العثمانية آنذاك، يضاف إلى هذا الهدف التجسسي هدف آخر كان يعمل الاستعمار له بقوة، ولا زال، عن طريق الآثار، وهو إبراز جذور للمسلمين في بلادهم يعتزون بها غير الإسلام وحضارته، فكانوا إذا وجدوا حجراً قديماً هنا وقطعة فخار هناك أو تمثالاً أو مقبرة، فإنهم يربطون ذلك بأصول يزعمونها للبلاد وحضارات سابقة يثيرونها للبلاد ويشدون أعوانهم لتركيزها في الأذهان فحركوا بفاعلية الفرعونية والكنعانية والفينيقية والبابلية والأشورية والطورانية وغيرها، كل ذلك حركوه في بلاد المسلمين باسم الآثار والحضارات السابقة لتكون بديلاً عن الولاء للإسلام وحضارته.
هذه هي الأهداف الخبيثة للكفار المستعمرين من وراء الإثارة والاهتمام بالآثار في بلاد المسلمين، فلم يكن في يوم ما (الحفاظ الموضوعي على الآثار) هو الهدف من إثارتها والشواهد على ذلك كثيرة يكفي فيها ما يحدث من تخريب في منطقة المسجد الأقصى وما حدث من حرق لمنبر صلاح الدين في المسجد ومن هدم لأقدم المساجد في البوسنة والهرسك والهند… وغيرها كل ذلك يقوم به اليهود والصرب والهندوس وغيرهم دون أن تثار ضجة من الأمم المتحدة أو منظماتها أو أي من الدول الكبرى شبيهة بهذه الضجة أو بجزء منها حول تماثيل أفغانستان، ولذلك فإن إثارة موضوع الآثار بشكل ساخن في قضية تماثيل أفغانستان تعني أن وراء الأكمة ما وراءها من مطامع سياسية ومؤامرات ومصالح استعمارية.
إن إدراك هذه الأبعاد الثلاثة يعطي صورة مجسمة للموضوع يمكن لكل ذي عينين أن يبصر حقيقتها والأهداف والغايات مما أثير حولها من سخونة وضجة.
وفي خاتمة هذا الموضوع نجد لزاماً أن نذكر الملاحظات التالية:
الملاحظة الأولى: اعتاد الكفار أن يجعلوا الإسلام متهماً تصريحاً أو تلميحاً، وهذا ليس غريباً منهم فهم أعداء للإسلام، ولكن الغريب أن يجدوا من المسلمين من يأخذ هذه وينطلق منها مدافعاً في زعمه عن الإسلام، ففي هذا الموضوع مثلاً عرض الكفار قضية أن التماثيل إرث حضاري للإنسانية كلها والاعتداء عليه اعتداء على الإنسانية وأضافوا أن الرضا بهذا إساءة للإسلام، بعد ذلك تلقف هذه الفكرة رجال في مراكز بارزة في بلاد المسلمين وانطلقوا يدافعون بالتأويل والتحليل وعرضوا فقه الموازنات والأولويات ومقارنة المصالح بالمفاسد ليصلوا إلى وجوب المحافظة على الإرث الحضاري كما قالوا بل زعموا أن الإسلام يدعو للاستفادة من آثار الأمم الماضية فالقرآن قد ذكر تلك الأمم واندثارها، وقالوا كذلك إن الإساءة لتماثيل بوذا في أفغانستان إساءة للبوذيين وذكروا الآية ]ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم[ وكانت ثالثة الأثافي مقولتهم لو كان في هذه التماثيل ضرر لما أبقاها المسلمون عندما فتحوا تلك البلاد. وهكذا خلطوا الحابل بالنابل ليبرروا هذه الضجة السياسية حول التماثيل.
وعلى الرغم من أن هذه التبريرات لا وجه فيها للاستدلال على موضوع ضجة التماثيل في أفغانستان، وأنها لا تستحق كثيراً من الوقوف عندها، ولكننا سنمر عليها بالقدر اللازم لأن الذين أثاروها ينظر عدد من المسلمين باحترام لعلمهم، فنقول:
أ ـ إن ذكر القرآن لآثار الأمم الماضية كان لأجل التدبر والاعتبار من هلاك تلك الأمم لأنها كفرت وفسدت وأفسدت وارتكبت الجرائم والموبقات فعاقبها الله وأهلكها، فهي أمم فاسدة ومفسدة غضب الله عليها ولعنها فأهلكها.
وأما الاهتمام بالآثار موضوع البحث فهو عند أصحابها لإكبار الأمم السابقة وأنها صاحبة حضارة وأنها قدمت خدمات للإنسانية.
وواضح الفرق الهائل بين النظرتين: نظرة القرآن لتدبر مصير تلك الأمم الهالكة لجرائمها وفسادها، ونظرة أصحاب الآثار اليوم لإكبار تلك الأمم على ما قدموه من حضارة للإنسانية.
ب ـ أما الآية الكريمة فهي تتعلق بالأفراد المسلمين الذين يعيشون مع الكفار في بلد واحد، فلا يسب المسلم دين الكافر حتى لا يتسبب في أن يسب الكافرُ دين المسلم. وهذا الواقع غير موجود في أفغانستان فليست القضية أن مسلماً هناك يسب دين بوذي يعيش معه، هذا فضلاً عن أن الآية خطاب للأفراد وهدم التمثال أو الصنم خطاب للدولة، فالموضوع مختلف ولا تنطبق الآية عليه.
جـ ـ أما إبقاء تمثالي (باميان) وعدم إزالة المسلمين لهما عند فتح تلك البلاد فهو آتٍ من أن خراسان ومنها (باميان) قد فتحت صلحاً كما جاء في الأموال لأبي عبيد، وكما جاء في فتوح البلدان للبلاذري حيث أورد كتاب قائد المسلمين ابن عامر لحاكم هراة وما حولها وكما ذكر المقدسي في أحسن التقاسيم. وبلد الكفار الذي يفتح صلحاً تراعى شروط الصلح فيه ومنها أن تبقى معابدهم موجودة دون إحداث جديد فيها، وتضرب عليهم الجزية ويخضعوا لأحكام الإسلام. وهذا ما تم في (باميان) فقد ذكر ياقوت في معجم البلدان أنه كان في باميان بيت للعبادة وصنمان نقرا في الجبل، وحيث إنها فتحت صلحاً فقد ترك المسلمون معابد أهلها، بيت العبادة والصنمين، وبقيت بضع سنين حتى أسلم أهل باميان ولم يبق بها بوذي، فهدم المسلمون البيت الذي ذكره ياقوت ثم طمسوا الصنمين التابعين له بما استطاعوا في حينه لأنهما لم يعودا صنمين يعبدان بل مجرد تمثالين يجزئ الطمس فيهما. وأهملت تلك المنطقة وأصبحت معزولة لا قيمة لها ولا اهتمام، أي إن المسلمين نفذوا الحكم الشرعي على وجهه حسب استطاعتهم تلك الأيام.
وبقيت تلك التماثيل ومنطقتها مهملة معزولة تضربها الرمال والأتربة مئات السنين حتى القرنين الماضيين عندما بدأ تحريك موضوع الآثار في بلاد المسلمين كما ذكرنا ومن ثم نفض عنها الغبار وأصلح من شأنها وجعلت المنطقة محترمة أثرية يؤمها السياح ويحتفى بها. فإذا أعيد إهمالها وأعيد الطمس أو وسّع الطمس أو كسرت أو فجِّرت كلها أو بعضها فإنه لا يصح أن يقابل هذا بالقول: لو كان في بقاء الصنمين ضرر لما أبقاهما المسلمون.
الملاحظة الثانية: إن معرفة الحكم الشرعي دون الوعي السياسي لا تكفي عند تنفيذ الأحكام، وهذا واضح في هذه القضية، فإن معالجة موضوع التماثيل كان يمكن أن يتم بسهولة ويسر وقبل أن يعلن أو تلحقه ضجَّة سواء أكان ذلك بكسر رأسه أم بإعادة الطمس وتوسيعه أم ببناء جدار أمامه لصقاً به لإخفائه أم بكسره أم بتفجيره أم بما شاؤوا منه ثم جعل المنطقة لأغراض لا علاقة لها بالتماثيل أو زيارتها أو الاحتفاء بها أو نحوه، غير أن عدم الوعي السياسي مكن القوى التي حركت الموضوع، مكنهم من إثارة ضجة ساخنة قبل البدء بالتنفيذ ثم عملوا على استغلالها في ما رسموه من خطط لموضوع أفغانستان.
إن وقوف باكستان ـ وهي ركيزة للولايات المتحدة في المنطقة ـ وراء طالبان، وعدم الوعي السياسي لدى طالبان يجعل المخططات السياسية هي الموجهة للأحكام الشرعية بدل أن تكون الأحكام الشرعية هي الموجهة للأعمال السياسية، وواضح أن خطر ذلك أمر كبير.
الملاحظة الثالثة: إن المسلمين أمة واحدة والأصل أن يكونوا في دولة واحدة يحكمهم خليفة واحد يتبنى الحكم الشرعي فينفَّذ دون خلاف لأن أمر الإمام يرفع الخلاف، وعدم وجود خليفة للمسلمين يجعلهم في مأزق أمام أية مشكلة لا نقول فقط الكبيرة المعقدة بل حتى البسيطة التي لا تحتاج إلى بذل الوسع الكبير كهذه القضية. إنه لحري بالمسلمين أن يدركوا أن قضاياهم لا يمكن أن تنتظم في مسار واحد مستقيم دون خليفة يجمعهم على كتاب الله وسنة رسوله ففي ذلك الدواء لكل داء وأيُّ دواء .
2001-04-11