آيـةُ الدَّيْـن (3)
2001/04/11م
المقالات
2,032 زيارة
(يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأبَ كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئاً فإن كان الذي عليه الحق سفيهاً أو ضعيفاً أو لا يستطيع أن يملّ هو فليملل وليه بالعدل واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ولا يأبَ الشهداء إذا ما دعوا ولا تسأموا أن تكتبوه صغيراً أو كبيراً إلى أجله ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضارّ كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم(282) وإن كنتم على سفرٍ ولم تجدوا كاتباً فرهانٌ مقبوضةٌ فإن أمن بعضكم بعضاً فليؤدِ الذي اؤتمن أمانته وليتقِ الله ربه ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه والله بما تعملون عليم(283)) [البقرة].
(ولا يأبَ الشهداء إذا ما دعوا) أي إذا دعي الشهود ليشهدوا على كتابة الدين فليلبوا ولا يرفضوا، والنهي هنا للكراهة لعدم وجود قرينة تفيد الجزم فهو نهي غير جازم.
أي يكره لمن دعي ليشهد على كتابة الدين فرفض ولم يذهب.
(ولا تسأموا أن تكتبوه صغيراً أو كبيراً إلى أجله) أي لا تضجروا من كتابة الدين إلى أجله مهما كانت قيمة الدين، وهذا ترغيب على الكتابة.
(ذلكم أقسط عند الله) أي أعدل.
(وأقوم للشهادة) أثبت لها.
(وأدنى ألا ترتابوا) أي أقرب إلى انتفاء الريب والشك.
وهذه كلها (ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا) قرينة ـ كما بينا سابقاً ـ.
(إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها) استثناء منقطع بمعنى (ولكن إذا كانت تجارةً حاضرةً بينكم يداً بيدٍ لا دين فيها فلا حرج عليكم ألا تكتبوها أي مباح لكم الكتابة وعدمها).
(وأشهدوا إذا تبايعتم) وهو عائد على التجارة الحاضرة والأمر هنا على الإباحة لأنه خلو من القرائن وليس قربة، فالشهادة على التجارة الحاضرة مباحة.
(ولا يضار كاتب ولا شهيد) أي لا يؤذى أي منهما سواء بإجبارهما عليها أو الضغط عليهما للكتابة والشهادة بغير الحقيقة أو إثقال كاهلهما بالحضور للشهادة بما يشق عليهما سواء من حيث النفقة أو المشقة، بل معاملتهما بالحسنى والتيسير عليهما.
ومضارة الكاتب والشهود هنا على التحريم بقرينة (وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم) فهو وصف مفهم يفيد النهي الجازم عن المضارة أي أنها حرام.
(واتقوا الله) أي قوا أنفسكم غضب الله وعقابه واخشوه سبحانه.
(ويعلمكم الله) أي يعلمكم أحكام شرعه فالتزموها.
(والله بكل شيء عليم) فهو سبحانه لا تخفى عليه خافية فيعلم حقائق الأمور ويجزيكم بكل ما تعملون.
ولا يقال إن لفظ الجلالة (الله) قد ورد مكرراً (واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم) فإن هذا ليس تكراراً مجرداً بل كلّ منهما بمعنى مستقل زيادة في تعظيم الله سبحانه وعلوّ شأنه، فهو سبحانه أهل التقوى وهو الذي يستند العلم إليه فكلّ علمٍ بما منَّهُ الله على عباده مما خلقه في الأشياء وفيهم من خصائص ومكونات وإمكانيات فطرية وعقلية لتعلم ما لم يكونوا يعلمونه، فهو سبحانه صاحب المنة بالعلم على مخلوقاته.
وفي ختام الآية اختصاص الله سبحانه بالعلم الأزلي الذي يحيط بكل شيء فلا يعزب عنه مثقال ذرة في السماء ولا في الأرض.
ولذلك فتكرار اسمه سبحانه (الله) ـ جل جلاله ـ ليس تكراراً مجرداً بل كل بمعنى مستقل وهو في الوقت نفسه متصل بالمعاني الأخرى في نظم عظيم يأخذ بالألباب، فسبحان الله خالق الأرض والسماء وكل شيء عنده بمقدار!
(وإن كنتم على سفرٍ ولم تجدوا كاتباً فرهانٌ مقبوضةٌ فإن أمن بعضكم بعضاً فليؤدِ الذي اؤتمن أمانته وليتقِ الله ربه ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه والله بما تعملون عليم(283) ).
يبين الله سبحانه في هذه الآية الكريمة أن المتعاملين بالدين إن كانوا على سفر ولم يجدوا أثناء سفرهم من يكتب لهم دينهم، فإن الله سبحانه قد أبدلهم عن ذلك بأن يأخذ الدائن من المدين رهناً يقبضه ضماناً لدينه.
فإن ائتمنوا بعضهم فلا حاجة لكاتب أو شاهد أو رهن، و على المدين الذي ائتمنه صاحبه أن يخشى الله في صاحبه الذي ائتمنه على دينه وأن يؤدي إليه حقه دون عناء أن يضطره إلى كثرة مطالبته، بل يتذكر إحسان الدائن إليه فيؤدي إليه حقه بإحسان كذلك.
ثم يحضهم الله سبحانه على عدم كتمان الشهادة وأن في ذلك إثماً عظيماً، وفي ختام الآية يبين الله سبحانه أنه عليم بما يعملون ولا يمكنهم بكتمان الشهادة أن يخفوا عن الله شيئاً فهو علام الغيوب لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء (والله بما تعملون عليم) فيجازيكم به إن خيراً فخير وإن شراً فشر.
(وإن كنتم على سفرٍ) أي مسافرين.
(فرهانٌ مقبوضةٌ) أي بدلاً من الكاتب عند عدم وجوده.
و(فرهانٌ) جمع رهن وهو في الأصل مصدر ثم أطلق على المرهون من باب إطلاق المصدر على الاسم المفعول، و(مقبوضةٌ) دليل على تسليم الرهن للدائن فيقبضه.
ومفهوم الشرط هذا (وإن كنتم على سفرٍ ولم تجدوا كاتباً فرهانٌ مقبوضةٌ) خرج مخرج الغالب، فالغالب في السفر أنهم كانوا لا يجدون كاتباً لقلة المتعلمين في ذلك الزمن، ففي الحضر يبحث عنهم بصعوبة فكيف في السفر؟ ففي الغالب أنهم لا يوجدون.
ولذلك فلا مفهوم له بمعنى أنه في الحضر كذلك يجوز الرهن على الإباحة، أي أن مفهوم الشرط في الآية (إن لم يكن سفر فلا رهان) لا يعمل به في هذه الحالة.
فقد صحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه البخاري عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ: “أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى من يهودي طعاماً إلى أجل ورهنه درعاً له من حديد”(1) وفي رواية أخرجها النسائي من حديث ابن عباس: “توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعاً من شعير لأهله”(2).
وهذان الحديثان يفيدان إباحة الرهن في الحضر، ونقول إباحة لأنهما يخلوان من قرينة جازمة أو فيها ترجيح كقربة إلى الله أو ما شابهها، ويكون الحكم الشرعي كالتالي:
كتابة الدين في الحضر مندوبة، ويقوم مقامها في السفر عند عدم وجود الكاتب رهانٌ مقبوضةٌ، وتكون مندوبة في هذه الحالة لقيامها مقام المندوب وهو الكتابة.
وأما الرهان لتوثيق الدين في الحضر فمباح.
(فإن أمن بعضكم بعضاً) أي فإن أمن بعض الدائنين بعض المدينين في السفر أو الحضر، فكان حسن الظن بالمدين وبأمانته وعدم مطله أي أن الدائن يثق بالمدين فيسدد دينه له بأمانة ولا مطل، ففي هذه الحالة يمكن الاستغناء عن توثيق الدين بالكتابة والشهود والرهن ويصبح ذلك مباحاً ـ كما بينا ـ إن شاء استوثق وإن لم يشأ لم يستوثق.
وليست (فإن أمن بعضكم بعضاً) خاصة في حالة السفر والرهن وكونها وردت في هذه الآية التي بدأت بالسفر، لأن المعنى قد اكتمل عند (فرهانٌ مقبوضةٌ) والتعقيب بعدها هو على ما سبق من أحكام الدين بالكتابة والشهود والرهن في الحضر والسفر.
ويؤكد ذلك ذكر (ولا تكتموا الشهادة) في هذه الآية والشهادة ليست مذكورة في الرهن عند السفر بل هي متعلقة بالشهادة المذكورة في الآية السابقة عند الكتابة في الحضر، ومع ذلك ذكرت في هذه الآية التي بدأت بالسفر (وإن كنتم على سفر) وعليه فالراجح أن ما جاء بعد (فرهانٌ مقبوضةٌ) متعلق بموضوع الدين السابق في السفر والحضر.
والمعنى يكون: فإن اطمأن الدائنون لأمانة المدين وكان عندهم ثقة به في السداد وعدم المماطلة فيمكن عندها الاستغناء عن وسائل توثيق الدين من كتابة وشهود ورهن في الحضر والسفر على وجهه، وبدل أن يكون التوثيق مندوباً ـ كما بينا سابقاً ـ يصبح مباحاً مع هذه الحالة الجديدة المبينة في قوله تعالى: (فإن أمن بعضكم بعضاً).
(فليؤد الذي اؤتمن أمانته) أي ليؤد المدين الدائن، وسمي الدين أمانة في هذه الحالة لأنه استغنى عن التوثيق بأمانة المدين.
والطلب هنا للوجوب، أي أن أداء الدين على الوجوب وذلك بقرينة لفظ (أمانته) وأداء الأمانة فرض “لا إيمان لمن لا أمانة له”(3) وأحاديث أخرى فذكر الأمانة وهي وصف مفهم وأداؤها فرض، وتشبيه الدين بالأمانة وجعل أداء الأمانة هو موضوع الطلب كلّ ذلك قرينة على أن الأمر هنا (فليؤد) للفرض.
(وليتق الله ربه) تحذير له من إنكار الحق أو عدم أدائه.
(ولا تكتموا الشهادة) خطاب عام للشهود وللدائن والمدين، لا يخفونها أو يحرفونها أو يمنعونها عن وجهها الصحيح، والنهي هنا جازم أي للتحريم بدلالة قوله سبحانه: (ومن يكتمها فإنه آثم قلبه).
وذكر (قلبه) بعد ذكر (آثم) للدلالة على عظم الإثم فإن ذكر الحاسة بعد فعلها أقوى في الدلالة، فإن قول (هذا ما أبصرته عيني) أقوى وأبلغ في الدلالة من (هذا ما أبصرته) وكذلك (هذا ما سمعته أذناي) أقوى من (هذا ما سمعته) و هكذا (ومن يكتمها فإنه آثم قلبه) أقوى من (ومن يكتمها فإنه آثم).
(والله بما تعملون عليم) أي يعلم ما تعملونه سراً كان أو علانيةً، فإن الله لا تخفى عليه خافية فهو سبحانه يعلم أعمالكم ويحصيها عليكم ويجزيكم بها إن خيراً فخير وإن شراً فشر .
[انتهى]
ــــــــــــــ
(1) البخاري: 2700.
(2) النسائي: 4572، البخاري: 2759، 4197، أحمد: 1/236، 361، ابن حبان: 13/262.
(3) أحمد: 3/154، 210.
2001-04-11