هذا تاريخـكم فتيهـوا على الدنيـا به واعمـلوا للخـلافة على منهـاج النبـوة
2001/04/11م
المقالات
2,395 زيارة
الهجمة الفكرية على الإسلام وأمته شرسة، وتأخذ أبعاداً وأشكالاً مختلفة، من أبرزها ما يتعلق بالأحكام السلطانية، فمن منكر لوجودها في الإسلام، ومن قائل إن الإسلام لم يطبق إلا في عصر الراشدين الأربعة، ومن زاعم أنه لم يطبق إلا في عصر الشيخين، فترى هؤلاء القوم يركزون على إبراز ما يسمونه فتناً، ويجمعون للاستدلال عليها كل رواية غثة وسقيمة، ويعتمون على الجوانب المشرقة في تاريخنا المجيد، ويشوهون صور عظماء هذه الأمة، وبخاصة كل من كانت له نكاية في الكفار وعلى رأسهم الروم، ورغم تحول الروم إلى الرأسمالية ومعهم الفرنجة إلا أنهم لم ينسوا تاريخهم معنا، فظل حقدهم دفيناً ومكرهم متواصلاً وكيدهم متأصلاً، حتى صارت الدولة لهم علينا فهدموا خلافتنا، وفرقوا جماعتنا، ونهبوا فيئنا، وداسوا كرامتنا، ولن يتوقفوا ولن يرضوا حتى نتبع ملتهم، ونرتد عن ديننا، وهم لن يستطيعوا ذلك، فالذكر محفوظ، والدين سيظهر، والأمة راجعة إلى دينها، والخـلافة كائنة، والنصر وعد من الله، فما على الأمة إلا أن تنصر من بيده النصر والاستخلاف والتمكين، سبحانه لا مبدل لكلماته ولا راد لقضائه ومن أصدق منه قيلاً.
ومن عظماء أمتنا الذين شرق بهم الروم ودانت له جبابرتهم، الغازي الحاج ميمون النقيبة هارون الرشيد، فيحاولون هم وعملاؤهم أن يصوروه بصورة شارب الخمر الماجن، صاحب الجواري الحسان والليالي الحمراء، العسوف الظلوم، وقد جمعت بعض أخباره وشهادات الناس فيه من علماء وشعراء ومؤرخين، وأترك للقارئ الكريم أن يحكم عليه بعد الاطلاع عليها، وليعلم أن كل تاريخنا يحتاج إلى تمحيص وتدقيق بعد أن تناولته أيدي الكفار وعملائهم.
– غـزوه الـروم:
الجهشياري في الوزراء و الكتاب: وكان الرشيد قد أحب الغزو، وكان من رسمه أن يحج سنة ويغزو سنة، وكان يلبس دُرّاعة قد كُتب من خلفها حاج ومن قدامها غاز. فطلب نقفور الهدنة على أن يؤدي إليه عن كل حالم ممن عنده من الروم ديناراً سواه وسوى ابنه، فأبى الرشيد ذلك، ثم تراضيا على الصلح، وأشار عليه يحيى بن خالد بقبوله إياه فصالحه وهادنه، فانصرف عنه، ولما صار بالرقة نكث نقفور وغدر، فكره يحيى بن خالد أن يعرف الرشيد ذلك فيغتم له، ويرجع باللوم عليه، لما كان من مشورته عليه بمصالحته، فأمر عبد الله بن محمد الشاعر المعروف بالمكي أن يقول في ذلك شعراً وينشده الرشيد فقال:
نَقَضَ الذي أَعطيتَهُ نَقْفُورُ فَعليهِ دائـرةُ البَوَارِ تَدُورُ
أَبْشِـرْ أميرَ المؤمنينَ فإنهُ فَتْـحٌ أتاكَ بهِ الإلهُ كـبيرُ
فقال الرشيد ليحيى: قد علمت أنك احتلت في إسماعي هذا الخبر على لسان المكي ونهض نحو الروم فافتتح هرقلة.
وبعد فتح هرقلة أرسل إليه نقفور كتاباً رقيقاً أورده الطبري في تاريخه قال: [وكتب نقفور مع بطريقين من عظماء بطارقته في جارية من سبي هرقلة كتاباً نسخته: لعبد الله هارون أمير المؤمنين من نقفور ملك الروم: سلام عليكم، أما بعد أيها الملك فإني لي إليك حاجة لا تضرك في دينك ولا دنياك هينة يسيرة، أن تهب لابني جارية من بنات أهل هرقلة كنت قد خطبتها على ابني، فإن رأيت أن تسعفني بحاجتي فعلت والسلام عليك ورحمة الله وبركاته… فأرسلها هارون مع هدية فصلها الطبري في التاريخ].
ومما ينبغي لفت النظر إليه أن هذه الرقة والأدب في الخطاب يخالف كتابه الأول الذي كان السبب المباشر في هذه الغزوة. أورد صاحب المختصر عن كتاب نقفور الأول ما يلي: [فكتب إلى الرشيد: من نقفور ملك الروم إلى هارون ملك العرب، أما بعد، فإن الملكة التي كانت قبلي أقامتك مقام الرُخّ من البيدق، فحملت إليك من أموالها ما كنت حقيقاً بحمل أضعافه إليها، لكن ذلك من ضعف النساء وحمقهن، فإذا قرأت كتابي هذا فاردد ما حصل لك من أموالها وإلا السيف بيننا وبينك. فلما قرأ الرشيد الكتاب استفزه الغضب وكتب على ظهر الكتاب: بسم الله الرحمن الرحيم، من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم، وقد قرأت كتابك يا ابن الكافرة والجواب ما تراه لا ما تسمعه. ثم سار الرشيد من يومه حتى نزل على هرقلة ففتح وغنم وخرّب، فسأله نقفور المصالحة على خراج يحمله في كل سنة فأجابه].
وقد مات الرشـيد أثناء غـزوه الروم، قال السـيوطي في تاريـخ الخـلفاء: مات الرشـيد في الغـزو بطوس من خراسان.
– عبـادتـه:
مع أن الغزو عبادة إلا أننا أفردناه بعنوان خاص لأنه يختلط بالعلاقات الدولية لكون الرشيد إماماً، أما سائر عباداته فقد ذكر الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد: [وحكى بعض أصحابه أنه كان يصلي في كل يوم مئة ركعة إلى أن فارق الدنيا، إلا أن يعرض له علة، وكان يتصدق في كل يوم من صلب ماله بألف درهم، وكان إذا حج أحج معه مئة من الفقهاء وأبنائهم، وإذا لم يحج أحج في كل سنة ثلاثمئة رجل بالنفقة السابغة والكسوة الظاهرة].
وقد أحصى المسعودي سني حجه بالناس فكانت: 170، 173، 174، 175، 176، 177، 178، 179، 181، 186، 188هـ.
وقال الذهبي في التاريخ: [سنة تسع وسبعين ومئة وفيها اعتمر الرشيد في رمضان ودام على إحرامه إلى أن حج ومشى من بيوته إلى عرفات].
وقال أبو الفدا في المختصر: [ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين ومئة وفيها حج الرشيد وأحرم من بغداد].
وذكر ابن عساكر بإسناده عن الواقدي قال: [حج هارون الرشيد فورد المدينة فقال ليحيى بن خالد: ارتَدْ لي رجلاً عارفاً بالمدينة والمشاهد، وكيف كان نزول جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أي وجه كان يأتيه، وقبور الشهداء، فسال يحي بن خالد فكلٌ دله عليَّ، فبعث إلي فأتيته، وذلك بعد العصر، فقال لي يا شيخ إن أمير المؤمنين أعزه الله يريد أن تصلي عشاء الآخرة في المسجد، وتمضي معنا إلى هذه المشاهد فتوقفنا عليها، والموضع الذي يأتي جبريل، فكن بالقرب. فلما صليت عشاء الآخرة إذا أنا بشموع قد خرجت، وإذا أنا برجلين على حمارين، فقال يحيى: أين الرجل؟ فقلت: ها أنا ذا، فأتيت به إلى دور المسجد فقلت: هذا الموضع الذي كان جبريل يأتيه، فنـزلا عن حماريهما فصليا ركعتين ودعوا الله ساعة، ثم ركبا وأنا بين أيديهما فلم أدع موضعاً من المواضع ولا مشهداً من المشاهد إلا مررت بهما عليه، فجعلا يصليان ويجتهدان في الدعاء. فلم نزل كذلك حتى وافينا المسجد وقد طلع الفجر وأذن المؤذن… وقال لي إن أمير المؤمنين أعزه الله لم يزل باكياً وقد أعجبه ما دللته عليه… في قصة طويلة].
وذكر الغزالي في فضائح الباطنية قال: وقد حُكي عن إبراهيم بن عبد الله الخراساني أنه قال: حججت مع أبي سنة حج الرشيد فإذا نحن بالرشيد وهو واقف حاسرٌ حافٍ على الحصباء، وقد رفع يديه وهو يرتعد ويبكي ويقول يا رب أنت أنت وأنا أنا، أنا العوّاد إلى الذنب وأنت العوّاد إلى المغفرة، اغفر لي.
– رحلته وروايته للحديث:
ذكر السيوطي في تاريخ الخلفاء أن القاضي الفاضل قال في بعض رسائله: [ما أعلم أن لملك رحلة في طلب العلم إلا للرشيد فإنه رحل بولديه الأمين والمأمون لسماع الموطأ على مالك رحمه الله، قال وكان أصل الموطأ بسماع الرشيد في خزانة المصريين. قال ثم رحل لسماعه السلطان صلاح الدين بن أيوب إلى الاسكندرية فسمعه على ابن طاهر بن عوف ولا أعلم لهما ثالثاً].
ورحلته في طلب الحديث ذكرها ابن عساكر في تاريخ دمشق فروى بإسناده عن عتيق بن يعقوب الزبيري قال: قدم هارون الرشيد المدينة وكان قد بلغه أن مالك بن أنس عنده الموطأ يقرؤه على الناس، فوجه إليه البرمكي فقال: أقرئه السلام وقل له يحمل إلي الكتاب فيقرأه عليّ. فأتاه البرمكي فأخبره، وكان عنده أبو يوسف القاضي فقال يا أمير المؤمنين: يبلغ أهل العراق أنك وجهت إلى مالك بن أنس في أمر فخالفك، إعزم عليه. فبينما هو كذلك إذ دخل مالك بن أنس فسلم وجلس، فقال يا ابن أبي عامر أبعث إليك فتخالفني؟ فقال مالك: يا أمير المؤمنين، أخبرني الزهري وذكره عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه قال: كنت أكتب بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم (لا يستوي القاعدون من المؤمنين) قال وابن أم مكتوم عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني رجل ضرير وقد أنزل الله عز وجل في فضل الجهاد ما قد علمت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا أدري، وقلمي رطب ما جف، حتى وقع فخذ النبي صلى الله عليه وسلم على فخذي، ثم أغمي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم جلس فقال: يا زيد أكتب (غير أولي الضرر). يا أمير المؤمنين حرف واحد بُعث فيه جبريل والملائكة من مسيرة خمسين ألف عام لينبغي لي أن أعزه وأجله، وإن الله تعالى رفعك وجعلك في هذا الموضع بعلمك، فلا تكن بأول من يضع العلم فيضع الله عزك. قال فقام الرشيد فمشى مع مالك بن أنس إلى منـزله فسمع منه الموطأ، وأجلسه معه على المنصة، فلما أراد أن يقرأه على مالك قال: تقرؤه عليّ؟ قال ما قرأته على أحد منذ زمان. قال فتُخرج الناس عني حتى أقرأه أنا عليك، فقال: إن العلم إذا منع من العامة لأجل الخاصة لم ينفع الله به الخاصة. فأمرّ له معن بن عيسى القرآن ليقرأه عليه فلما بدأ ليقرأه قال مالك بن أنس لهارون الرشيد يا أمير المؤمنين أدركت أهل العلم ببلدنا يحبون التواضع للعلم، فنـزل هارون عن المنصة فجلس بين يديه…].
وقال السيوطي في التاريخ: حدث عن أبيه وجده ومبارك بن فضالة وروى عنه ابنه المأمون وغيره وكان من أميز الخلفاء وأجل ملوك الدنيا وكان كثير الغزو والحج.
وقال ابن الجوزي في المنتظم: وسمع الحديث من مالك بن أنس وإبراهيم بن سعد الزهري وأكثر حديثه عن آبائه، روى عنه أبو يوسف القاضي والشافعي وكان يحب الحديث وأهله.
ومما رواه الرشيد من الحديث:
ـ ما رواه السيوطي في تاريخ الخلفاء قال: قال الصولي: حدثنا عبد الرحمن بن خلف حدثني جدي الحصين بن سليمان الضبي سمعت الرشيد يخطب فقال في خطبته حدثني مبارك بن فضالة عن الحسن عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اتقوا النار ولو بشق تمرة» حدثني محمد بن علي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن علي بن أبي طالب قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم «نظفوا أفواهكم فإنها طريق القرآن».
ـ وما رواه ابن عساكر في التاريخ بإسناده عن المأمون قال: حدثني هارون الرشيد حدثني مالك بن أنس عن سعيد عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «السفر قطعة من العذاب» الحديث.
ـ وعنده أيضاً عن الجاحظ قال حدثنا أبو يوسف القاضي قال تغديت عند هارون الرشيد فسقطت من يدي لقمة، فانتثر ما كان عليها من الطعام، فقال يا يعقوب خذ لقمتك فإن المهدي حدثني عن أبيه المنصور عن أبيه محمد بن علي بن عبد الله عن أبيه ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أكل ما سقط من الخوان فرزق أولاداً كانوا صباحاً».
– غزارة دمعه عند الذكر:
الخطيب في تاريخه بإسناده عن منصور بن عمار يقول: [ما رأيت أغزر دمعاً عند الذكر من ثلاثة: فضيل بن عياض وأبو عبد الرحمن الزاهد وهارون الرشيد].
وعنده أيضاً بإسناده عن عبيد الله بن عمر القواريري قال: لما لقي هارون الرشيد فضيل بن عياض قال له الفضيل: يا حسن الوجه، أنت المسؤول عن هذه الأمة، حدثنا ليث عن مجاهد (وتقطعت بهم الأسباب) قال الوصَل التي كانت بينهم في الدنيا. قال فجعل هارون يبكي ويشهق.
– تعظيمه لرسول اللّـه صلى الله عليه وسلم وللسنة ونفوره من البدع:
الخطيب البغدادي في تاريخه: قال أبو معاوية: وما ذكرت النبي صلى الله عليه وسلم بين يديه قط إلا قال: صلى الله على سيدي. وبإسناده عن خرزاذ القائد يقول: كنت عند الرشيد فدخل أبو معاوية الضرير وعنده رجل من وجوه قريش، فجرى الحديث إلى أن خرج أبو معاوية إلى حديث الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة أن موسى لقي آدم فقال: أنت آدم الذي أخرجتنا من الجنة؟ وذكر الحديث فقال القرشي: أين لقي آدم موسى؟ قال فغضب الرشيد وقال: النطع والسيف زنديق والله يطعن في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال فما زال أبو معاوية يسكنه ويقول كانت منه بادرة ولم يفهم يا أمير المؤمنين، حتى سكنه.
وروى ابن الجوزي في المنتظم قال: وكان الرشيد معظماً للسنة شديد النفور من البدع… وكان الرشيد يستقبح المدح بالكذب، ويذم المادح به، قال يوماً لبعض ولاته: كيف تركت الناس؟ فقال يا أمير المؤمنين أحسنتَ فيهم السيرة وأنسيتَهم سيرة العمرين، فغضب الرشيد واستشاط وقال: ويلك يا ابن الفاعلة العمرين العمرين!! وأخذ سفرجلة فرماه فكادت تهلكه، وأُخرج من بين يديه.
وروى ابن عساكر عن ابن علية قال: أخذ هارون الرشيد زنديقاً فأمر بضرب عنقه، فقال له الزنديق لم تضرب عنقي؟ قال له: أريح العباد منك. قال فأين أنت من ألف حديث وضعتها على رسول الله كلها ما فيها حرف نطق به؟ قال فأين أنت يا عدو الله من أبي اسحق الفزاري وعبد الله بن المبارك ينخلانها فيخرجانها حرفاً حرفاً. وعنده أيضاً عن أبي سعيد العقيلي… قال لما قدم هارون الرشيد المدينة أعظم أن يرقى منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في قباء أسود ومنطقة.
– حبه للعلم وتوقيره للعلماء وتواضعه لهم:
قال الخطيب وكان يحب الفقه والفقهاء ويميل إلى العلماء ويحب الشعر والشعراء ويعظم في صدره الأدب والأدباء وكان يكره المراء في الدين والجدال ويقول إنه لخليق أن لا ينتج خيراً… علي بن المديني يقول: سمعت أبا معاوية يقول أكلت مع هارون الرشيد ـ أمير المؤمنين ـ طعاماً يوماً من الأيام، فصب على يدي رجل لا أعرفه، فقال هارون الرشيد: يا أبا معاوية تدري من يصب على يديك؟ قلت لا، قال: أنا، قلت أنت يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم إجلالاً للعلم… عن الأصمعي قال: دخلت على هارون الرشيد ـ ومجلسه حافل ـ فقال: يا أصمعي ما أغفلك عنا وأجفاك لحضرتنا!! قلت والله يا أمير المؤمنين ما ألاقتني بلاد بعدك حتى أتيتك. قال فأمرني بالجلوس فجلست وسكت عني. فلما تفرق الناس ـ إلا أقلهم ـ نهضت للقيام فأشار إلي أن أجلس، فجلست حتى خلا المجلس فلم يبق غيري وغيره ومن بين يديه من الغلمان، فقال لي يا أبا سعيد: ما ألاقتني؟ قلت: أمسكتني يا أمير المؤمنين، وأنشدت:
كفاكَ كـفٌّ ما تُليقُ درهماً جوداً وأخرى تعط بالسيف الدما
فقال أحسنت، وهكذا فكن وقرنا في الملأ وعلمنا في الخلاء، وأمر لي بخمسة آلاف دينار.
وقال السيوطي في تاريخ الخلفاء: ومن محاسنه أنه لما بلغه موت ابن المبارك جلس للعزاء وأمر الأعيان أن يعزوه في ابن المبارك.
– حسن رعايته وحدبه على رعيته:
قال السيوطي في تاريخ الخلفاء: وفي سنة تسع وثمانين فادى الروم حتى لم يبق بممالكهم في الأسر مسلم.
وأخرج الطبري في تاريخه قال: وكتب عهد هرتمة بخطه: هذا ما عهد هارون الرشيد أمير المؤمنين إلى هرتمة بن أعين ولاه ثغر خراسان وأعماله وخراجه، أمره بتقوى الله وطاعته ورعاية أمر الله ومراقبته، وأن يجعل كتاب الله إماماً في جميع ما هو بسبيله، فيحل حلاله ويحرم حرامه، ويقف عند متشابهه، ويسأل عنه أولي الفقه في دين الله وأولي العلم بكتاب الله…
وذكر ابن الجوزي في المنتظم: وألحّ عليه في بعض غزواته الثلج، فقال بعض أصحابه: أما ترى يا أمير المؤمنين ما نحن فيه من الجهد والرعية وادعة؟ فقال له: اسكت على الرعية المنام، وعلينا القيام، ولا بد للراعي من حراسة رعيته.
وذكر المسعودي في المروج قال: رام الرشيد أن يوصل ما بين بحر الروم وبحر القلزم مما يلي الفرما، فقال له يحيى بن خالد البرمكي: كان يختطف الروم الناس من المسجد الحرام وتدخل مراكبهم إلى الحجاز، فتركه.
– كراهيته للمبالغة في الإنفاق على الطعام:
المسعودي في المروج: حدث إبراهيم بن المهدي قال: استزرت الرشيد بالرقة فزارني وكان يأكل الطعام الحار قبل البارد، فلما وضعت البوارد رأى فيما قُرب إليه منها جام قريص السمك فاستصغر القطع وقال: لِمَ صغَّر طباخك تقطيع السمك؟ فقلت يا أمير المؤمنين هذه السنة السمك. قال: فيشبه أن يكون في هذا الجام مئة لسان، فقال مراقب خدمه: يا أمير المؤمنين فيها أكثر من مئة وخمسين، فاستحلفه عن مبلغ ثمن السمك فأخبره أنه قام بأكثر من ألف درهم، فرفع الرشيد يده وحلف أن لا يطعم شيئاً دون أن يحضره ألف درهم، فلما حضر المال أمر أن يتصدق به، وقال أرجو أن يكون كفارة لسرفك في إنفاقك على جام سمك ألف درهم، ثم ناول الجام بعض خدمه وقال: اخرج من دار أخي ثم انظر أول سائل تراه فادفعه إليه، قال إبراهيم: وكان شراء الجام على الرشيد بمئتين وسبعين ديناراً، فغمزت بعض خدمي للخروج مع الخادم ليبتاع الجام ممن يصير إليه، وفطن الرشيد وقال له: يا غلام إذا دفعته إلى سائل فقل له يقول لك أمير المؤمنين إحذر أن تبيعه بأقل من مئتي دينار فإنه خير منها، ففعل الخادم ذلك، فوالله ما أمكن خادمي أن يخلصه من السائل إلا بمئتي دينار.
ابن عساكر عن إبراهيم بن المهدي قال: كنت يوماً عند الرشيد فدعا طباخه فقال: أعندك في الطعام لحم جزور؟ قال نعم ألوان منه. فقال أحضره مع الطعام، فلما وضع بين يديه أخذ لقمة فوضعها في فيه، فضحك جعفر البرمكي، فترك الرشيد مضغ اللقمة وأقبل عليه فقال: مم تضحك؟ قال لا شيء يا أمير المؤمنين، ذكرت كلاماً بيني وبين جاريتي البارحة، فقال له: بحقي عليك لما أخبرتني به. فقال حتى تأكل هذه اللقمة، فألقاها من فيه وقال: والله لتخبرني، فقال يا أمير المؤمنين بكم تقول إن هذا الطعام من لحم الجزور يقوم عليك؟ قال بأربعة دراهم، قال لا والله يا أمير المؤمنين بل بأربعمئة ألف درهم، قال وكيف ذلك؟ قال: إنك طلبت من طباخك لحم جزور قبل هذا اليوم بمدة طويلة فلم يوجد عنده فقلت: لا يخلون المطبخ من لحم جزور (القائل جعفر)، فنحن ننحر كل يوم جزوراً لأجل مطبخ أمير المؤمنين. لأننا لا نشتري من السوق لحم جزور، فصرف في لحم الجزور من ذلك اليوم إلى هذا اليوم أربعمئة ألف درهم، ولم يطلب أمير المؤمنين لحم جزور إلا هذا اليوم، قال جعفر: فضحكت لأن أمير المؤمنين إنما ناله من ذلك هذه اللقمة، فهي على أمير المؤمنين بأربعمئة ألف. قال فبكى الرشيد بكاءً شديداً وأمر برفع السماط من بين يديه وأقبل على نفسه يوبخها ويقول: هلكت والله يا هارون. ولم يزل يبكي حتى آذنه المؤذنون بصلاة العصر وقد أمر بألفي ألف تصرف إلى فقراء الحرمين في كل حرم ألف ألف صدقة، وأمر بألفي ألف يتصدق بها في جانبي بغداد الغربي والشرقي، وبألف ألف يتصدق بها على فقراء الكوفة والبصرة، ثم خرج إلى صلاة العصر ثم رجع يبكي حتى صلى المغرب، ثم رجع فدخل عليه أبو يوسف القاضي فقال: ما شأنك يا أمير المؤمنين باكياً في هذا اليوم؟ فذكر أمره وما صُرف من المال الجزيل لأجل شهوته، وإنما ناله منها لقمة، فقال أبو يوسف لجعفر: هل كان ما تذبحونه من الجزور يفسد أو يأكله الناس؟ قال: بل يأكله الناس. فقال: أبشر يا أمير المؤمنين بثواب الله فيما صرفته من المال الذي أكله المسلمون في الأيام الماضية، وبما يسره الله عليك من الصدقة، وبما رزقك الله من خشيته وخوفه في هذا اليوم، وقد قال تعالى: (ولمن خاف مقام ربه جنتان) فأمر له الرشيد بأربعمئة ألف، ثم استدعى بطعام فأكل منه فكان غداؤه في هذا اليوم عشاء.
– بعض أقوال الناس فيه:
ـ الخطيب بإسناده عن عبد الرزاق قال: كنت جالساً مع فضيل بن عياض بمكة قال فمر هارون فقال فضيل بن عياض الناس يكرهون هذا، وما في الأرض أعز عليّ منه لو أنه حتى يضع رأسه لرأيت أموراً عظاماً.
ـ ابن الأثير في الكامل: وكان الفضيل بن عياض يقول: ما من نفس أشد علي موتاً من هارون الرشيد لوددت أن الله زاد من عمري في عمره، فعظم ذلك على أصحابه، فلما مات وظهرت الفتن وكان من المأمون ما حمل الناس عليه من القول بخلق القرآن قالوا: الشيخ أعلم بما تكلم به.
ـ المسعودي في المروج: وصف محمد بن علي العبدي الخراساني الإخباري الرشيد فقال: كان مواظباً على الحج متابعاً للغزو واتخاذ المصانع والآبار والبرك والقصور في طريق مكة، وأظهر ذلك بها وبمنى وعرفات ومدينة النبي صلى الله عليه وسلم، فعمّ الناس إحسانه، مع ما قرن به من عدله، ثم بنى الثغور، ومدن المدن، وحصن فيها الحصون، مثل طرسوس وأذنه، وعمر المصيصة ومرعش، وأحكم بناء الحرب وغير ذلك من دور السبيل والمواضع للمرابطين، واتبعه عماله وسلكوا طريقته، وقفتْه رعيته مقتدية بعمله، مستندة بإمامته، فقمع الباطل وأظهر الحق وأنار الأعلام وبرز على سائر الأمم.
ـ السيوطي: وأسند الصولي عن يعقوب بن جعفر قال خرج الرشيد في السنة الأولى التي ولي الخـلافة فيها حتى غزا أطراف الروم، وانصرف في شعبان فحج بالناس آخر السنة وفرق بالحرمين مالاً كثيراً. وكان رأى النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فقال له: إن هذا الأمر صائر إليك في هذا الشهر فاغز وحج ووسع على أهل الحرمين ففعل هذا كله.
ـ الطبري: واتخذ قلنسوة مكتوباً عليها غاز حاج فكان يلبسها فقال أبو المعالي الكلابي:
فمنْ يَطلبْ لقاءَكَ أو يُرِدْهُ فبالحرمينِ أو أقصـى الثغـورِ
ففي أرض العَدُوِّ على طمرٍّ وفي أرض التَّرَفُّـهِ فوق كُـورِ
ـ السيوطي: ولمنصور النمري فيه:
جعَل القرانَ إمامَه ودليلَه لَمَّا تخـيَّرَه القرآنُ ذِماما
قال أبو العتاهية لأبي نواس البيت الذي مدحت به الرشيد لوددت أني كنت سبقتك به إليه:
قد كنتُ خِفـتُكَ ثم آمَنني مِنْ أنْ أخافَكَ خَوْفُكَ اللّـهَ
ـ ابن الجوزي في المنتظم: فقال داود بن رزين:
بهارونَ لاحَ البدرُ في كلِّ بلدةٍ وأَكثرُ ما يعني به الغـزوُ والحجُّ
إمامٌ بذاتِ اللهِ أصـبحَ شغلُهُ وقامَ به عدلٌ وسـيرتُهُ النهـجُ
فدخل عليه مروان بن أبي حفصة فأنشده من قصيدة له:
وسُـدَّتْ بهارونَ الثغورُ فأُحكمتْ له عسكرٌ عنه تَشـظّى العسـاكرُ
وما انفكَّ معـقوداً بنصـرٍ لِواؤُه على الرغم قَسراً عن يدٍ وَهْو صاغرُ
فكلُّ ملوكِ الرومِ أعطـاهُ جـزيةً به مِنْ أمـورِ المسـلمينَ الْمَرائـرُ
هذه بعض سيرة هارون، ولا أقول إنه كان كالخلفاء الراشدين، وهو قطعاً ليس من الأمراء السفهاء الصبيان. أخرج أبو بكر الخلال بإسناد صحيح قال: أخبرني محمد بن يحيى أنه قال لأبي عبد الله (يعني أحمد بن حنبل): يروى عن الفضيل أنه قال: وددت أن الله عز وجل زاد في عمر هارون ونقص من عمري. قال نعم يروى هذا عنه، وقال: يرحم الله الفضيل كان يخاف أن يجيء أشر منه. قلت: قد امتحن أحمد فقال هذا ولو رأى ما نحن فيه لترحم على هارون.
لكن ينبغي التنبه إلى أن الخـلافة ونظامها شيء والهنات التي كانت من بعض الخلفاء شيء آخر، فتهاجم الخـلافة ونظامها لإساءة بعض الخلفاء، ويبحث عن أنظمة الكفر كبديل، هذا ظلم وافتراء وانتحار فكري وسياسي: فليحذر المسلمون كل حميت دسم خبيث أو جاهل يدخل هذا المدخل ليهاجم نظام الخـلافة، وينفر الناس منه، ويزين لهم غيرها من حكم الطاغوت
ع.ع 21/2/2001
2001-04-11