مع القرآن الكريم: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ…)
2016/09/11م
المقالات
3,138 زيارة
(يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)
جاء في كتاب التيسير في أصول التفسير لمؤلفه
عطاء بن خليل أبو الرشته
أمير حزب التحرير حفظه الله في تفسيره لهذه الآيات ما يلي:
من هذه الآية الكريمة نتبين ما يلي:
-
لقد ذكر الله سبحانه الصيام وأحكامه، وفي الآيات اللاحقة ذكر الجهاد والشهر الحرام والحج والأشهر المعلومات وبين آيات الصيام والشهر الحرام والحج، ذكر الله سبحانه هنا الحكمة من خلق القمر منازل يبدو هلالًا ثم بدرًا ثم يعود كما بدأ، ثم بين سبحانه هذه الحكمة وأنها مواقيت للناس، فمنها مواعيد الصيام “صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته“[1]، ومنها مواعيد للحج ( الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ ) البقرة/آية197، وبيان لأشهر السنة “السنة اثنا عشر شهرًا منذ خلق السموات والأرض منها أربعة حرم: ثلاثة سرد: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، وواحد فرد: رجب“[2]، ثم مواقيت لأحكام شرعية أخرى كالحول للزكاة والعدة للنساء وغيرها.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “جعل الله الأهلة مواقيت للناس؛ فصوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غمّ عليكم فعدوا ثلاثين يومًا“[3].
فالله سبحانه قد أجاب تساؤل السائلين عن الأهلة بأنها مواقيت للناس، أي بيان لمواعيد الأحكام الشرعية المتعلقة بهم.
( الْأَهِلَّةِ ¢ ) جمع هلال من الإهلال أي رفع الصوت، فقد كانوا عند رؤيتهم الهلال يرفعون الصوت بالتكبير أو بغيره احتفاء بقدوم الشهر، وبخاصة الذي هو من مواقيت العبادات كالصوم والحج، ومنه أهلّ القوم بالحج إذا رفعوا أصواتهم بالتلبية، وكذلك استهلّ الصبي إذا بكى وصاح. فالإهلال رفع الصوت عند رؤيته؛ ولذلك يقال أَهَلَّ الهلالُ واسْتَهَلَّ، ولا يقال هَلَّ لأن الصوت يُرفع لرؤية الهلال وليس الصوت من الهلال نفسه.
-
لما ذكر الله الأهلة كمواقيت للأحكام بعامة وللحج بخاصة ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ ) ذكر الله سبحانه أمرًا من أمور الحج كان منتشرًا في الجاهلية ويظنونه من علامات البِرّ، وذاك الأمر هو أنهم كانوا إذا أحرموا بالحج لا يدخلون بيت مدر أو وبر أو بستانًا أو ما شابه ذلك، لا يدخلونه من بابه بل يتسورونه من قبل ظهره ويظنون أن ذلك من البر، فأعلمهم الله سبحانه أن ليس من البر ما زعموه من تغيير ما أباحه الله من دخول البيوت من أبوابها إلى ظهورها دون دليل وبرهان، بل البِرّ هو في تقوى الله وخشيته والتزام شرعه، فدعوا ما أنتم عليه من دخول البيوت من ظهورها، وادخلوها من أبوابها، وافعلوا ما يأمركم الله به، واتقوا ما حرم الله؛ فبذلك تفلحون.
ولأن موضوع الآية هو ما ذكرناه كما روى البخاري عن البراء “كانوا إذا أحرموا في الجاهلية أتوا البيت من ظهره فأنزل الله ( وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا )”[4] ولذلك فإن الأولى استعمال اللفظ في معناه الصريح الموضوع له أي أبواب البيوت وظهورها حقيقةً.
غير أن اعتبار الكناية في المعنى لا يُمنع هنا، فيستفاد من دلالة الآية الكريمة في إتيان البيوت من أبوابها، وليس من ظهورها، يستفاد مباشرة الأمور من وجوهها التي يجب أن تباشَر عليها، ولا تُعكس فتُصرف المباشرة عن وجهها إلى غير وجهها من باب اللف والدوران.
والعرب تجيز استعمال الصريح والكناية فيما كان يحتمله مدلول اللفظ، فهم يقولون (نؤوم الضحى) ويصرفونه إلى الصريح من أن ذلك الشخص مدلل ينام إلى الضحى لأنه مخدوم فلا يطلب منه عمل يزاوله، وكذلك يصرفونه إلى الكناية عن الكسل وقلة الحيلة في تنفيذ الأعمال.
ولذلك يفهم من الآية ( وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا ) معناها الصريح بأن يأتوا البيوت من أبوابها وليس من ظهورها كما هو موضوع نزولها، ولا يُمنع أن يضاف للمعنى السابق معنى الكناية عن مباشرة الأمور على وجهها وليس صرفها عن غير وجهها من باب اللف والدوران.
( وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا ) قرِئت هنا ( الْبِرَّ ) بالرفع اسم (ليس) وجميع القراءات المتواترة كذلك. والخبر هنا متعين بالمصدر المؤول (أن تأتوا)، لأن الباء (حرف الجر الزائد) لا تدخل على اسم ليس بل على خبر ليس.
أما في الآية السابقة ( لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ) قرِئت ( الْبِرَّ ) بالنصب وبالرفع في القراءات المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ففي قراءة الرفع يكون (البِرُّ) اسمَ (ليس) مرفوعًا، والمصدر المؤول (تولية) من (أن تولوا) في محل نصـب خـبر (ليس). وفي قـراءة النصـب (البِرَّ) يكون موقـعـها خبرًا مقدَّمًا منصوبًا لـِ(ليس)، والمصدر المؤول في محل رفع اسم (ليس).
[1] البخاري: 1776، مسلم: 1809
[2] البخاري: 2958، مسلم: 3179، أبو داوود: 1663
[3] أحمد: 4/23
[4] البخاري: 4152
2016-09-11