بسم الله الرحمن الرحيم
إشكاليةُ هجرةِ المسلمين إلى الغرب:
دوافعُها، خطورتها، تداعياتها (2)
صالح عبد الرحيم – الجزائر
النظرةُ الصحيحة للمسألة: حلُّ الإشكالية يكمنُ في الانضباط بالشرع!
لا شك أن هذه المسألة تحكمها ضوابط شرعية. فلا يصح أبدًا الحكمُ على مسألة الهجرة إلى بلاد الغربِ أو غيرها من خلال الموازنة بين إيجابياتها وسلبياتها من ناحية العقل، أي بين مضارها ومنافعها عقلًا. كما لا يصح النظرُ إليها من خلال فوائدها ونتائجها، إذ هي مسألة شرعية لا بد فيها من حكم شرعي تتحدد بموجبه ضوابُطها والنظرةُ إليها. كما يلزَم أن يعرِفَ المسلمون حكمَها في شريعة الإسلام وما ينبغي إفهامُه لأبنائهم الذين يرغب معظمُهم في اللحاقِ ببعض بلاد الغرب وتحقيقِ حُلمهم، وهو العيش في إحدى دُوله حيث المساواةُ والحريةُ والأخوةُ الإنسانية والعلمُ والرفاهية والتقدمُ والغنى!! فوفق إحصائياتٍ أجريت مؤخرًا في الجزائر مثلًا، نسبة 50% يرغبون في المغادرة، رغم تنوع ثروات البلاد وشساعتها، ولا نخالها تقل عن ذلك في غيرها.
فبينما يذهب الباحثون في مسألة الهجرة إلى آراء تتفاوت (كما أسلفنا) بين مرخِّصٍ بشروط، ومتحمِّسٍ لتوسيع الهجرة وتعميق أثرها في الغرب بحجة أن العالَمَ اليومَ صار كلُّه دارًا واحدةً، أو بحجة أن مصطلحاتِ الفقهِ القديم (دار كفر ودار إسلام) تجاوزها الزمن، وأصبحت لا تنطبق على الحاضر اليوم، بل هي شيء من الماضي، أو بحجة أن الغربَ غربان: غربٌ شعبي نتعايش معه، وغرب رسمي نتحايل عليه لنحاربه، فإننا نذهب إلى درجة اعتبارِ وجودِ المسلمين بين الكفار بهذا الشكل متناقضًا مع التمسك بالدين، بل خطرًا على المسلمين وعلى هويتهم في أرجاء المعمورة أقله الذوبان فرديًا وجماعيًا في منظومة الكفر على مستوى الفكر والمعتقَد فضلًا عن السلوك!! إذ الدين ليس شعائر وعباداتٍ يمكن أداؤها بشكل فردي في البيوت أو في دور العبادة الخاصة بالمسلمين في بلاد الكفار (وربما في الأقبية)، بل هو وجهة نظر في الحياة تقتضي أن يكون المسلمون سادةً في العالم وأمةً واحدة من دون الناس، يعيشون في دولة إسلاميةٍ أي خلافة منيعة تطبق الشريعةَ وتحمل الإسلامَ إلى الناس كافة بالدعوة والجهاد. لذا فإننا نقول: إن من مقتضيات التمسكِ بالدين في هذا الزمان وجودَ المسلمِ حيث يلزم من أجل إعادة دولةِ الخلافة، وهو البلاد الإسلامية. لكن (بالمقابل) ما هي الحلول التي تقدمها هذه النظرةُ المبدئية (والمتشددةُ بنظر المعتدلين) للمسلمين الذين يعيشون الآن بالملايين كواقع مفروضٍ في بلاد الغرب العدو الكافرِ المحاربِ للإسلام إزاء هذه الإشكالية، هذا الغرب نفسه الذي يقتل المسلمين في كل يومٍ وفي كل مكانٍ من بلاد المسلمين، وتعمل دولُه بالليل وبالنهار للحيلولة دون عودةِ دولةِ المسلمين، ويسهر ساستُه على ألا يستيقظ المسلمون من سباتهم على الدوام؟؟ سنجيب على هذا السؤال لاحقًا.
يَسند هذا الرأيَ الذي أوردناه أدلةٌ من الشرع يعتمد عليها (وفي الاستنباط منها) أكثرُ علماء السلف من أمثال أبي حنيفة والشافعي وأحمد والأوزاعي والكاساني والماوردي وابن قدامة وابن تيمية وابن القيم وابن كثير وغيرُهم:
1– الحديث الصحيح عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين». [رواه أبو داود]. والحديث بجميع صيغه واضح في معناه.
2- يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ [النساء 97].
قال في التفسير: ففي الآية الكريمة أوجب الله الهجرةَ على المسلمين الذين يقيمون بين ظهراني المشركين ولا يقدرون على إقامة الدين، بشرط المقدرة (على الهجرة). والآية عامة في كل مسلم، فقوله تعالى: ﴿ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ ﴾ أي ظالمي أنفسهم بترك الهجرة وبارتكاب الحرام بالإقامة بين الكافرين من غير أن يتمكن من أداء واجباته الشرعية، إن كان قادرًا عليها (أي على الهجرة)، لأنه غير معذور. فالهجرة المقصودة هنا هي وجوبُ عودةِ المسلمِ إلى ديار الإسلام، ويُستفاد منه عدمُ جواز البقاءِ في ديار الكفر أو الذهابِ إليها أصلًا من أجل الإقامة فيها على الدوام.
قال الإمام ابن كثير: «نزلت هذه الآية عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين وهو قادر على الهجرة وليس متمكنًا من إقامة الدين، فهو ظالم لنفسه مرتكبٌ حرامًا بالإجماع».
فنجد من أقل الأقوال تحذيرًا في هذا الباب قولَ القرطبي في الجامع لأحكام القرآن عند تفسير قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ … ﴾ حيث قال: فالواجب على الإنسان أن لا يقيم في بلاد الكفر إذا كان عاجزًا عن إظهار دينه، أما إذا كان غيرَ عاجزٍ وليس له مأوى غير هذه البلدة فإنه لا بأس إن شاء الله. ولكن ما معنى إظهار الدين وإقامة الدين؟؟
فمن هذه النصوص ومعانيها يتبين أن كلَّ هذه الأقوال التي وردت من فقهاء السلف إنما وردت حالَ وجود دار الإسلام، وحالَ وجودِ دولةِ المسلمين ومَنعَتهم، أي حالَ نفاذِ أمرِهم بين الدول وقوةِ شوكتهم بين الأمم، فهل في حالة الاستضعافِ اليومَ بانتفاء وجودِ دار الإسلام بالكلية، حيث لا سلطان ولا أمان للمسلمين في بلادهم فضلًا عن غيرها، هل في ذلك حجة للقائلين باستواء الديار في العالم كله، وبالتالي بِجواز المكوثِ حيثما اختار المسلمُ من بلاد الكفار أو المسلمين على السواء، إذ لا فرق؟
ولا شك أن الصوابَ في ذلك هو أن بقاءَ المسلمين في بلاد المسلمين من أجل تحويلها من دار كفرٍ إلى دار إسلامٍ، حالَ عدمِ وجودِ الدولة الإسلامية – كما هي الحال الآن – يكون في هذه الحالة أوجب. فمن زاوية وجوب العمل لتغيير أوضاع المسلمين بإقامة الخلافة (وعدم حصول الكفاية بمن يعمل الآن) وجب تناولُ موضوع الهجرة هذا. وذلك أن الذي تحول بعد زوال الخلافة إنما هو دار الإسلام، التي صارت دارَ كفرٍ بذهاب حكم الإسلام وظلِّ الخلافة عنها، مع بقائها بلادًا إسلاميةً، أما التي كانت بالأصل دارَ كفرٍ (كألمانيا أو إنكلترا مثلًا) فإنها بقيت دارَ كفرٍ كما كانت. فلا بد (شرعًا) من العمل على تحويل بلاد المسلمين (أولًا) إلى دار إسلامٍ كما كانت، وذلك بإعادة إقامةِ الدولة واستئنافِ الحياة الإسلامية (فيها ولابد). وهذه هي النقطة الجوهرية والأساسية في المسألة، إذ لا يحل للمسلمين البقاءُ أكثر من ثلاثة أيام من دون خليفة، أي من دون دولة، فمن هذه الزاوية وهذا المنطلق كانت أولى البلاد بعملية التغيير وبالعمل من أجل إقامة الدولة الإسلامية هي البلاد الإسلامية (والبلاد العربية تحديدًا، وذلك للاعتبار اللغوي ليس إلا، كون اللغة العربية نزل بها القرآنُ، ونطقت بها السنةُ، فهي جزءٌ لا يتجزأ من الإسلام، ولا يمكن أداؤه إلا بها). وهل يقدر المسلمون في بلاد الغرب اليومَ على إقامة الدين وإظهاره على الوجه الصحيح كما يلزم شرعًا، ومن ذلك (وهو أقله) إظهار الشعائر وتطبيقُ أحكامه والدعوةُ إليه؟؟
والدليل على ذلك أيضًا أن المسلمين ممن يعيش خارجَ ديار الإسلام أي حال وجودِ الدولة، وَلايةُ دولةِ المسلمين عليهم منقوصةٌ، فليس لهم على دولة الخلافة حمايةٌ ولا نُصرةٌ في حالاتٍ معينة، بدليل قوله تعالى:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾[الأنفال 72].
والولاية (بفتح الواو وكسرها) معناها النصرة والحماية. ومعنى الآية من التفسير: إن الذين آمنوا أي صدَّقوا اللهَ ورسولَه وعمِلوا بشرعه، وهاجروا إلى دار الإسلام، أو بلدٍ يتمكنون فيه من عبادة ربهم، وجاهدوا في سبيل الله بالمال والنفس، والذين أَنزَلوا المهاجرين في دورهم، وواسَوْهم بأموالهم، ونصروا دينَ الله، أولئك بعضهم نُصراء بعض. أما الذين آمنوا ولم يهاجروا من دار الكفر (إلى دار الإسلام) فلستم مكلفين بحمايتهم ونصرتهم حتى يهاجروا، وإن وقع عليهم ظلمٌ من الكفار فطلبوا نصرتَكم فاستجيبوا لهم، إلا على قوم بينكم وبينهم عهد مؤكَّدٌ لم ينقضوه. والله بصير بأعمالكم، بجزي كلًا على قدر نيته وعمله. إلا أن بعض المفسرين قالوا: إن قوله تعالى ﴿ مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا ﴾ معناه فلا إرث بينكم وبينهم ولا نصيب لهم في الغنيمة حتى يهاجروا، وهو منسوخ بقوله في نفس الآية ﴿ وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ ﴾ وبآخر السورة. ففي جميع الحالات عند جمهور المفسرين أُمرَ المسلمون – كدولة – ألا يستجيبوا لهم في حمايتهم ونُصرتهم (حين وقوع ظلمٍ من الكفار عليهم) حالَ وجودِ عهدٍ بين دولةِ المسلمين وبين الكيانِ الذي هم فيه، وذلك بسبب عدم الهجرةِ منه إلى حيث الأمانُ والمنعةُ وهو دارُ الإسلام.
نقول: ولا شك أن من يعيش اليومَ من المسلمين في إحدى دول الغرب (ويستوطنها) – وحالُ المسلمين في بلادهم فضلًا عن غيرها أعجزُ وأضعفُ ما يمكن بسبب غيابِ دولتهم – يكونون أكثرَ عرضةً لجميع أنواع الافتراس، ومنه القتلُ والتنكيلُ والتوظيفُ الفكري والسياسي أفرادًا وجماعاتٍ، حتى لو حملوا جنسيةَ أو جوازَ سفرِ الدولةِ التي هم فيها. فلا يقولَنَّ أحدُهم إني أميركي أو كندي أو فرنسي أو بريطاني أو فنلندي أو بلجيكي أو دنمركي، أو أسترالي، فقد تُسحب منهم المواطنة (الجنسيةُ أو جواز السفر) جميعًا في أية محطةٍ من محطات صراعِ الغربِ مع المسلمين بسبب إسلامهم، رغم النقص الذي فيه بسبب وجودِهم ومكوثهم بين الكفار، والذي سيسميه ساسةُ الغرب حينئذٍ إرهابًا، فيُطرَدون ولو بالشبهة كإرهابيين إلى البلاد التي جاؤوا منها أول مرة، أو بالأحرى إلى التي جاء منها آباؤهُم أو أجدادهُم، أي إلى بلاد المسلمين! وهو ما نراه اليومَ يحدث بالفعل.
وفوق ذلك، فإنه إذا كانت هناك دار إسلام، فإن الاستيطانَ في دار الكفر لمن وجبت عليه الهجرةُ هو حرام قطعًا. كما أن الاستيطان في دار الكفر يجعل المسلمَ من أهل دار الكفر، فتطبق عليه أحكام دارِ الكفر من حيث العلاقات مع الدولة الإسلامية، ومن حيث العلاقات بغيره من الأفراد، وهذا من الشريعة معلوم. فمثلًا: لا يُقام عليه الحد، ولا تُستوفى منه الزكاةُ، ولا يرث غيرَه ممن هو في دار الإسلام، ولا تجب له النفقةُ على من هو في دار الإسلام ممن تجب عليه له لو كان في دار الإسلام، وغير ذلك من الأحكام الشرعية… كما أن المسلمَ لو استوطن دارَ الكفر وجاء لدار الإسلام للتجارة مثلًا أو للتداوي أو لطلب العلم أو لزيارة أقاربه أو للنزهة أو لأي غرض، وأقام في دار الإسلام يومًا أو شهرًا أو سنةً أو أكثر ولكنه لم يحمل تابعيةَ الدولةِ الإسلامية بل استمر في حمله تابعيةَ دار الكفر (أي كان يستوطن دارَ الكفر)، فتطبق في حقه أحكامُ المستأمِن، فلا يدخل دارَ الإسلام إلا بأمان أي إلا بإذنٍ من الدولة، فالموضوع ليس الإقامة الظرفية والمؤقتة مهما طالت وإنما هو في الاستيطان وحمل التابعية. وكذلك من كان يحمل تابعيةَ دولة المسلمين وذهب مؤقتًا لدار الكفر لغرض ما فإنه (ولو طالت مدة مكوثه) يُعتبر من أهل دار الإسلام، وله ما للمسلمين وعليه ما عليهم. فكل بلادٍ غير دار الإسلام تعتبر دارَ حربٍ، وتأخذ أحكامَ دار الحرب، والمسلم والكافر (ممن يستوطنها) في ذلك سواء، سوى أن المسلمَ في حال فتحِها عنوةً لا يُقتل ولا تؤخذ أمواله غنائم. كما أن من استوطن دارَ الإسلام (أي مَن يحمل التابعية) تُطبق عليه أحكام دار الإسلام، والمسلم والذمي في ذلك سواء.
فمن أجل بلورةِ هذه المسألةِ وإيضاح أهميةِ وجودِ الدولة في حياة المسلمين، وعدمِ جواز الانشغالِ عنها بغيرها حتى تقوم، كان لا بد من التقديم بالآتي لكمال البيان وتمام التوضيح:
عندما أدرك الغربُ الرأسمالي الاستعماريُّ الكافر الحاقدُ سرَّ قوةِ المسلمين، وأيقن أنها إنما تكمن في قوة عقيدةِ الإسلام، وفي قوة أفكارِ الإسلام، عمد منذ أمد بعيدٍ إلى عملية قلبِ المفاهيم عن كل شيء في أذهانهم، وهي عملية خطيرةٌ للغاية، وتكاد تكون أعظمَ نجاحٍ له في صراعه مع الأمة الإسلامية على الإطلاق، ما أدى فيما بعدُ إلى قهرهم سياسيًا بإزالة دولتهم وتقسيم بلادهم، وعسكريًا واقتصاديًا باحتلالهم واقتسام ثرواتهم! وأخطر ما في الأمر أنه أوجد مِن بين المسلمين – إلى اليوم – مَن يحمل خليطًا عجيبًا من ثقافته وبضاعته، يروج لها على أساس أنها هي الإسلام، أو أنها من الإسلام، أو أنها لا تتناقض مع الإسلام.
ومن أثر ذلك الخليط الفكري العجيبِ، وما تلاه من سقوط سياسي رهيب، غيابُ وجوب إعادةِ دولة الخلافةِ إلى الوجود من خطابِ أكثرِ من ينشد عودةَ الأمة إلى دينها اليوم من أصحاب المنابر والأقلام من الدعاة والمصلحين والوعاظ والمرشدين والكتاب والمفكرين!! هذه الدولة التي تجمع المسلمين – وجوبًا كما يأمر دينـُهم – في كيان سياسي واحدٍ يجسد حقيقةَ المجتمعِ الإسلامي، ويجسد حقيقةً وحدةَ الأمة كما كانت من قبلُ، علمًا أن هذه الوحدةَ – كما لا يخفى – هي من أعظم الفروض في الشريعة ولا ريب. وذلك أن الحكمَ بما أنزل الله يشملُ شرعًا نواحي الحياة جميعًا، فلا يكون معنى إقامةِ الدين والعودةِ إلى الإسلام على مستوى الجماعةِ سوى الحكم بما أنزل الله، أي حمل الناس على الالتزام بمقتضى عقيدة التوحيد والعبودية لله عز وجل، وهو تطبيق أحكام الشريعةِ كلها.
ولا يعني ذلك سوى الاحتكامِ إليها في كافة شؤون حياتهم أي رعايتِها وفق نظام الإسلام، ومن ذلك أحكامُ العبادات والأخلاق. ولا يكون البعدُ عن الإسلام على مستوى الجماعةِ والأمةِ – كما هو الحال اليوم – سوى عدم تطبيقِ الشريعة الإسلامية أي عدم وجودِ الدولة الإسلامية.
لذلك وجب إبرازُ خطورةِ خطيئةِ القفزِ على وجوب وجودِ الدولة في حياة المسلمين، وخطورة إسقاطِ وتغييبِ مفهومِ الحكمِ والدولةِ من ماهية وتعريفِ المجتمعِ في أذهان المسلمين، من خلال النظرِ في بعض تداعياتِ ذلك على حاضر الأمةِ ومستقبلها، من مثل التساهل في مسألة هجرةِ المسلمين إلى غير البلاد الإسلامية – والبلاد الرأسمالية تحديدًا – والإقامةِ فيها بين الكفار من المشركين وأهل الكتاب وغيرهم، وهو دون شك غيض من فيض من المصائب الكبيرةِ والتداعيات المتشعبةِ والخطيرة، التي يكتسي النظرُ فيها أو في بعضها (إذ لا يمكن عدها ولا حصرها) أهميةً بالغةً من حيث علاقة ذلك بكيفية معالجةِ واقع المسلمين بعدما وصل حالُهم إلى ما هو مشاهدٌ اليومَ من انحطاطٍ وهبوط، وانكسارٍ وسقوط، بعدما تسنَّى لقوى الكفر والطغيانِ في الغرب – بعد القضاء على دولة الخلافة الإسلامية عَقِب الحربِ العالمية الأولى – السيطرةُ التامةُ عالميًا على الساحة الفكرية والثقافية والإعلامية، والهيمنة الكاملةُ على الحياة الدوليةِ سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا.
ففي جميع الحالات لا يتسنى مطلقًا بحكم الواقع المشاهَدِ أن يَزعمَ مَن يسافر من المهاجرين إلى بلاد الغربِ أو غيرِها من أجل الإقامة الدائمة هناك أنه سيبقى متمسكًا بدينه، ومنه (ولو بزعمه) أن يحمل الدعوةَ الإسلاميةَ هناك من أجل إقامةِ الدولة الإسلامية وتغييرِ أوضاع المسلمين في بلاد المسلمين! فلا يتأتى لهم في جميع الحالات أن يحملوا دعوةَ الإسلام في تلك البلاد على الوجه الصحيح لا بوصفهم أفرادًا ولا بوصفهم أُسَرًا مسلمةً هناك ولا أحزابًا ولا جماعاتٍ، خصوصًا وأن خَلفِيةَ المغادرة إلى تلك البلاد وبواعثَها ودوافعَها لم تكن أصلًا على العموم وفي الغالب إلا إحدى حالاتٍ أربع (استقراءً):
أولًا: طلبُ الدنيا بسبب اعتناقِ العلمانية وعشقِ نمط الغربيين في الحياة (وهو معظم الحالات).
ثانيًا: النأيُ بالنفس بسبب ضعفِ الانتماء وقلةِ أو سوء الأداءِ داخل البلاد الإسلامية، والتنصل من المسؤولية تجاه الإسلام والأمة الإسلامية.
ثالثًا: الهروبُ من مشاكل المسلمين في بلادهم بسبب الظلمِ السياسي والاقتصادي وسوءِ الرعاية.
رابعًا: الفرارُ من التعذيبِ والقهرِ أو الموت. وكذا الإبعادُ أو التعرض لسحب المواطنة أو الجنسية (من طرف الحكام العملاء لنفس الغرب الذي يفرون إليه!).
يحدث ذلك عادةً في أكثر الحالات بعد نكبة أو مصيبة تحل ببعض البلاد الإسلامية بفعل الصراع فيها وبفعل تدخل الغرب الكافر نفسِه (كما حصل لأهلنا في فلسطين في 1948م أو في العراق عقب غزوه واحتلاله في2003م، أو كما يحصل الآن لأهلنا في الشام بإخراجهم من ديارهم وتفرقِهم في الأمصار وذهابِهم إلى أوروبا وغيرها بفعل الصراع في تلك البلاد). وبالمجمل فإن خَلفِية المغادرة إلى بلاد الغرب ليست في الغالب إلا لجوءًا سياسيًا أو طلبًا للأمان أو طلبًا لحياةٍ ماديةٍ أفضل ولو بالحد الأدنى– فلا يحدث ذلك في الغالب إلا والمسلمون في أضعف الحالات وأشدها انكسارًا (نفسيًا وماديًا على الأقل)، وهو الشاهد في الموضوع (!!)، إذ يكون المهاجرُ بوصفه فردًا في أكثر الأوضاع قابليةً لطمس هويته وأفضلها جاهزيةً للتوظيف الفكري والسياسي (ضد أمته) بالنسبة للدولة الغربية الراعية التي تستقبله (وأسرتَه)، وهذا مشاهد ملموس. كما لا يتسنى أيضًا شرعًا للأفراد حملُ الدعوة الإسلامية في المجتمعات الغربية إلا جزئيًا فيما هو من الاحتكاك مع الغربيين على مستوى الأفراد أو المنظمات (بشكل محدود) لا غير، إذ الكيفيةُ الشرعيةُ في حمل الإسلام إلى غير المسلمين في المجتمعات والشعوب والدول الأخرى هي الجهاد في سبيل الله، تقوم به وتتولى أعباءه الدولة. والخلاصةُ في هذا الشأن أنه كما أنه لا عزة للمسلمين بدون الخلافة، فإنه لا جماعةَ ولا إسلام على مستوى الأمة بدون دولةٍ تحكِّم الشريعةَ وتطبق الإسلام! فما معنى إذًا أن يتمسك المسلمون بدينهم وهم في الغرب كأفراد تحت سيادة الكفر والكفار الغربيين؟؟!!