مع القرآن الكريم:
جاء في كتاب التيسير في أصول التفسير لمؤلفه
عطاء بن خليل أبو الرشته
أمير حزب التحرير حفظه الله ما يلي:
(أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44) وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُواْ رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46))
التفسير:
(النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44))
أصل الخطاب إلى بني إسرائيل ولكنه عام يشمل كلّ من يفعل فعلهم، وهم كانوا يأمرون الناس بطاعة الله وتقواه وهم يعصونه، والاستفهام هنا استنكاري للتقريع وتقبيح فعلتهم؛ فمن يأمر الناس بالخير وينسى نفسه أي يتركها من امتثال هذا الخير، -فالنسيان هو الترك على نحو النسيان في قوله تعالى (نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ) (التوبة/67) أي تركوا طاعة الله فتركهم الله من ثوابه-، أقول: من يفعل ذلك يستحق الذمّ والتوبيخ وبخاصة وهم يتلون الكتاب أي يقرؤونه ويدرسونه ويعلمون الخير الذي فيه. ثم ختم الله سبحانه الآية بقوله: (أَفَلَا تَعْقِلُونَ) للدلالة على عظم هذه الجريمة فكأن الذي يأمر الناس بطاعة الله وهو يعصيه قد عَطَّلَ عقله فأصبح لا يفقه ولا يدرك سوء المصير والمنقلب، وهذا كما قال r: «يؤتى بالرجل يوم القيامة فيقذف في النار فتندلق فيها أقتاب بطنه ويدور فيها كما يدور الحمار في الرحى فيأتيه الناس فيقولون: يا فلان! كنت تأمر الناس بالمعروف وتنهى عن المنكر! قال: نعم، كنت آمر الناس بالمعروف ولا آتيه وأنهى عن المنكر وآتيه»1.
(وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45)).
يأمر الله سبحانه في هذه الآية بالاستعانة بالصبر عند الابتلاء فيبقى المرء ثابتاً على الحق لا تضعفه المصائب ولا تحرفه النوائب (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153)) البقرة وكذلك الاستعانة بالصلاة عند وقوع القضاء ففيها طمأنينة للنفس بالقرب من الله سبحانه «وكان رسول الله r إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة»2 وكان يقول: «أرحنا بها يا بلال»3.
ثم وصفها الله سبحانه بأنها على غير الخاشعين شاقة ثقيلة من قولك: كبر عليّ هذا الأمر إذا أردت أنه ثقيل عليك، ولكنها خفيفة طيبة على الخاشعين أي الذين يخافون الله ويخشونه فأولئك ينشطون في التقرب إلى الله بالصلاة وتطمئن قلوبهم بذكر الله (أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)) الرعد/آية 28.
____________
1- البخاري: 3094، مسلم: 2989، أحمد: 5/205
2- مسلم: 4909، أبو داوود: 1124، أحمد: 5/388، تفسير الطبري: 1/260
3- مجمع الزوائد: 1/145، أبو داوود: 4987، أحمد: 5/364، 371
والخشوع هنا الخوف والخشية من الله كما في قوله سبحانه (خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ) الشورى/ آية 45 أي أذلهم الخوف الذي نزل بهم.
(الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُواْ رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46)).
بيّن الله سبحانه في هذه الآية حال أولئك الخاشعين فهم الذين يعلمون أنهم ميتون4 وأنهم إلى ربهم راجعون بعد البعث من الموت يوم القيامة، ومن كانت هذه حاله فإنه يحرص على أداء الصلاة والاهتمام بها ليلقى الله وهو عنه راضٍ. أما الذين لا يؤمنون بالرجوع إلى الله ولا بالثواب والعقاب فأولئك تكون الصلاة عليهم ثقيلة لأنهم لا يرجون من ورائها خيراً.
وأصل الظن الشكّ، ولكنها تستعمل بمعنى اليقين بقرينة أي مجازاً على عادة العرب في استعمال كلامهم، والقرينة هنا هي لقاء الله والرجوع إليه مسندة إلى المؤمنين الخاشعين، فتكون بمعنى «اليقين» أي «يعلمون أنهم» لأن الظن في هذه الحالة كفر. ونحو هذا الاستعمال في الآية الكريمة (إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20)) الحاقة/ آية 20 أي علمت، أما الظن بدون قرينة فهو الشك5.
____________
4- تم تفسير ملاقاة الله باللقاء بعد الموت أي عند الانتقال من الدنيا إلى الآخرة، وذلك لأن معنى (لقي) هو أول المقابلة: «كلّ شيء استقبل شيئاً أو صادفه فقد لقيه، ويقال: التقى الفارسان إذا تحاذيا أو تقابلا. لسان العرب» وأول لقاء لله سبحانه هو عند الموت لهذا قلت: (مُلاَقُواْ رَبِّهِمْ) أي الموت. ولا تنصرف عن (الموت) إلى (يوم القيامة) إلا بقرينه ولذلك فعندنا قال r في حديث عبادة بن الصامت: «من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه» فهمت عائشة رضي الله عنها من لقاء الله «الموت» إلى أن وضح لها رسول الله المعنى. وتكملة الحديث كما رواه البخاري: «قَالَتْ عَائِشَةُ أَوْ بَعْضُ أَزْوَاجِهِ إِنَّا لَنَكْرَهُ الْمَوْتَ قَالَ لَيْسَ ذَاكِ وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا حَضَرَهُ الْمَوْتُ بُشِّرَ بِرِضْوَانِ اللَّهِ وَكَرَامَتِهِ فَلَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ فَأَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ وَأَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ. وَإِنَّ الْكَافِرَ إِذَا حُضِرَ بُشِّرَ بِعَذَابِ اللَّهِ وَعُقُوبَتِهِ فَلَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَهَ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ فَكَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ وَكَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ» أما (إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) فقد وضحتها الآية السابقة (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28)) أي الرجوع إلى الله بعد الحياة الثانية وهذا يعني يوم القيامة بعد البعث والنشور، فيكون المعنى كما ذكرنا يوقنون بالموت وبالبعث والنشور يوم القيامة.
5- ظنَّ: شك، وتأتي بمعنى اليقين من التدبّر بقرينة، وأما اليقين بالعيان أو المعاينة فلا يأتي إلا (عَلِمَ) قاله ابن منظور في لسان العرب. والظنّ «اليقين» مجازاً قاله الألوسي في تفسير روح المعاني.
و(مُلاَقُواْ رَبِّهِمْ) تعني يلقون ربهم أي مستقبلاً، والعرب تجري الإضافة وحذف النون بالنسبة للأسماء المبنية من الفعل التي في معنى الاستقبال، أي (مُلاَقُواْ رَبِّهِمْ) بمعنى يلقون ربهم مستقبلاً، ونحو هذا قوله تعالى (إِنَّا مُرْسِلُواْ النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ) القمر/ آية 27 ولما يرسلها بعد6.
____________
6- اختلف نحاة البصرة والكوفة حول تفسير الإضافة وحذف النون في مثل هذه الأسماء التي بمعنى الفعل الذي سيحدث مستقبلاً، فال نحويو البصرة إنَّ حذف النون هو بسبب ثقلها والعرب تحذف النون عند الثقل، واستشهد بقول الشاعر:
«هل أنت باعثُ دينار لحاجتنا» فأضاف «باعث» إلى الدينار ولما يّبْعَثْ، فأضاف وحذف التنوين. وكذلك قول الشاعر:
الحافظو عورة العشيرة لا يأتيهم من ورائهم نطف بنصب العورة
بنصب العورة وخفضها، فالخفض على الإضافة والنصب على حذف النون استثقالاً. أما نحويو الكوفة فقالوا: يجوز في هذه الأسماء الإضافة وحذف النون على اعتبار أنها أسماء من حيث اللفظ ويجوز فيها ترك الإضافة وإثبات النون على اعتبار أن لها معنى «يفعل» الذي لم يكن ولم يجب بعد بل حدوثه في المستقبل، فالإضافة فيه لِلَّفظ «اسم» وترك الإضافة للمعنى «يفعل» والأفصح هو ما في القرآن الكريم فلا تجوز القراءة بغيره لأنه هو المتواتر وحده.