كيفية إيجاد الشخصية القوية المؤثرة
2001/03/11م
المقالات
2,437 زيارة
كما أن الإنسان يولد ولديه قابلية التأثر فإن لديه أيضا قابلية القدرة على التأثير. ولكن هذه القدرة يملكها الإنسان إذا ملك فكراً وعمل على جعل فكره يسيطر على أفكار الآخرين.
فيصبح حينئذٍ شخصاً مؤثراً. والفكر القوي هو الفكر العميق وهو الأقرب إلى الصحة وإلى إقناع الناس. ولكن الفكر الأقوى منه وما بعده فكر أقوى منه هو الفكر المستنير وهو الفكر الصحيح. فالذي يملك فكراً عميقاً أو فكراً مستنيرا يؤثر في الناس والذي لا يملك فكراً عميقاً أو مستنيراً يكون سطحياً ولكنه يلجأ إلى أساليب خداعه للتأثير على الناس مثل الكذب والاحتيال والخداع والغش وشراء الذمم بالمال واستعمال القوة والبطش لإخضاع الناس لإرادته وإثارة القبلية والعشائرية.
ونرى الإنسان منذ ولادته وهو يتأثر ببيئته لأنه يكون حينئذ عديم الفكر ويقتبس كل شئ من بيئته. ولكنه عندما عند ما يصل إلى سن البلوغ يبدأ بالتفكير وتتكون لديه القدرة على التفكير وإعطاء الرأي واتخاذ القرار. والشخص الذي يفرض رأيه أو فكره على الآخرين ويتصدى للأفكار والآراء الأخرى ولضغط الآخرين ويصر على رأيه وفكره مهما لاقى من رد وصد ومقاومة وضغط فإنه يكون شخصا قويا وبعبارة أخرى شخصية قوية. فنريد أن نبحث هنا كيفية تقوية الشخصية وكيفية إيجاد الشخصية القوية والمؤثرة. فحتى نتمكن من بحث ذلك لا بد لنا من معرفة معنى الشخصية. إن الشخصية، حسب تعريفها الصحيح، هي الكيفية التي يجري عليها عقل الشيء والكيفية التي يجري عليها إشباع الحاجات العضوية والغرائز. فهي مكونة من عقلية وهي الكيفية التي يجري عليها عقل الشيء أو إدراكه ومن نفسية وهي الكيفية التي يجري عليها إشباع الحاجات العضوية والغرائز. فالعقلية أي كيفية إدراك الشيء تتم بربط المعلومات بالواقع أو الواقع بالمعلومات وإسنادها إلى قاعدة أو إلى عدة قواعد. فمعنى ربط المعلومات بالواقع هو أن يكون لدى الإنسان معلومات عن واقع ما وعندما يحس بهذا الواقع يربط هذه المعلومات بهذا الواقع حتى يفهمه، ومعنى ربط الواقع بالمعلومات هو أن الإنسان عندما يحس بواقع ما يحتاج إلى معلومات فيبحث عنها ويربطها بهذا الواقع ومن ثم يسندها إلى قاعدة أو إلى عدة قواعد، فعندئذٍ يحكم على الواقع فيعطي رأيا فيه ويتخذ قرارا بقبوله أو رفضه فيكون بذلك صاحب عقلية معينة. وإذا كانت القاعدة الفكرية التي يستند إليها هي العقيدة الإسلامية فإنه يكون ذا عقلية إسلامية فيحكم على الأشياء ويعطي رأيا ويتخذ قرارا من زاوية العقيدة الإسلامية أي يستخدم المفاهيم الإسلامية المنبثقة من هذه العقيدة. وعندئذٍ يكون مؤثرا لحد ما ولكن كلما قويت عقليته زاد تأثيره وقوي، وقل تأثره بما عند الآخرين. ولنتناول الآن كيفية تقوية العقلية. إن هذه الكيفية تتم بالأمور التالية:
1ـ التزود بالثقافة والمعلومات عن طريق القراءة وعن طريق وسائل كسب المعلومات المختلفة. ويلحق بها أخذ الدروس عن طريق التلقي الفكري أي بإنزال الأفكار على الوقائع.
2ـ التفكير بالوقائع ومواصلة ربطها بالمعلومات وإدامة قياسها بالعقيدة.
3ـ النقاش والجدال مع الآخرين بالوقائع وربط المعلومات بها وإسنادها إلى العقيدة.
4ـ الخطابة والمحاضرة؛ فالخطيب أو المحاضر يربط المعلومات بالوقائع ويسندها أيضا إلى العقيدة. ويلحق بذلك التدريس عن طريق إعطاء الأفكار منزلة على الوقائع.
5ـ الكتابة؛ فالذي يحاول أن يكتب موضوعا عن واقع ما يلجأ إلى القراءة والبحث والتنقيب والتفكير حتى يحصل على معلومات ليربطها بالواقع ومن ثم يسندها إلى العقيدة ويلحق بذلك تسجيل الأشرطة وما شابه ذلك من وسائل حديثة.
فإذاً كون المسلم لديه عقلية إسلامية بجعل العقيدة الإسلامية أساساً لفهم الأشياء والوقائع ولكنه لم يسع لتقويتها بهذه الأمور، فإنه تكون لديه عقلية إسلامية ولكن لا تكون هذه العقلية قوية. فعلى صاحب العقلية الإسلامية أن يعمل على تقوية عقليته وخاصة حامل الدعوة لأنه يتصدر الأمة للدفاع عن قضاياها وللتصدي لأعدائها ولحل مشاكلها وللرقي بها وبالتالي يعمل على قيادتها، فإن لم يكن صاحب عقلية قوية فلن يتمكن من ذلك، فمن يحمل الدعوة بحق فإن عقليته ستكون قوية بشكل آلي لأنه يقوم بالنقاش والجدال لإقناع الآخرين بصحة رأيه حتى يتمكن من قيادتهم ولإدحاض الآراء المخالفة لرأيه والأفكار المضادة لأفكاره ويضطر للمراجعة والبحث والتدقيق أكثر وأكثر في المصادر والمراجع ويتابع الأحداث ويدرس الوقائع حتى يحكم عليها من زاوية عقيدته ويحاول مخاطبة الجماهير حتى يوجد رأيا عاما لأفكاره وآرائه ويقوم بالكتابة بكافة وسائل النشر. فبذلك تصبح عقلية حامل الدعوة قوية. وبعد ذلك يعمل بجد واجتهاد واهتمام لتصبح عقليته عقلية مبدعة حتى يصير رجل دولة وقائد أمة، لأن من يحمل هذه الصفة يكون لديه شعور فائق بالمسؤولية ويتمتع بعقلية مبدعة في حل المشاكل والتعقيدات ويقنع الناس بالسير معه لتطبيق هذه الحلول ويرسم الخطط ويضع الأساليب لذلك.
ويأتي سؤال عن دور الذكاء في بناء العقلية وفي تقويتها، والجواب على ذلك هو: إن معنى الذكاء هو “سرعة الإحساس وسرعة الربط”؛ فسرعة الإحساس تعني سرعة نقل الواقع إلى الدماغ بواسطة الحواس، وسرعة الربط هي سرعة ربط المعلومات بالواقع. فالذكاء يفيد في سرعة بناء العقلية وفي تقويتها، لأن صاحبه يتمكن من نقل الواقع بواسطة حواسه بسرعة ويربط المعلومات بهذا الواقع بسرعة. فأعلى الناس درجة في الذكاء يدرك الأمور والأشياء ويفهم النصوص أو يحفظها من مرة واحدة، والأقل ذكاء يحتاج إلى أكثر من مرة، وكلما قل ذكاء الشخص احتاج إلى مرات أكثر حتى يدرك الأمور والأشياء ويفهمها أو يحفظها. وبإمكان الشخص أن يطور ذكاءه؛ وذلك بالمراس وبمحاولة تعويد نفسه على سرعة التفكير، فيتخلى عن البطء في نقل الواقع إلى الدماغ بواسطة حواسه وعن البطء في ربط المعلومات بالواقع مع العمل على حصر الذهن فيما يفكر به. فتشتت الذهن يؤخر إدراك الأمور والأشياء ويؤخر فهم النصوص أو حفظها. وسرعة التفكير هذه توجد سرعة البديهة وسرعة الملاحظة، ويفيد ذلك في النقاش والحوار والخطابة والمحاضرة وفي الكفاح السياسي. وسرعة التفكير لا تتعارض مع التفكير العميق والتفكير المستنير. فالشخص وهو يربط المعلومات بالواقع يتعمق بهذا الواقع وبدقائقه بسرعة، وكذلك ينظر إلى ما يتعلق بهذا الواقع وما حوله بسرعة حتى يتوصل إلى الحقيقة. فالذكاء وسرعة البديهة وسرعة الملاحظة والتفكير العميق والتفكير المستنير تجعل صاحب العقلية الإسلامية يتبوأ مقاعد أعلى وتؤهله للقيادة.
هذا بالنسبة للشق الأول من الشخصية. وأما الشق الثاني منها فهو النفسية وهي الكيفية التي يجري عليها إشباع الغرائز والحاجات العضوية.
وهذه الكيفية تتم بربط دوافع الإشباع بالمفاهيم، وتسمى الميول وهي عينها النفسية. فالطاقة الحيوية عند الإنسان تدفعه لإشباع غرائزه وحاجاته العضوية، وهذه موجودة عند الحيوان أيضا. فالحيوان يندفع لإشباع غرائزه وحاجاته العضوية بدون مفاهيم، لأنه فاقد العقل. وكذلك الإنسان عندما لا يندفع للإشباع حسب مفاهيم معينة أو عندما لا يملك مفاهيم معينة فإنه يندفع للإشباع كالحيوان. فتصرفات الإنسان إما أن تكون نتيجة مفاهيم معينة، وإما أن تكون نتيجة اندفاع حيواني.
وكما نعلم فإن الغرائز ثلاث وهي: غريزة البقاء، وغريزة النوع، وغريزة التدين. ولها مظاهر كثيرة. فمن مظاهر غريزة البقاء: حب التملك، والدفاع عن النفس، وحب السيادة، وحب الظهور، ومظهر القطيع، وحب الاستطلاع، والميل لإقامة علاقة مع الغير، والخوف، وحب أن يكون حراً وطليقاً، وحب إثبات الذات، وحب ترجيح النفس على الغير أي الأثرة، والميل لتفضيل الغير على النفس أي الإيثار، والميل لمساعدة الغير. ومن مظاهر غريزة النوع: الميل الجنسي، والأبوة، والأمومة، وحب الأقارب، وحب الأطفال. وأما غريزة التدين فمن مظاهرها: العبادة، والتقديس، والتعظيم، والخنوع، والخشوع. ونفهم مظاهر غريزة التدين من تعريفها؛ وهو الشعور بالعجز والاحتياج للخالق المدبر. والحاجات العضوية هي الجوع، والعطش، والتنفس، والإخراج. وهناك أمثلة كثيرة تتعلق بمظاهر الغرائز قد وردت في القرآن الكريم؛ فنرى القرآن الكريم يعالجها ببيان أحكامها وبتقوية الصلة بالله وبالوعد والوعيد وبالترغيب والترهيب، فيذكر الناس بما وعدهم الله من جنة ونعيم، ويتوعد الذين يخالفون أمره عند إشباع الغرائز والحاجات العضوية بالعذاب والنار.
وتقوية الصلة بالله تتحقق بالتفكير بما وعد الله وربط ذلك عند إشباع الحاجات العضوية والغرائز، وبتذكر ذلك دائما، ويتحقق ذلك أيضا بالاستزادة من العبادات؛ وذلك بالقيام بالسنن والنوافل فوق الواجبات، وكذلك بالإكثار من قراءة القرآن ومن تدبره والتفكُّر في آياته وتذكرها دائما، وبقراءة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم من ثبات وصبر وإيثار وزهد بالحياة الدنيا وبتحد للكافرين وعدم خوف منهم وتحمل الأذى في سبيل الدعوة، وكذلك بقراءة حياة الصحابة رضوان الله عليهم وكيف صبروا على الأذى في سبيل الدعوة وضحوا بأموالهم وأنفسهم في سبيلها، وكانوا لا يبخلون عليها بشيء، ويصدقون الله في اللقاء، ويؤثرون الرسول والدعوة والمسلمين على أنفسهم، فاستحقوا رضوان الله وغفرانه لهم ومدحه لهم في كثير من المواقع. والتشبث بحمل الدعوة والقيام بأعمالها أكثر وأكثر يقوي الصلة بالله، لأن حامل الدعوة يدعو الناس إلى عبادة الله واتباع أوامره والانتهاء عن نواهيه وتحكيم شرعه ومحاربة أعدائه، فكل ذلك يوجد الإنسان دائما في جو إيماني؛ فهو دائما يتذكر الآيات ويذكر الناس بها، فهذا يثير في نفسه الإيمان. ونرى الشخص الذي يهمل الدعوة أو يتركها تضعف نفسيته، فينشغل كباقي الناس في أمور دنياه. وبالتالي تصبح نفسيته ضعيفة، وإذا بقي عنده شيء من الأفكار فإنه سيجترها اجتراراً فلا يستطيع أن يلتزم بها ولا يلزم غيره بها لأن نفسيته أصبحت ضعيفة.
وقوة الصلة بالله معناها قوة الإيمان. فالإيمان بالله وبما أنزل وبما أرسل هو التصديق الجازم بذلك عن دليل مع مطابقته للواقع. فيتحدث القرآن الكريم عن زيادة الإيمان وترد بمعنى قوة الإيمان. فالإيمان لا يزيد ولا ينقص من حيث التصديق الجازم، لأن التصديق الجازم إذا نقص يكون معناه دخول الشك والريب إليه وهذا كفر. فمن يصدق تصديقا جازما مطابقا للواقع عن دليل فهو مؤمن ولكن زيادة إيمانه تكون بقوة الصلة بالله التي تحدثنا عنها، فيقول تعالى: (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل) (آل عمران 173) أي قويت صلتهم بالله بتذكرهم بأن الله كافيهم وأنه هو القادر والناصر والنافع والضار ولا يصيبهم إلا ما كتب الله لهم. وكذلك تكرر موقف المؤمنين هذا في حصار الخندق حيث قال تعالى وهو يصف قوة صلة المؤمنين به: (ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيماناً وتسليماً) (الأحزاب 22). ويمن الله عليهم في حادثة الحديبية عندما أنزل السكينة عليهم لأنهم صدقوا الله وقويت صلتهم به بقوله: (هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم) أي ليزدادوا صلة به مع وجود إيمانهم به، وذلك بتذكرهم بأن لله جنود السماوات والأرض وثقتهم بأن الله ناصرهم. ويقول في آية أخرى وهو يتحدث عن الصلة بالله بأنها تقوى بذكره وبقراءة القرآن أو الاستماع إليه (إنما المؤمنون الذين إذا ذُكر الله وَجِلَتْ قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون) (الأنفال 2). ويقول عن الكافرين والمنافقين بأن القرآن لا يزيدهم إيماناً لأنهم ليسوا مؤمنين بالقرآن أصلا: (وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيماناً فأما الذين ءامنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون @ وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون) (التوبة 124ـ125) فالآيات تذكِّر بالصلة بالله فتزيد المؤمنين إيماناً وصلة بالله وثقة بوعده، ولكن الذين لا يؤمنون بالآيات يزيد كفرهم وعنادهم كلما سمعوا الآيات تتلى عليهم لعدم إيمانهم بالأصل.
فمن هنا نستنتج بشكل واضح أن زيادة الإيمان هي قوة الصلة بالله، وهي التي توجد النفسية القوية. فالنفسية تقوى بتقوية صلة العبد بربه فيلتزم بالحلال والحرام عند إشباع غرائزه وحاجاته العضوية ويستعد للتضحية بغرائزه وحاجاته العضوية في سبيل الله وفي سبيل الدعوة ويسترخص تلك الغرائز والحاجات العضوية ويستعد للتخلي عن إشباعها إلا ما يبقيه على قيد الحياة ويستعد للتضحية بنفسه وبماله في سبيل الدعوة ويتحمل الأذى والتعذيب والتشريد والسجن في سبيلها. ولكن إذا ضعفت صلته بالله أي ضعف إيمانه تضعف نفسيته وتقل تضحيته ويبخل على الدعوة بنفسه وبماله لأنه حينئذٍ يؤثر إشباع غرائزه وحاجاته العضوية ويريد أن يشبعها أكثر وأكثر بحيث يصل إلى إنسان لا يشبع والعياذ بالله.
ومراعاة سلم القيم والأولويات يكون حسب قوة النفسية. فصاحب النفسية القوية يجعل الله ورسوله والجهاد في سبيله وحمل الدعوة وأعمالها الجزئية من اتصالات مع الأفراد لكسبهم أو مع الجماهير لتوعيتهم ولكسب تأييدهم ومن توزيع النشرات وما يصدر من كتب وكتيبات ومجلات لتوعية الناس ومن بذل المال بسخاء أكثر مما ينفقه على ملذاته وإشباعاته الزائدة. فصاحب النفسية القوية لا يمكن أن يجعل نفسه أو زوجته أو أولاده أو أقاربه أو ماله أو تجارته أو عمله فوق أعمال الدعوة فمن يفعل ذلك فمعنى ذلك أن نفسيته ضعيفة. وعليه أن يعمل على تقويتها بتقوية الصلة بالله، ويلزم لهذه التقوية بلورة المفاهيم المنبثقة عن العقيدة. فالمفاهيم هي الأفكار المتصوَّر واقعها والمدرَك معناها والمصدَّق بها. فعلى هذا الشخص أن يعمل على تصور وقائع هذه الأفكار ويحاول أن يدرك معانيها بشكل أدق واعمق وأن يعمل على تقوية تصديقه بها؛ وذلك عن طريق مطابقتها للواقع والتعمق في أدلتها. فعبد الله بن رواحه في مؤتة تردد في الإقدام لحدوث ضعف طارئ على نفسيته عندما خاف على نفسه بعدما رأى الموت ولكنه عالج هذا الخلل الطارئ بمحاولة تصور الأفكار في الواقع عندما تذكر بأن سبب الموت هو انتهاء الأجل فتذكر بأن النفس إن لم تمت في ساحة الوغى فإنها ستموت على الفراش فأقدم وأزال التخوف المتعلق بغريزة البقاء. والمسلمون عندما فروا في حنين ذكرهم الرسول بأنه هو النبي لا كذب، وذكرهم العباس عمه ببيعتهم لنبيهم فتذكروا المفاهيم التي آمنوا بها من قبل وأعطوا المواثيق لرسول الله بناء عليها. ولهذا فإن التذكير بالمفاهيم وبالمواثيق والالتزامات تنفع من تركزت عنده هذه المفاهيم ولكنه غفل عنها لظرف ما ولهذا قال تعالى: (وذكر فان الذكرى تنفع المؤمنين) (الذريات 51).
فالغرائز أجزاء من ماهية الإنسان فكل غريزة أصل ولها أشكال تظهر بها فتسمى مظاهر غريزية وهي التي عددنا قسماً منها. والحاجات العضوية اصل في الإنسان وبدونها يموت الإنسان. فإذا وجدت لدى الإنسان مفاهيم منبثقة عن وجهة النظر في الحياة أي عن العقيدة وربط هذه المفاهيم بمظاهر الغريزة أو بالحاجات العضوية تتكون لديه نفسية معينة. وعندما تكون وجهة النظر هي العقيدة الإسلامية والمفاهيم نابعة من هذه العقيدة عند الإشباع تتكون لدى الإنسان نفسية إسلامية. وعندما يلتزم الإنسان بالمفاهيم هذه ويصر عليها ولا يتنازل عنها تتكون لديه نفسية قوية وعندئذٍ تكون إرادته قويه يستطيع أن يفعل ما يشاء ويصر على ما يشاء وينفذ ما يشاء ويتحدى الآخرين ويصبر على أذاهم ويقاوم ضغوطهم ويتغلب عليها بل يخضعهم لإرادته. فمثلاً يوجد عند الإنسان حب التملك فيريد أن يتملك بيتاً أو شيئاً آخر فتأتيه إغراءات لأن يحصل عليه بالربا أو أن يحصل عليه من منح الدولة له مقابل تنازله عن دعوته أو من كنيسة حتى يتنازل عن دينه فإذا قاوم الإنسان هذه الإغراءات ورفضها لأن مفاهيمه تحرم عليه كل ذلك وحرم نفسه من البيت ولو عاش في كوخ ولا يتنازل عن دعوته أو عن دينه، فيكون هذا الشخص صاحب نفسية قوية، ونقول بأن لديه إرادة قوية.وهكذا الأمر في كافة مظاهر الغرائز والحاجات العضوية عندما يلتزم المسلم بمفاهيم الإسلام ولا يتنازل عنها فإنه يكون صاحب نفسية إسلامية قوية. ومثلاً يحب الإنسان أن يبقى على قيد الحياة فإذا هدده النظام بالموت أو بالأذى الشديد وهو يحب أن يحافظ على نفسه من الأذى وهذا مظهر غريزي أو هدده بالسجن وهو يحب أن يبقى طليقا فإذا أحب الله وأحب لقاءه وأحب ما وعده الله في الآخرة أكثر من حبه لنفسه وأكثر من حبه للحرية ومن هذه الدنيا القصيرة لأنه سيكون سعيداً في الآخرة فإنه سيثبت أمام الظالمين ولا يتنازل عن دعوته حتى الموت. وكذلك فان الإنسان يحب المال والملك فإذا هدده النظام بمصادرة أمواله وأملاكه إن لم يتنازل عن الدعوة فصاحب النفسية القوية لا يتنازل عن دعوته ويترك ماله وملكه في سبيل دعوته كما فعل صهيب رضي الله عنه. أو أن الإنسان يحب المال والدعوة تطلب منه أن يؤثرها على نفسه فهل يجود أم يبخل على الدعوة؟ فكلما كانت صلته بالله أقوى كان إنفاقه على الدعوة أكثر، ولهذا كان إنفاق أبي بكر رضي الله عنه على الدعوة أكثر من غيره. والإنسان يحب أمه أو أباه أو أولاده أو زوجته وهي مظاهر غريزية فمصعب بن عمير رضي الله عنه رجح الدعوة على أمه وعلى نعيم الدنيا، وكذلك سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه رجح الدعوة على أمه لأن صلتهما بالله كانت قوية، ولكن البعض ضعف أمام زوجته وأمام أولاده فلم يهاجروا ولم يذهبوا إلى الجهاد فنزل فيهم قول الله تعالى: (يا أيها الذين ءامنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم فاحذروهم) (التغابن 14). ولخص القرآن الكريم كل ذلك فيما يتعلق بالنفسية وقوتها وضعفها بهذه الآية الكريمة: (قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين) (التوبة 24). ونرى المؤمنين الذين كانت صلتهم بالله قوية قد ثبتوا وتجاوزا الخوف من الأعداء لأنهم علموا أن الله كافيهم وهو على كل شي قدير؛ فيقول الحق تعالى في حقهم: (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل) (أل عمران 173) إلى أن يقول: (إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافوني إن كنتم مؤمنين) (آل عمران 175). فعالج مظهر الخوف بالإيمان وبتقوية الصلة بالله. فمن يؤمن بأن الأجل محدود قد حدده الله ولا يمكن لأية قوة أن تقضي على الإنسان قبل أن يأتي أجله، وأن الرزق محدود قد حدده الله ولا يمكن لأحد أن ينقص من رزق الآخر مقدار قطمير، وأن النافع والضار هو الله ولا يمكن لأية قوة أن تنفع أو تضر إلا بإذن الله، فالذي يعلم ذلك عِلم اليقين ينزع من نفسه الخوف فيثبت أمام الأعداء وأمام الظالمين والطغاة، فلهذا السبب يقول رب العالمين: (فلا تخافوهم وخافوني إن كنتم مؤمنين).
وفيما يتعلق بالإيثار يقول رب العالمين في الأنصار: (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون) (الحشر 9). فالإيثار يحصل عندما تكون الصلة بالله قوية وشح النفس والبخل آتيان من ضعف الصلة بالله ولهذا قال تعالى: (ومن يوق شح نفسه) أي إن في النفس قابلية الشح أي الأثرة كما أن فيها قابلية الإيثار كما قال تعالى في بداية الآية: (ويؤثرون على أنفسهم)فبين في هذه الآية مظهرين من مظاهر غريزة البقاء وبين علاج المظهر السلبي منهما وهو الأثرة بمدح من يقي نفسه من الشح أي من الأثرة بأنه هو المفلح أي بأنه هو الفائز بالجنة. وهدد البخلاء بالزوال فقال: (ها أنتم هؤلاء تُدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم) (محمد 38).
وشي آخر يقوي النفسية وهو ضرب الأمثلة من الشخصيات الإسلامية القوية؛ ابتداءً من سيد الأنام والمرسلين وإمام المتقين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لأنه قدوة لنا ومن الصحابة الكرام الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه، ومروراً بالتابعين وتابعي التابعين، وانتهاءً بالأبطال العظام عبر تاريخ الإسلام إلى يومنا هذا، ومنهم حملة الدعوة المعاصرين الثابتين الذين بذلوا الغالي والنفيس في سبيل الدعوة ولاقوا الأمرين وكافة صنوف التعذيب والإيذاء وصبروا ولم يبدلوا تبديلاً. فالله سبحانه وتعالى كان يُذكِّر رسوله بثبات الرسل السابقين ويضرب أمثلة على ثباتهم (وكلاًّ نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبِّت به فؤادك) (هود 120) وكان يُذكِّر المؤمنين بالمؤمنين السابقين الذين ثَبَتُوا وضحوْا مثل أصحاب الأخدود.
وغيرهم من المؤمنين الذين آمنوا مع الرسل وثبتوا على دعوة الحق فأخبرنا الله بهم قائلاً: (وكأين من نبيٍّ قاتل معه رِبِّيُّونَ كثيرٌ فما وَهَنُوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضَعُفُوا وما استكانوا والله يحب الصابرين @ وما كان قولهم إلا أن قالوا ربَّنا اغفرْ لنا ذُنوبَنا وإسرافَنا في أمرنا وثَبِّتْ أَقدامَنا وانصرْنا على القوم الكافرين @ فآتاهم الله ثوابَ الدنيا وحُسْنَ ثوابِ الآخرة والله يحب المحسنين) (آل عمران 146ـ 148). فبهذا الإيمان والثبات والصبر وبهذه التضحية نال هؤلاء المؤمنون السعادة في الدنيا وفي الآخرة. ونرى المتخاذلين والذين لا يصبرون ولا يثبتون نراهم يَشْقَوْن ويتعسون ويرضوْن بل يفضلون العيش في الذل والهوان ويخدعون أنفسهم بمعاذير يختلقونها فرضُوا بأن يكونوا مع الخوالف وانغمسوا في أمور المال والأولاد والأزواج. وأريد أن أشير إلى نقطة أخيرة تتعلق بهذا الموضوع هي أن انشغال الإنسان بأمور دنيوية أخرى بحيث تجعله يشغل ذهنه ووقته بها تضعف شخصيته، وكذلك حبه لأشياء أخرى أكثر من الدعوة تضعف شخصيته وكلما ازداد الشاب حباً لدعوته انشغل بها أكثر وأقبل بشغف على دراسة الأفكار والتعمق بها وعمل على تقوية عقليته بالطرق التي ذكرناها. وكلما ازداد طموحه لأن يكون قائدا لامته وكلما ازداد شعوره بالمسؤولية ازداد حيوية ونشاطاً وتضحية وبذلاً وعطاءً وترفعت نفسه عن الشهوات والملذات وحب الدنيا ومتاعها الزائل فقاده هذا الطموح إلى تقوية نفسيته.
وبهذا الشكل يصبح الشاب شخصية قوية مؤثرة ولكن يبقى صاحب الشخصية الضعيفة شخص متأثر يسير مع التيار الجارف أحياناً، ويتوقف أحياناً فيعزل نفسه عن الأحداث ولا يقوم يقاوم التيار ولا يعمل على إثبات رأيه والتصدي لآراء الآخرين. وبعد، فهل يجوز للشاب بعدما أدرك كل ذلك وأدرك فرض حمل الدعوة بل أدرك فرض قيادة الناس بالإسلام أن يترك الساحة ويخلي الميدان لأشخاص تافهين سطحيين يتحكمون في أمر العامة ويقودونهم بالكذب والاحتيال وبالغش والخداع وبشراء الذمم بالمال وبإثارة النعرات الجاهلية والعصبيات ويكتفي هذا الشاب بالقيام بأعمال قليلة من أعمال حمل الدعوة ويترك الصراع العنيد مع هؤلاء الطغاة تجنباً للسجن والملاحقة والمطاردة والتشريد والأذى والضرر وحفاظاً على ما هو زائل لا محالة من مال وبدن وأولاد وعيال؟ إن صاحب الشخصية القوية من حملة الدعوة يأبى إلا أن يكون مؤثراً ومصارعاً عنيداً للكفر وللطغيان ويصمد في الميدان السياسي وفي الصراع الفكري حتى يظهره الله بالحق الذي هو عليه أو يهلك دونه كما قال رسول الله ولا يضيره ما سيصيبه من أذىً وضرر ويعتبر ذلك طبيعياً سواء حمل الدعوة وصارع الطغاة أم قعد فإن ما سيصيبه سيصيبه لا مفر منه ولأن الله قال: (أم حَسِبتم أن تدخلوا الجنة ولَمّا يَأتكم مَثَلُ الذين خلوْا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزُلْزِلُوا حتى يقول الرسولُ والذين ءامنوا معه متى نصرُ الله ألا إن نصرَ الله قريب) (البقرة 214) أي إن نصر الله قريب بعد هذا البلاء وإن دخول الجنة يتحقق بعد هذا البلاء أيضا. وكيف وصاحب هذه الدعوة يحمل فكراً عميقاً ومستنيراً وهو صاحب مبدأ صحيح ويحتم ذلك على حامله أن يكون شخصاً قوياً لا يخاف في الحق لومة لائم ولا يهاب جموع الناس من أن يصدع بالرأي الصائب، كيف يتحمل وجود الرويبضات وهي تنطق وتتكلم في أمر العامة فتقود المجتمع والدولة بالكذب والاحتيال وبالإرهاب وسفك الدماء؟ فصاحب الشخصية القوية يكون شعوره بالمسؤولية عن أمته قوياً وتكون تضحياته عظيمة ونشاطه فائقا، فهو بحق شمعة تحترق لتضئ الطريق للناس وتبدد الظلام لا يلتفت إلى الآخرين عملوا أو قعدوا، فهو لا يرجو جزاءً ولا شكوراً من أحد من الناس، ولا يَمُنُّ عليهم بل إنه يعلم أن المنَّ لله وأنه ملاقٍ ربَّه يوم القيامة وأنه سيجزيه الجزاء الأوفى. وعندما يجعل الرحمن من صفات عباده الذين يقولون: (واجعلنا للمتقين إماماً) (الفرقان 74) ففي ذلك إشارة للمؤمنين لأن يكونوا قادة الناس. فقمة التقوى أن تتصدى للظالمين وتقارعهم، فيقول إمام المتقين وقدوتهم محمد صلى الله عليه وسلم: «أفضل الجهاد كلمة حق تقال عند سلطان جائر». فالمتقي والذي يريد أن يكون إمام المتقين يكون السباق في كل عمل بر وتقوى وفي كل عمل صالح وفي كل فرض وواجب، فهو يسارع في الخيرات فيرعى شؤون الناس بالإسلام ويسهر على رعايتهم ويعمل على تحقيق مصالحهم ويتبنى قضاياهم ويذود عنهم ويقاتل دونهم ويحمي حماهم فهو يقوم بأعظم الأعمال. فالذي يقوم بحمل أعباء أية مسؤولية من مسؤوليات حمل الدعوة وتسيير شؤونها فهو أحد أئمة المتقين وهو أعظم درجة من الذين يتهربون من تحمل المسؤوليات ويكتفون بالقيام بأقل التكاليف وبأصغر الأدوار. فلا يقول أحد أنا لا أريد أن أكون رئيساً أو إنه لا يوجد عندي حب للرئاسة؛ فالمسألة ليست إشباعاً لأحد مظاهر غريزة البقاء ألا وهو حب السيادة وإنما المسألة هي القيام بفرض فرضه الله حبّاً لسيادة الإسلام وبغضاً لسيادة الكفر وتحكُّم الظالمين وكرهاً للتافهين الذين يتحكمون في أمر العامة ويقودونها إلى مهاوي الجحيم. فحرام علينا أن نتركهم وما يصنعون ولا نصارعهم ليل نهار ونقول لا نريد أن نتدخل في السياسة فهي كذب ودجل أو نتصنع تقوى زائفةً ونحني رقابنا إلى جنب ونقول هذه أيام فتن يجب أن نبعد عنها. مع العلم أن الحق بائن والباطل بائن فيجب على المسلم أن يقف بجانب حملة راية الحق بقوة وأن ينصرهم. فلو كان هناك دولة إسلامية ويقودها مخلصون فإن قلتَ إن هؤلاء الرجال قد أَدَّوْا فرض الكفاية بقيادتهم الدولة والمجتمع ربما يقبل منك ذلك. ولكن يبقى فرض آخر وهو محاسبة هؤلاء القادة والحكام. فلنكنْ من الذين وعدهم الله بالاستخلاف والتمكين في الأرض (وعد الله الذين ءامنوا منكم وعملوا الصالحات لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم ولَيُمَكِّنَنَّ لهم دينَهم الذي ارتضى لهم ولَيُبَدِّلَنَّهُمْ من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً) (النور 55)
أبو أسيد ـ ألمانيا
2001-03-11