مع القرآن الكريم: الربـا جـريمـة كبـرى (2)
2000/11/11م
المقالات
1,626 زيارة
( يا أيها الذين آمنوا اتقوا اللّه وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين (278) فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من اللّه ورسوله وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تُظلمون(279) وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون(280) واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى اللّه ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون(281) ) (البقرة).
========================================
-
في الآية الأولى خطاب من الله سبحانه للمؤمنين أن يتقوا الله، أي يقوا أنفسهم عذاب الله بإقلاعهم عن الربا.
ثم يبين الله سبحانه في آخر الآية أن الإسلام الذي تؤمنون به يوجب عليكم ذلك.
]يا أيها الذين آمنوا[ خطاب للمؤمنين.
]اتقوا الله) أي قوا أنفسكم عذاب الله.
(وذروا ما بقي من الربا) أي اتركوا الربا الذي لم تقبضوه فلا تأخذوه بل رأس مالكم فقط، ومفهومه أن الذي قبضوه قبل التحريم لا يطالبون به.
(إن كنتم مؤمنين) أسلوب في العربية لإثارة المخاطب وحثه على تنفيذ ما يطلب منه، فالخطاب بدأ للمؤمنين وانتهى بتذكيرهم أن الإسلام الذي آمنوا به يوجب عليهم ترك الربا، كما تقول لمن تريد إثارة نفسه (إن كنت رجلاً فافعل ذلك) وأنت مدرك أنه رجل، فكأنك تذكره برجولته وتقول له إن الرجولة توجب عليك فعل كذا.
-
ثم بعد ذلك بيان وبلاغ من رب العالمين أنكم بين أمرين:
أ ـ أن تلتزموا أمر الله وتتوبوا عن الربا ولا تعودوا إليه، فإن لكم رؤوس أموالكم دون رباً وتكونون بذلك لا تظلمون ولا تظلمون، فلا تظلمون غرماءكم بأخذ الزيادة ولا تظلمون من قبلهم فلا يردون إليكم رأس مالكم أو يماطلونكم به.
ب ـ أو تتيقنون وتعلمون أنكم بأخذكم الربا تكونون في حالة حرب مع الله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وسلم. وهو تهديد عظيم لآكلي الربا وبيان بليغ لفظاعة جريمة الربا، ومن يقدر على حرب الله ورسوله؟!
روي أنها لما نزلت قالت ثقيف: لا يد لنا بحرب الله تعالى ورسوله، وكانوا قد طلبوا رباهم إلى بني المغيرة فيما أخرجه ابن أبي حاتم عن مقاتل قال: نزلت هذه الآية في بني عمرو بن عمير بن عوف الثقفي وأخوة له كان لهم رباً على بني المغيرة من بني مخزوم كانوا يداينون بني المغيرة في الجاهلية، وبعد الإسلام طلبت ثقيف ما كان لهم من ربا على بني المغيرة وكان مالاً عظيماً، فقال بنو المغيرة: والله لا نعطي الربا في الإسلام وقد وضعه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم عن المسلمين. فعرف شأنهم معاذ بن جبل ويقال عتاب بن أسيد ـ وكان والياً من قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة ـ فكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فأنزل الله تعالى الآية: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا) فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك: “أن اعرض عليهم هذه الآية فإن فعلوا فلهم رؤوس أموالهم وإن أبوا فآذنهم بحرب من الله ورسوله”(1).
وأخرج أبو يعلى عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أنها لما نزلت قالت ثقيف المقولة التي ذكرناها أولاً: لا يد لنا بحرب الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم.
-
بعد أن بين الله سبحانه في الآية السابقة التحريم القاطع للربا وأن ليس لأهله إلا رؤوس أموالهم لا يظلمون ولا يظلمون، بعد ذلك ذكر الله سبحانه حالة تترتب على المطالبة برأس المال فقد يكون المدين في حالة إعسار ولا يستطيع دفع رأس المال الذي اقترضه من الدائن.
هذه الحالة عالجتها الآية الكريمة بإمهال المدين المعسر حتى يصلح حاله ويستطيع السداد، ثم يندب الله سبحانه الدائنين أن يصنعوا خيراً من الإمهال فيضيفوا له عفوا عن المعسر برأس المال أو جزء منه، وعندها يكون لهم حسن العاقبة في الدنيا والآخرة بما يحصلون عليه من خير وأجر.
ولقد كان المدين المعسر في الجاهلية يباع أي يسترق بسداد دينه، فكانت رحمة الله سبحانه بهذا الإسلام العظيم أن يمهل المدين المعسر إلى يسار من أمره حتى يسدد دينه، ليس هذا فحسب بل حثّ الدائنين على الصدقة على المعسر زيادة على الإمهال بوضع دينه كله أو بعضه عنه فالحمد لله رب العالمين.
(وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة) كان هنا تامة أي إن وجد مدين معسر فأمهلوه حتى يصبح في يسر يستطيع معه السداد.
(عسرة) أي ضيق الحال من جهة عدم المال ومنه جيش العسرة.
(ميسرة) من اليسر واليسار أي وجود مال.
وباعتبار كان تامة يكون الإمهال ليس خاصاً في مدين الربا فقط عند مطالبته برأس المال إن كان معسراً بل في كل مدين ما دام معسراً فيمهل إلى اليسر.
ولو كانت خاصة بالمدين في رأس مال الربا فقط وليس في كلّ مدين لكانت الآية (وإن كان ذا عسرة) وفي هذه الحالة يكون اسم كان ضميراً عائداً على المدين المطالب برأس مال الربا، ولكن الآية ليست كذلك بل (وإن كان ذو عسرة) أي إن وجد مدين معسر وهذه تنطبق على كلّ مدين وصفه أنه معسر.
وهي وإن نزلت في الذين يتعاملون بالربا إلى أن جاء الإسلام فأبطله وأوجب رأس المال وحرم الربا كما قال الكلبي في روايته إنها نزلت حين قالت بنو المغيرة لبني عمير: نحن اليوم أهل عسرة فأخرونا إلى أن ندرك الثمر فأبوا أن يؤخروهم، فنزلت وهذه تكملة قصة الربا الذي كان بين بني المغيرة وبني عمير التي ذكرناها في تفسير الآية السابقة، أي أنها نزلت في المطالبة برأس مال الربا الذي كان بينهم.
إلا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب و(ذو عسرة) لفظ عام فهي في سياق الشرط، ولذلك فهي تنطبق على إمهال كل مدين معسر سواء أكان في رأس مال الربا أم في غيره.
(فنظرة إلى ميسرة) الفاء داخلة على جواب الشرط (وإن كان ذو عسرة) ونظرة أي إمهال، وهي مبتدأ خبره محذوف أي فعليكم نظرة.
والإمهال هنا للوجوب وذلك لأن قوله تعالى بعده: (وأن تصدقوا خير لكم) يفيد أن الأمر الأول (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة) هو على الوجوب وذلك بدلالة ذكر (تصدقوا) بعده وذلك لأن الأمر بشيء ثم اتباعه بتطوع في جنس هذا الشيء يكون قرينة على أن الأمر الأول للفرض كأن تقول (اكتب هذه الصفحة ثم تطوع بأخرى) فإن ذلك يعني أن الأمر الأول (اكتب هذه الصفحة) على الإلزام أي فرض بدلالة التطوع بعده كما هو مثبت في بحث القرائن في الأصول. والصدقة على المعسر فوق إمهاله هي إعفاؤه من الدين أو جزء منه.
ولا يقال إن (وأن تصدقوا) يعود للإمهال، لا يقال ذلك لأنها عطفت عليه وهذا يعني أنها زيادة عليه أي إمهال وشيء آخر كما تقول: أدِّ الزكاة وتصدق، فالمطلوب أداء الزكاة وشيء زائد فوقها أي صدقة تطوع زيادة.
(إن كنتم تعلمون) جواب (إن) محذوف، أي إن كنتم تعلمون الخير الكثير والأجر الكبير الذي أعده الله سبحانه لمن يفرج عن المعسر و يضع عنه شيئا من دينه، فإنكم ستسارعون إلى ذلك وهذا هو تقدير جواب (إن) الشرطية المحذوف.
روى الطبراني عن أبي أمامة t قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من سره أن يظله الله يوم لا ظلّ إلا ظله فلييسر على معسر أو ليضع عنه”(2).
وروى الإمام أحمد عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من أراد أن تستجاب دعوته وأن تكشف كربته فليفرج عن معسر”(3).
وأخرج الإمام أحمد عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من أنظر معسراً أو وضع عنه وقاه الله من فيح جهنم”(4).
ومن الجدير ذكره أن واقع المعسر الذي يجب إمهاله فيه بعض الآراء الفقهية والراجح لدي أنه الذي لا يملك فضل مال زائد عن حاجاته الأساسية وهي المأكل والملبس والمسكن بالقدر الضروري، لأن أعسر فلان: افتقر، فالمعسر الفقير والفقير من لم يكن عنده مال يكفي حاجاته الأساسية فإن زاد فليس فقيراً وبالتالي ليس معسراً وعليه فيجب إمهاله ما دام ماله لا يزيد عن حاجاته الأساسية.
وليس المقصود بالمعسر الذي لا فضل مال لديه زائد عن حاجاته المعتادة، وحاجاته المعتادة هي المتعلقة بعيشه المعتاد مثل سيارته وخادمه وملابسه المتنوعة وطعامه وشرابه المتعدد، وهذه أكثر من حاجاته الأساسية وهي المطعم المحافظ على حياته والملبس الساتر لعورته والمسكن الذي يأوي إليه، وأما تنوع طعامه ولباسه فبالقدر الضروري الذي يمكنه من العيش فإن ملك أكثر من حاجاته الأساسية كما ذكرنا من سيارة أو مسكن آخر أو أرض أو أي نوع من المال الزائد عن حاجاته الأساسية فإن مطالبته بالدين دون إمهال تجوز في مثل هذه الحالات.
وله أن يقيم الدعوى القضائية عليه ويتقاضى دينه من تلك الأموال.
-
وهذه الآية الأخيرة تذكير من الله سبحانه لنا باليوم الآخر والرجوع إلى الله فيه والحساب والعقاب حيث الجزاء العادل، فمن قدم خيراً يجد خيراً ومن قدم شراً يجد شراً (لا ظلم اليوم) غافر/ آية17 (ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون).
(واتقوا يوماً) أي قوا أنفسكم العذاب في ذلك اليوم بابتعادكم عن السيئات في الدنيا وإكثاركم من الحسنات.
ولعل الحكمة من وضع هذه الآية الكريمة بعد آيات الربا بيان عظم جريمة الربا وأن الربا يؤدي إلى غضب الله وإلى جهنم، ومن أراد أن يتقي غضب الله (اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا) ومن أراد أن يتقي عذاب يوم القيامة (واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله) من أراد فليترك الربا الجريمة الفظيعة ولا يدخل في حرب مع الله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وسلم حتى يلقى في ذلك اليوم الذي يجعل الولدان شيباً، وهو عنه راضٍ سبحانه فيوفّى أجره عند مليك عادل مقتدر. وهذه الآية هي آخر ما نزل من القرآن العظيم.
أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: “آخر آية نزلت في القرآن (واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون) قال ابن جريج: يقولون إن النبي صلى الله عليه وسلم مكث بعدها تسع ليال وبدأ يوم السبت ومات يوم الاثنين ـ عليه الصلاة و السلام ـ.
وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: آخر ما نزل من القرآن كله (واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون) وعاش النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية تسع ليال ثم مات يوم الاثنين.
وأخرج ابن مردويه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: آخر شيء نزل من القرآن (واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله…).
وذكر القرطبي قال: روى أبو صالح عن ابن عباس قال: “آخر ما نزل من القرآن (واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون) فقال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم: يا محمد ضعها على رأس ثمانين ومائتين من البقرة”(5).
وذكر القرطبي في رواية أخرى أنه ـ عليه السلام ـ قال: “اجعلوها بين آية الربا وآية الدين”(6).
ولا يتعارض هذا مع ما أخرجه البخاري عن ابن عباس: آخر ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية الربا.
وما أخرجه أحمد عن عمر أنه قال: من آخر ما نزل آية الربا.
وما رواه ابن ماجة و ابن مردويه عن عمر أنه قال: من آخر القرآن نزولاً آية الربا، فإن الجمع بينها: إن آيات الربا نزلت ثم نزلت بعدها آخر آية وهي (واتقوا يوماً) فلا تعارض، ففهم الأحاديث على وجهها: آخر آية نزلت: (واتقوا يوماً) ومن آخر ما نزل آية الربا كما ذكر ذلك صراحة في رواية الإمام أحمد وابن ماجة وابن مردويه.
وأما ما ورد في البخاري بلفظ: آخر ما نزل آية الربا فهي تحمل على الروايات الأخرى: من آخر ما نزل، وتفهم كذلك على أن آيات الربا نزلت ثم نزلت بعدها آية (واتقوا يوماً…) فيصدق القول إن آخر ما نزل آية الربا وآية (واتقوا يوماً…).
وخلاصة ما سبق أن آخر آية نزلت هي: (واتقوا يوماً… ) ووضعت بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في موضعها في القرآن الكريم بعد آية الربا وعلى رأس ثمانية ومائتين من القرآن الكريم .
(يتبع)
ـــــــــــــ
(1) الدر المنثور: 2/107، تفسير الطبري: 3/107. (2) مجمع الزوائد: 4/134، ابن كثير: 1/491، الدر المنثور: 2/114، أحمد: 2/359. (3) أحمد: 2/23، الدر المنثور: 2/113. (4) أحمد: 1/327. (5) تفسير القرطبي: 3/375. (6) تفسير القرطبي: 3/375.
2000-11-11