تاريخ الاستعمار الغربي في الشرق الأوسط (1)
2016/09/10م
المقالات
5,443 زيارة
تاريخ الاستعمار الغربي في الشرق الأوسط (1)
د. عمران وحيد
تدّعي أميركا وبريطانيا أن حربهما ضد العراق عادلة وقضيتهما نبيلة. ويستمرون في الجدال بأنهم ببساطة يسعون لإنقاذ العالم من خطر يهدده ولإعادة حكم عادل لشعب العراق، وهذا المقال يفضح هذا الكذب ويثبت أن للاستعمار علاقة قوية بالحرب ضد العراق، بل هو في الحقيقة القوة الدافعة للحرب.
ـــــــــــ
بشّرت النهضة في أوروبا بثورة فكرية بلغت ذروتها في عملية التصنيع وبشرت بنظام عالمي جديد. ففي وجه استبداد أرستقراطي وتسلط ديني، وضع المفكرون الغربيون قواعد فلسفية لحضارة غربية. ورغم اختلافاتهم الفكرية، فقد اتفقوا على وجهة نظر عالمية غربية حول تنظيم المجتمع، يتمثل في فصل الكنيسة عن الدولة وشؤون الحكم، ولكن فلاسفتهم المجددين استبدلوا استبدادا وانحطاطا فكريا بشكل آخر من الاستبداد الفكري. ومن المضحك أن المبدأ الذي نتجت عنه قواعد الحرية والديمقراطية الليبرالية هو نفس المبدأ الذي ظهر منه الاستعمار. فقد تحدثت رسالة جان جاك روسو حول الديمقراطية عن المساواة والحرية قائلا “ولد الانسان حراً وهو مقيّد في كل مكان” [العقد الاجتماعي 1743].ومع هذا ففي نفس الوقت فإن مثالية الحرية كانت تستعبد أمماً بكاملها. فقد قال جولز هارماند أحد أعمدة مهندسي الاستعمار الفرنسي: “من الضروري إذاً أن نقبل كمبدأ، أو أساس، للانطلاق في البحث أن هناك تسلسلا هرميا من الأجناس والحضارات، وأننا ننتمي إلى العنصر الأسمى والحضارة الأرقى… وأن المبرر القانوني الأساسي لإخضاع الشعوب الأهلية (المواطنون الأصليون للبلاد المفتوحة) هو الإيمان بأفضليتنا (عليهم)…” [ادوارد سعيد، “الثقافة والاستعمار ” 1993، صفحة 17]. هذه التناقضات الفلسفية هي إحدى سمات الثقافة الغربية، وتبرز أيضا عجز العقل عن وضع نظام للحياة يرقى حقا بالسلوك البشري.
في الحقيقة، إن الاستعمار يجري في شرايين الحضارة الغربية. فإذا كانت الرأسمالية هي روح هذه الحضارة، فالاستعمار هو قلبها النابض – فحرية التملك أصبحت المظهر البارز لفلسفة علمانية، تحدد غاية المجتمع في الحياة. وهكذا فإن السعي وراء القيم المادية من قبل الدولة، تحولت إلى جملة من القواعد، حددت الطريقة لنشر المبدأ الرأسمالي، كما أكد على ذلك روبرت كوبر في مقالة ” الدولة في العصر الحديث “، ففي دعوته إلى استعمار ليبرالي جديد والحاجة إلى إمبراطوريات، كانت كلماته صدى للطموح البريطاني في عصر سابق عندما قال جوزيف تشمبرلين، وزير المستعمرات البريطاني: “هذا زمان الإمبراطوريات الكبيرة، وليس الدول الصغيرة “. [جان موريس، “وداعا لأبواق النصر” ـ تراجع استعماري]. لذلك فمن التقاليد الاستعمارية الحقيقية ما قاله مستشار توني بلير للسياسة الخارجية، روبرت كوبر “التحدي لعالم العصر الحديث أن تعتاد على فكرة المعايير المزدوجة. في ما بيننا، نتعامل على أساس القوانين وأمن تعاوني مفتوح. ولكن حين نتعامل مع دول ذات طراز قديم خارج قارة أوروبا الحديثة، نحتاج اللجوء إلى طرق خشنة تنتمي لعهد سابق: القوة، هجوم وقائي، خداع، وكل ما يلزم للتعامل مع أولئك الذي لا يزالون يعيشون في القرن التاسع عشر، في كل دولة بعينها. ففي ما بيننا نحافظ على القانون، ولكن عندما نعمل في الغابة، علينا أيضا أن نستعمل شرعة الغاب… فالمطلوب إذن نوع جديد من الاستعمار، نوع مقبول في عالم حقوق الانسان والقيم العالمية. نستطيع أن نحدد معالمه، إنه استعمار مثل كل أنواع الاستعمار، يهدف إلى فرض القانون والنظام، ولكنه يعتمد اليوم على الأساس الطوعي”، [روبرت كوبر ” الاستعمار الليبرالي الجديد “، 2002].
وهكذا لايزال الاستعمار نشطاً جدا، وفي الحقيقة، ولد الاستعمار والحضارة الغربية معاً، لأن الاستعمار ناتج من المبدأ العلماني. ليست المعايير المزدوجة في السياسة الغربية، خلال تاريخها المشؤوم أمراً بديهياً ولكنها ضرورة إيديولوجية. من الضروري أن نفهم الفلسفة الكامنة وراء الاستعمار الغربي حتى لا نفهم فقط سر إثارة الحرب ضد العراق، ولكن لندرك أن الاستعمار جزء لا يتجزأ من الحضارة الغربية، وهكذا ندرك أن العلمانية غير مناسبة لتكون القيادة الفكرية للبشرية. لذلك سيكون انتحاراً سياسياً أن نحرر البلاد الاسلامية على أساس علماني. لقد سعى العلماء الغربيون أساساً لإزالة الظلم ولكنهم فشلوا بشكل مريع لأنهم استبدلوا ظلم الإقطاع بنظام أكثر بشاعة لتنظيم شؤون البشرية، مطلقاً العنان لمأساة لا نظير لها في التاريخ البشري. لقد أفسدت هذه المأساة المبدئية حياة الشعوب لعدة قرون، مثلما تصنع العاصفة المروعة، وإن موجات هذه العاصفة قد أنهكت العراق، وأغرقت الشعب في مصاعب اقتصادية.
القسوة والاحتلال
حاول الرئيس بوش دونما نجاح أن يحشد الأنصار في الأمم المتحدة عندما كان يسعى لتخويل شرعي لحربه ضد العراق، فقال: ” إن المجتمعات الحرة لا تهدد بالقسوة والاحتلال “.هذه الكلمات هي صدى نفس الغطرسة في القرن الماضي عندما وصف اللورد روزبري الإمبراطوريةالبريطانية أنها ” أعظم وكالة علمانية من أجل خير لم يشهد العالم مثله من قبل “. [جي إي هوبسون “دراسة في الاستعمار”]. وسينضم الرئيس بوش إلى اللورد روزبري في مجريات التاريخ المضحك، ضمن لائحة مميزة من النجوم تتباهى على الآخرين بمن فيهم أدولف هتلر وجوزيف ستالين بمساهماتهم القيمة للحمق الأخلاقي. لم يتشكل تاريخ العراق من خلال القسوة والاحتلال فقط، ولكن المشاكل في الشرق الأوسط ناتجة عن قرون من الاستعمار الأوروبي وتستمرهذه المشاكل بسبب الهيمنة الأميركية. حقا إنها إحدى السخريات الكبرى في التاريخ أن تصبح أميركا دولة استعمارية وهي التي قاتلت من أجل تحرير نفسها من الاستعمار البريطاني والاوروبي. وهذه هي النتائج الرهيبة لأمة بنت نفسها على أساس المبدأ العلماني، حيث تقلد أميركا الإمبراطورية البريطانية في الحقبة الماضية.
وضعت شركة الهند الشرقية ، وهي نموذج لحكم الشركات الغربية الكبرى، قدمها لأول مرة في أرض ما بين النهرين عام 1763، عندما سعت بريطانيا إلى تسهيل طريق تجارتها بمستعمراتها في الهند، وقد ثبت أن هذا كان بداية أحداث المستقبل، عندما بدأ اللورد بالمرستون سعيه الجاد لإيجاد أسواق جديدة في الشرق الأوسط من أجل صناعة وتجارة بريطانيا في الثلاثينات من القرن التاسع عشر – وهذا مبدأ لا يتجزأ من الحضارة الغربية – كما أشار إليه أنطوني ليك، مستشار الأمن للرئيس كلينتون ” إن الشركات الخاصة حلفاء طبيعيون لجهودنا من أجل تقوية اقتصاديات السوق “. [مارك كيرتيس ” الخداع الكبير، القوة الأنجلو – أميركية والنظام العالمي ” 1998، ص 38]. وقد بين وزير الخارجية السابق، كوردل هل أيضا أن ” قيادة نظام جديد للعلاقات الدولية في التجارة والأمور الاقتصادية الأخرى ستؤول بدرجة كبيرة إلى الولايات المتحدة.. يجب أن نتولى هذه القيادة والمسؤولية المتصلة بها لأسباب تتعلق أساسا بالمصالح القومية الخاصة البحتة ” [جابريال كولكو ” سياسة الحرب ” ص 25].
إن المصالح القومية الخاصة، وهو تعبير لطيف عن الطمع الحقيقي، هي التي أثارت الفتوحات الأوروبية فاحتلت بريطانيا عدن في 1839، وغزت مصر عام 1882 حيث بنت قناة السويس بالتعاون مع فرنسا عام 1869، وهي التي وصفها رئيس الوزراء جلادستون بأنها ” القضية الكبرىفي المصلحة البريطانية “، لأن 13% من كامل التجارة الخارجية البريطانية كان يمر عبر القناة في ذلك الوقت. وقد صرح إيرل كيمبرلي، وزير خارجية الهند عام 1885، ” هل يظن أحد حقا أننا لو لم نكن نملك إمبراطوريتنا الهندية كنا قد تدخلنا في شؤون مصر ؟ ” [رونالد هيام ” تاريخ بريطانيا الامبراطوري 1815 – 1914 “، 1976، ص 180]. هذه بعض المشاعر التي ظهرت أثناء حرب الخليج عام 1991، عندما قال لورانس كورب، مساعد وزير الدفاع في إدارة ريحان: ” لو كانت الكويت تنتج الجزر لما اكترثنا بالأمر” [بول داماتو ” تدخل الولايات المتحدة في الشرق الأوسط – الدم من أجل البترول، انترناشيونال سوشاليست ريفيو، عدد 15، كانون أول – كانون ثاني 2001]. وقد حاربت بريطانيا للدخول إلى إيران من أجل الحصول على طريق برِّي الى مستعمراتها في الهند، ودخلت في عهود من خلال اتفاقات لحماية مشيخات إقطاعية في الكويت، والبحرين وقطر وعمان لضمان التنازل عن هذه الأراضي لبريطانيا فقط.
قوَّى احتلال الخلافة العثمانية في الحرب العالمية الأولى مركز بريطانيا كقوة عظمى في الشرق الأوسط. واعطاها ذلك السيطرة على أرض ما بين النهرين، وإيران والخليج ومصر كما اشترط ذلك في اتفاق سايكس بيكو عام 1916. وفي عام 1917 احتلت بغداد، وأشارت في برقية مرسلة إلى قواتها إلى خدعة جديدة لاستعمار غربي في القرن العشرين. فقد أرسل مجلس الحرب برقية تقول: ” ستكون العراق دولة عربية بحاكم محلي أو حكومة تحت الحماية البريطانية في كل شيء ما عدا الاسم. وبناء عليه لن يكون لها علاقات مع الدول الأجنبية… وستدار شؤون بغداد من وراء ستار عربي زائف قدر الإمكان ” [بي دبليو أيرلاند ” العراق: دراسة في التطور السياسي 1973]. وباستخدام نظرية استعمارية في دعم أنظمة حكم عميلة، جددت بريطانيا حقا الفن الاستعماري. فقد علق مكتب الخارجية على أساليبها الاستعمارية الجديدة عام 1947 قائلا ” يمكن الحفاظ على مصالحنا الاستراتيجية والأمنية في أنحاء العالم بشكل أفضل بإنشاء ” محطات بوليس ” في مواقع مناسبة تكون معدة بشكل كامل للتعامل مع الطوارئ ضمن نصف قطر كبير. فالكويت واحدة من هذه المواقع، التي يمكن بواسطتها السيطرة على العراق، وجنوب إيران، والعربية السعودية والخليج الفارسي “. وفي فترة ما بعد حرب الخليج ظهر أن أميركا تدعم مثل هذه الأساليب بل تحل أيضا محل بريطانيا كصاحبة النفوذ في الشرق الأوسط.
ستظهر أميركا كرائد في هذه العقيدة الجديدة في الاستعمار الغربي، مستخدمة أساليب جديدة للغزو والاحتلال، مع تأكيد على العمليات السرية، والاستعباد الاقتصادي والمكائد السياسية. سيكون احتلالا يؤدي إلى كبت مجتمعات الشرق الأوسط من خلال أنظمة الحكم العميلة لهم، وستشجع التعذيب والسجن والقتل. وقد شرح جيسي ليف، المحلل الرئيسي لشؤون إيران في وكالة الاستخبارات المركزية التخويف الأميركي للشرق الأوسط عندما قال: ” نحن أنشأناهم (السافاك)، نحن نظمناهم، علمناهم كل شيء نعرفه…. آليات تحقيق صارمة… تشمل التعذيب… كانت هناك جولات على غرف التعذيب، التي كانت تموّل جميعها من قبل الولايات المتحدة ” [سلام الشرقي، ” إيران أحلاف غير مقدسة ، إرهاب مقدس”، كوفيرت أكشن انفورميشن بوليتين عدد 37، صيف 1991]. وقد شرحت مذكرة أميركية حكومية السيطرة على شعوب الشرق الأوسط، حيث ذكرت: ” تحدد السياسة الأميركية الحالية مبيعات الأسلحة إلى بلاد في الشرق الأوسط بكميات معقولة لازمة من أجل الحفاظ على الأمن الداخلي “. [تصريح لمجموعات الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، إف. آر. يو. إس، 1974، المجلد 5 ص 613]. وقد قال مجلس الأمن القومي الأميركي أن المساعدة العسكرية ضرورية ” كوسيلة لحفظ الأمن الداخلي ” [مجلس الأمن القومي الأميركي، تصريح بالسياسة الأميركية تجاه إيران، 15 تشرين ثاني 1958، إف. آر. يو. إس، 1958 – 1960، المجلد 12، ص 611 – 613]. وقد أوضح السيناتور هيوبرت همفري هذه السياسة، ذاكراً محادثة بين مسؤول أميركي والقيادة العسكرية في إيران: ” هل تعرف ماذا قال قائد الجيش الإيراني لأحد رجالنا ؟ قال إن الجيش بشكل جيد، والفضل يعود للمساعدة الأميركية. يستطيع الجيش الآن أن يتعامل (بنجاح) مع السكان المدنيين ” [فريد هاليدي، البلاد العربية بدون سلاطين.].
لقد ألقت الانقلابات العسكرية والانقلابات المعارضة سياسات الشرق الأوسط في مستنقع من الصراعات الغربية بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة. فقد أقامت اميركا حسني الزعيم في سوريا في 30 آذار 1949. وقد بين مايلز كوبلاند، الذي قاد كثيرا من عمليات وكالة الاستخبارات المركزية في المنطقة: ” إذا كنت لا تستطيع تغيير الطاولة (طاولة اللعب)، فقم بتغيير اللاعبين ” [مايلز كوبلاند، لعبة الأمم 1969 ص 28]. وتدخلت أميركا في لبنان عام 1958، وأرسلت أسطولها البحري ورجال بحريتها لتحافظ على ما أسمته “بالاستقرار”، وهو تعبير ملطَّف عن القول بالحفاظ على النفوذ الأميركي في المنطقة. وقد تدخلت فعلا مرة أخرى في الشؤون اللبنانية عام 1983، حيث أرسلت رجال بحريتها إلى صراع أوجدته الصراعات الغربية. وكانت حرب الخليج 1991 أكبر عملية غزو عسكري تقوم بها أميركا في الشرق الأوسط، فقد أدت إلى احتلال عسكري في كل شيء، ماعدا الاسم، حيث دعمت القواعد العسكرية الموجودة، وأنشأت قواعد أخرى في العربية السعودية، وقطر والكويت. ويعبر انطوني كوردسمان، المسؤول الاستراتيجي في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، عن متعة في الأصولية الاستعمارية الأميركية قائلا ” منذ عقد من الزمان، وتحت رئاسة بوش آخر، خرجنا من أزمة سياسة خارجية كبيرة في الشرق الأوسط بأفضل مركز لنا منذ الحرب العالمية الثانية ” [أنطوني إتش كوردسمان ” العراق وأزمة السياسة الخارجية الأميركية في الشرق الأوسط، 1 آذار 2001]. وهذه الميزة التي يتباهى بها القادة العسكريون، لم يتردد في الإشارة إليها البريجادير جنزال ويليام لوني قائلا: ” يعلمون أننا نملك بلادهم.. نحن الذين نقرر الطريقة التي يعيشون بها ويتكلمون بها “. وهذا هو الأمر العظيم الذي تملكه أميركا الآن. إنه أمر جيد، خاصة وأنه يوجد هناك زيت كثير نريده ” [دكتور إيريك هيرينج: ” العراق: حقائق العقوبات الاقتصادية ومشاريع الحرب، تشرين أول 2002].
وهكذا لم يتميز الحكم البريطاني والأميركي في الشرق الأوسط بالاحتلال فقط، بل يتميز بالقسوة التي اعتاد عليها شعب العراق جيداً. فقد واجه الشعب عام 1919 الشبح الجوي لغاز الخردل، واليوم تواصل الطائرات الحربية الأميركية والبريطانية من حيث انتهى أجدادهم، مطبقين مبدأ قاذف القنابل هاريس في اسقاط ” قنبلة في كل قرية تقع في غير المكان والزمان الصحيح ” [مارتن وولاكوت “إعطاء الجرعة المناسبة “، الجارديان، 19 كانون ثاني 1993]. هذه البربرية أصيلة في الاستعمار الغربي. ولذلك ليس عجيباً أن الرئيس بوش قد تبنى لغة ونستون تشرشل، الذي امتدحه مؤخرا كنموذج لرجل الدولة، حيث شجع تشرشل بقوة استخدام غاز الخردل ووافق على أن يقوم الطيارون البريطانيون بقتل النساء والأطفال العراقيين بدون رحمة عندما كانوا يهربون من بيوتهم لعدم دفعهم الضرائب المستحقة عليهم [ديفيد أوميسي ” بغداد والقاذفات البريطانية “، الغارديان 19 كانون ثاني 1991]. وقد كتبت صندي تايمز يومها “لقد قتلنا حوالي 10 آلاف عربي في هذه الثورة في الصيف. ولا نأمل في الحفاظ على هذا المعدل ” [إيلي كودري، إنجلترا، الشرق الأوسط، هدم الإمبراطورية العثمانية. 1914- 1921].
قد اعترف تشرشل بالقساوة الوحشية للاستعمار الغربي في العراق عندما قال: ” لا شك أننا شعب قاس جدا ” [مارك كيرتس ” القوة الأنجلو- أميركية، الخدعة الكبرى، والنظام العالمي “، 1998، ص 136]. وعندما سئلت وزيرة الخارجية السابقة للولايات المتحدة، مادلين أولبرايت هل موت نصف مليون طفل في العراق كنتيجة للعقوبات الاقتصادية يستحق ذلك، اجابت بدون مشاعر ” أظن أنه اختيار صعب، ولكن أظن أنه يستحق ذلك “، [ليزلي ستال في مقابلة مع مادلين أولبرايت على تلفزيون سي بي إس 1996]. هذه هي القسوة التي دفعت منسق الشؤون الانسانية للأمم المتحدة في العراق، دينيس هاليدي، أن يستقيل قائلا: “استقيل لأن سياسة العقوبات الاقتصادية مفلسة تماماً. إننا في طريقنا لتدمير مجتمع بكامله… لقد أُمِرت أن أطبق سياسة تقع تحت تعريف الإبادة البشرية الجماعية، إنها سياسة متعمدة قتلت فعلا أكثر من مليون طفل ورجل ” [دكتور إيريك هيرينغ: ” العراق، حقائق عن العقوبات الاقتصادية. ومشاريع الحرب “، تشرين أول 2002]. يمكن أن نجد التبرير الأخلاقي لجرائم الغرب في وجهات نظر المخططين البريطانيين الذين وصفوا العراقيين أنهم ” أجلاف وقساة ومستبدون ” [لويس، ” الأمبراطورية البريطانية في الشرق الأوسط ” ص 159]. ويمكن أن تلقي وجهة نظر السفير البريطاني السابق في إيران بعض الضوء على ذلك عندما قال: ” يجد العقل البدائي من السهل اعتناق الاسلام، بواجباته البسيطة الخمسة” [نفس المرجع ص 60].
إنه نوع من التناقض الواضح أن يرى المنظرون الغربيون أنفسهم دعاة تحرير بينما حكمهم للشرق الأوسط، بل للعالم, ليس سوى عبارة عن سياسات ماكرة صممت من أجل اخضاع الشعوب. ولكن يجب ملاحظة أن السياسيين الغربيين مخلصون لمبدئهم، لأن هذه هي حقيقة الرأسمالية وهم حقا فخورون بتراثهم , كما أشار إلى ذلك بلير دونما خجل ” كانت بريطانيا قوة عظمى في شؤون العالم لعدة قرون ” و”لا يوجد مواطن مخلص يرغب في التنازل عن هذه المنزلة “. [مارك كيرتيس ” القوة أنجلو – أميركية الخدعة الكبرى والنظام العالمي”، 1998 ، ص 49]. ولم تتغير فعلا قواعد ” بناء الأمة ” منذ القرن التاسع عشر. فعندما كانت مصر تطور صناعة النسيج فيها عام 1830 كانت أوروبا تجرب الثورة الصناعية. وسعت أوروبا لمنع التصنيع في العالم الاسلامي. وقد حذر القنصل الفرنسي عام 1817 قائلا: ” إن مصانع الحرير التي أنشئت في مصر ستوجه ضربة مهينة لتلك المصانع الموجودة في أيطاليا وحتى لمصانعنا ” [ناعوم تشومسكي ” النظام العالمي، القديم والجديد ” 1998، ص117]، وكذلك بريطانيا ” لم تكن تريد وجود دولة مستقلة جديدة في الشرق الاوسط، قوية عسكريا واقتصاديا، تستطيع بالتالي وقف تقدمها في تلك المنطقة وفي الخليج الفارسي ” [نفس المرجع].لذلك فإن بريطانيا قد تآمرت لتمنع مصر من التصنيع والتقدم الاقتصادي بإرسال أسطولها ” لوضع حد لسعي مصر من أجل الاستقلال والتقدم الاقتصادي “، وهذا أمر لا يزال الغرب يفعله كما هو مشاهد في العراق. وقالت جريدة الإيكونومست ” إن دولة الرفاه العراقية كانت لعهد قريب ضمن أكثر الدول شمولا وكرما في العالم العربي ” [دكتور إيريك هيرينغ ” العراق: حقائق العقوبات الاقتصادية ومشاريع الحرب “، تشرين أول 2002]. وبفرض الغرب دينا على العراق مقداره 200 بليون دولاريتضاعف بفعل الفوائد المركبة، سيتحول العراق من دولة رفاه فخورة ليصبح بمنزلة رواندا بناء على نسبة الدين مقارنة بالصادرات ، مما يضمن بقاء الشعب العراقي مدينا لأجيال قادمة. ” فالمجتمعات الحرة ” أحالت العراق إلى ما تصفه الأمم المتحدة في تقرير عام 1991 ” كان قريبا من تحقيق نتائج ذات رؤى بعيدة قائمة على بنية تحتية اقتصادية حتى كانون ثاني 1991 متمثلا في مجتمع حضاري وآلي عالي… سيصبح العراق، ولمدة طويلة، على مستوى ما قبل العصر الصناعي” .
[يتبع]
2016-09-10