(إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ)
2004/02/10م
المقالات
1,846 زيارة
مع القرآن الكريم
|
(إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ)
|
بسم الله الرحمن الرحيم
( وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا )
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا @ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا @ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا)[الأحزاب/70-72].
|
ذكر ابن كثير في تفسيره: (يقول تعالى آمراً عباده المؤمنين بتقواه، وأن يعبدوه عبادة من كأنه يراه، وأن يقولوا (قَوْلًا سَدِيدًا) أي مستقيماً لا اعوجاج فيه ولا انحراف. ووعدهم أنهم إن فعلوا ذلك أثابهم عليه بأن يصلح لهم أعمالهم أي يوفقهم للأعمال الصالحة، وأن يغفر لهم الذنوب الماضية، وما قد يقع منهم في المستقبل يلهمهم التوبة منها، ثم قال تعالى: ( وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ) وذلك بأن يجار من نار الجحيم، ويصير إلى النعيم المقيم). ثم نقل قول ابن عباس موقوفاً: من سره أن يكون أكرم الناس فليتقِ اللَّه. وقول عكرمة: القول السديد: لا إله إلا اللَّه، وقول غيره: السديد: الصدق، وقول مجاهد هو السداد، وقول غيره هو الصواب، والكل حق. ونقل عن ابن عباس في قوله تعالى: ( إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا )يعني بالأمانة الطاعة التي عرضها عليهم قبل أن يعرضها على آدم فلم يطقْنَها، فقال لآدم: إني قد عرضت الأمانة على السماوات والأرض والجبال فلم يطقنها، فهل أنت آخذ بما فيها؟ قال: يا رب وما فيها؟ قال: إن أحسنت جزيت، وإن أسأت عوقبت، فأخذها آدم فتحملها، وذلك قوله تعالى: ( وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ).
وذكر ما نقله ابن جرير بسند عن الحكم بن عمير وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «إن الأمانة والوفاء نزلا على ابن آدم مع الأنبياء، فأرسلوا به، فمنهم رسول، ومنهم نبي، ومنهم نبي رسول، ونزل القرآن وهو كلام اللَّه، وأنزلت العجمية والعربية فعلموا أمر القرآن، وعملوا أمر السنن بألسنتهم، ولم يدع اللَّه تعالى شيئاً من أمره مما يأتون وما يجتنبون، وهي الحجج عليهم إلا بينه لهم، فليس أهل لسان إلا وهم يعرفون الحسن والقبيح، ثم الأمانة أول شيء يرفع، ويبقى اثرها في جذور قلوب الناس، ثم يرفع الوفاء والعهد والذمم، وتبقى الكتب، فعالم يعمل، وجاهل يعرفها وينكرها ولا يحملها حتى وصل إلي، وإلى أمتي، ولا يهلك على اللَّه إلا هالك، ولا يغفل إلا تارك، فالحذر أيها الناس، وإياكم والوسواس الخناس، فإنما يبلوكم أيكم أحسن عملاً». وقال: (هذا حديث غريب جداً وله شواهد من وجوه أخرى…).
وذكر سيد قطب في الظلال: «إن السماوات والأرض والجبال – التي اختارها القرآن ليحدث عنها – هذه الخلائق الضخمة الهائلة، التي يعيش الإنسان فيها أو حيالها، فيبدو شيئاً صغيراً ضئيلاً. هذه الخلائق تعرف بارئها بلا محالة، وتهتدي إلى ناموسه الذي يحكمها بخلقتها وتكوينها ونظامها، وتطيع ناموس الخالق طاعة مباشرة بلا تدبر ولا واسطة. وتجري وفق هذا الناموس دائبة لا تني ولا تتخلف دورتها جزءاً من ثانية، وتؤدي وظيفتها بحكم خلقتها وطبيعتها، غير شاعرة ولا مختارة.
هذه الشمس تدور في فلكها دورتها المنتظمة التي لا تختل أبداً، وترسل بأشعتها فتؤدي وظيفتها التي قدرها اللَّه لها، وتجذب توابعها بلا إرادة منها فتؤدي دورها الكوني أداء كاملاً…
وهذه الارض تدور دورتها، وتخرج زرعها، وتقوت أبناءها، وتواري موتاها، وتتفجر ينابيعها، وفق سنة اللَّه بلا إرادة منها…
وهذا القمر، وهذه النجوم والكواكب، وهذه الرياح والسحب، وهذا الهواء، وهذا الماء، وهذه الجبال، وهذه الوهاد… كلها.. كلها.. تمضي لشأنها، بإذن ربها، وتعرف بارئها، وتخضع لمشيئته بلا جهد منها ولا كد ولا محاولة… لقد أشفقت من أمانة التبعة، أمانة الإرادة، أمانة المعرفة الذاتية، أمانة المحاولة الخاصة.
( وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ).
الإنسان الذي يعرف اللَّه بإدراكه وشعوره، ويهتدي إلى ناموسه بتدبره وبصره، ويعمل وفق هذا الناموس بمحاولته وجهده، ويطيع اللَّه بإرادته وحمله لنفسه، ومقاومة انحرافاته ونزغاته، ومجاهدة ميوله وشهواته، وهو في كل خطوة من هذه الخطوات مريد، مدرك، يختار طريقه وهو عارف إلى أين يؤدي به هذا الطريق!
إنها أمانة ضخمة حملها هذا المخلوق الصغير الحجم، القليل القوة، الضعيف الحول، المحدود العمر، الذي تناوشته الشهوات، والنزعات، والميول، والأطماع.
وإنها لمخاطرة أن يأخذ على عاتقه هذه التبعة الثقيلة. ومن ثم ( كَانَ ظَلُومًا) لنفسه (جَهُولًا ) لطاقته، هذا بالقياس إلى ضخامة ما زج به بنفسه لحمله. فأما حين ينهض بالتبعة، حين يصل إلى المعرفة الواصلة إلى بارئه، والاهتداء المباشر لناموسه، والطاعة الكاملة لإرادة ربه، والمعرفة والاهتداء والطاعة التي تصل في طبيعتها، وفي آثارها، إلى مثل ما وصلت إليه من سهولة ويسر وكمال في السماوات والأرض والجبال… الخلائق التي تعرف مباشرة، وتهتدي مباشرة، وتطيع مباشرة، ولا تحول بينها وبين بارئها، وناموسه، وإرادته الحوائل. ولا تقعد بها المثبطات عن الانقياد والطاعة والأداء.. حين يصل الإنسان إلى هذه الدرجة، وهو واع، مدرك، مريد، فإنه يصل حقاً إلى مقام كريم، ومكان بين خلق اللَّه فريد.
إنها الإرادة، والإدراك، والمحاولة، وحمل التبعة.. هي هي ميزة هذا الإنسان على كثير من خلق اللَّه، وهي هي مناط التكريم الذي أعلنه اللَّه في الملأ الأعلى، وهو يُسجد الملائكة لآدم، وأعلنه في قرآنه الباقي، وهو يقول: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ)[الإسراء/70]. فليعرف الإنسان مناط تكريمه عند اللَّه، ولينهض بالأمانة التي اختارها، والتي عرضت على السماوات والأرض والجبال، فأبين أن يحملنها وأشفقن منها… q
2004-02-10