نظام النقد الدولي (1)
2004/03/10م
المقالات
3,689 زيارة
نظام النقد الدولي (1)
الذهب: مراحله التاريخية:
قبل أن نبدأ بالحديث عن الواقع الجديد والمرحلة الجديدة التي يمر بها الذهب، نعرض بعض الأسئلة:
1 – هل ما زال الذهب يشكل تغطية للنقد؟
2 – هل ما زال سعر النقد مرتبطاً بالذهب؟
3 – هل يعتبر الذهب أداة استثمار مربحةً؟
4 – ما دور الذهب في سوق البورصات المالية؟
5 – هل ينظر إلى الذهب كطوق تحوّطي ضد التضخم؟
إن استعراض هذه المسائل – كما سنرى فيما بعد – يبيِّن أن هناك تخلياً عن النظرة التاريخية للذهب وإلقاء نظرة واقعية محدثة عليه، وهي أنه غدا كغيره… سلعةً من السلع.
إن كلفة استخراج أونصة الذهب تبلغ الآن (261) دولاراً، وتدني سعرها عن هذا المبلغ في السوق يعني بكل تأكيد إغلاق المناجم التي لا تستطيع استخراجها بأقل من هذا السعر. وكانت أولى الضحايا شركة (إيست راند بروبرتي مايز) في جنوب أفريقيا المعروفة اختصاراً بـ (إي. آر. بي. أم)، التي مضى على تأسيسها أكثر من ماية عام، إذ أعلنت أنها ستصفّي أعمالها.
هناك دول يعتمد اقتصادها على الذهب، وهي في معظمها دول فقيرة كروسيا والصين وأندونيسيا وأوزبكستان والبرازيل والبيرو وجنوب أفريقيا. هذه الدول هي في عداد أكبر (10) دول منتجة للذهب في العالم.
في أوائل شهر تموز 1999 قام بنك إنكلترا المركزي ببيع كمية (25) طناً= (804000) أونصة من احتياطه من الذهب في إطار خطة لبيع نصف هذا الاحتياطي أي (415) طناً. فكان هذا بمثابة ضربة قاسية جديدة تضاف إلى ضربات عديدة سابقة وجهت إلى هذا المعدن الثمين، والأهم من ذلك أنها ضربة قاسية لدوره.
لقد بيعت الأونصة ساعتئذٍ بـ (260.20) دولاراً. وبعد ثلاث ساعات فقط بيعت الأونصة بـ(257.60) دولاراً.
وكان قد سبق بنك إنكلترا هذا عديد من البنوك المركزية، ببيع كميات من مخزونها من الذهب، منها بنوك بلجيكا وهولندا والأرجنتين وأستراليا وكندا. كما أن مصرف إنكلترا لن يكون الأخير، فسويسرا تفكر حالياً ببيع (1300) طن، وصندوق النقد الدولي يقوم بدراسة لبيع (300) طن= عشرة ملايين أونصة. وقد صرح مدير هذا الصندوق أخيراً أنه بصدد بيع أربعة عشر مليون أونصة من الذهب، من أجل تخفيف عبء الديون عن الدول الفقيرة، وقيمتها (3) ملياراً.
وتقدّر مؤسسة (غولد فيلد ذي ميزل سيرفسيز) أن المصارف المركزية قد تخلّت عن مقتنياتها من الذهب، ابتداءً من العام 1989 بمعدل (315) طناً سنوياً.
مع وجود المعارضة في الأوساط السياسية والاقتصادية في بريطانيا للانضمام إلى منطقة اليورو، فإن من سياسة رئيس الوزراء طوني بلير أن يدخل بريطانيا، ويضمّها إلى منطقة اليورو. ولهذا البيع، الذي قام به بنك بريطانيا المركزي من كميات الذهب المقررة، ارتباط بالسياسة التي ينتهجها بلير. إذ يريد أن يكون احتياطي النقد (الإسترليني) 40% من اليورو و40% من الدولار و20% من الين الياباني. وقد صرح وزير خارجية بريطانيا في خطاب ألقاه في رجال الأعمال في كندا أن عرض اليورو كنقد عالمي فيه فوائد كثيرة.
كأن الاتجاه يسير بهذا المعدن المتوهج إلى تكثيف صناعة المجوهرات. وتشير الإحصائيات إلى أن هذه الصناعة استخدمت (2048) طناً في العام 1989، ثم ارتفعت هذه الكمية إلى (3145) طناً في العام 1998. وهذا يعني أن ثلاثة أرباع منتوج الذهب تطالها صناعة المجوهرات، بعد أن كان، قبل مضيّ عقد من الزمن، لا يستعمل منه إلا ثلث الإنتاج فقط.
ومن العوامل التي تتحكم في تهميش الذهب في هذه الأيام:
-
الدولار، مدعوماً بفائض هائل من الإنتاج الأميركي مما يمسك على أسعاره، وبذلك لا يكون بحاجة إلى ارتباطه بالذهب.
-
التضخم المالي، ومعالجته بالتدخل من قبل صندوق النقد الدولي، بعد أن كانت معالجته بالقدر المخزون من احتياطي الذهب، ومعالجته أيضا بالتناسب في الميزان التجاري بين صادرات البلد ووارداته، يضاف إلى ذلك ضمانة أسواق تتلقى ناتج البلد المعني، محوطاً بحماية سياسية.
أما لو حصل تراجع في قيمة الدولار، استشراء في موجة التضخم، فإن الذهب يكون له دور في العودة إليه، وبالتالي ترتفع أسعاره. ولكن لا توجد مؤشرات على حصول هذين الأمرين، وهما: تراجع قيمة الدولار، واستشراء موجة التضخم.
أمامنا الآن ظواهر حسية في سوق الاستثمارات المالية. فالذي استثمر من الذهب بقيمة ماية دولار مثلاً عام 97، أصبحت قيمة استثماره اليوم أقل من سبعين دولاراً. أما الذي استثمر في الأدوات المالية في البورصات المالية، فإن استثماره زاد عن (250) دولاراً. ولذلك، فإن الذهب لا يعطي مردوداً استثمارياً لأصحابه، أي إنه لا يعتبر ملجأً استثمارياً آمناً.
لقد بدأ الذهب يفقد دوره النقدي التاريخي، كونه وضع بموجب اتفاق بريتون وودز مع الدولار كمساندٍ له، أي وضع في المؤخرة، فسلب منه زمام المبادرة. وفقد وظيفتيه الأساسيتين.
الأولى: كونه وسيلة الدفع الرئيسة في العمليات التجارية.
والثانية: هي استخدامه كتغطية للعملات التي يتحدد سعرها على ضوء نسبة هذه التغطية.
هذا الدور المزدوج للذهب أصبح غير موجود، منذ أن أعلن الرئيس الأميركي نيكسون نقاطه الأربع بتاريخ 15/8/71.
كانت أولى الضربات التي تلقاها الذهب من حيث دوره النقدي إبان الحرب العالمية الأولى. فقد انهار نظام اعتماده كتغطية كاملة للعملات. وعندما أعيد العمل به جزئياً سنة 1922 انهار مجدداً مع حصول الأزمة الاقتصادية العالمية التي أصابت الولايات المتحدة الأميركية سنة 1929، ثم عمّت معظم العالم. وفي سنة 1937 لم تعد هناك دولة تعتمده كتغطية كاملة لعملتها. وفي عام 1939 اشتعلت الحرب العالمية الثانية، فكانت فرصة أميركا بدورها لتصدير السلاح لدول الحلفاء. وبذلك عالجت أزمتها الاقتصادية، وواتتها الفرصة لتأخذ زمام قيادة الحلفاء، مروراً بهم، إلى قيادة العالم.
إلا أنه كان من غير الممكن إزاحة الذهب عن دوره العالمي والإطاحة به عن عرشه. فلما لاحت تباشير النصر للحلفاء، أخذت أميركا تخطط لبناء هيكلية جديدة للمملكة العالمية لتتربع على عرشها. ففتحت ثلاث قنوات هي:
الاولى: اقتصادية، وتتمثل في اتفاقيات بريتون وودز وما أفرزته من أجهزة كصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، وبعدهما بقليل منظمة (الغات).
الثانية: سياسية، وتتمثل في الهيكلية الدولية التي قامت عليها هيئة الأمم، بأجهزتها المتعددة مثل مجلس الأمن الدولي وغيره.
الثالثة: عسكرية، وتتمثل في امتلاكها السلاح النووي، وإقامتها الأحلاف العسكرية والقواعد العسكرية.
يعتبر الاقتصاد الوطني الأميركي بحجمه الهائل هو التغطية الفعلية للنقد الأميركي (الدولار)، إضافة إلى وجود التغطية الحقيقية للدولار وهي الرصيد من المخزون الذهبي، والذي كان يشكل في تغطيته للدولار أكثر من 100% عند نهاية الحرب العالمية الثانية.
وإذا وجد هناك منافس جديد يملك إنتاجاً وطنياً يضاهي الاقتصاد الأميركي كماً وجودةً، تلجأ أميركا إلى السلاح الثاني وهو الثقل السياسي الذي أفرزته الهيكلية الدولية بإعطائها مركز الدولة الأولى في العالم. فلو فرضنا أن اليابان وجدت كعملاق اقتصادي يستطيع أن يزاحم نظيره الأميركي – وقد حصل ذلك – فإنها لا تمتلك الثقل السياسي والتأثير السياسي الذي تستطيع به أميركا اقتحام أسواق العالم، وحمايتها كما تريد.
وإذا صدف ووجد العامل الثاني، وهو التأثير السياسي – كما حصل مع الجنرال ديغول – فإن أميركا حينئذٍ تتفرد بامتلاك العامل الثالث وهو الوجود العسكري.
وعندما نقول الوجود العسكري، لا يعني هذا امتلاك السلاح النووي والقوة النووية، وإنما يعني أنها تمتلك (600) قاعدة عسكرية في أنحاء العالم، كما تمتلك أربع عشرة حاملة طائرات، وتهيمن على مياه البحر المتوسط بأسطولها السادس الذي يتكون من حوالي ماية قطعة بحرية، كما تمتلك الأسطولين السابع في المحيط الهادي والخامس في المحيط الهندي، اللذين اندمجا في أسطول واحد هو الخامس، وأصبحت قاعدته الرئيسة في البحرين. وبموجب حلف الأطلسي فإن لها وجود عسكري في كل دولة من دول أوروبا الغربية. أما مخزونها النووي وامتلاكها لأجيال متطورة من الصواريخ العملاقة فحدّث عنه ولا حرج. وعندها أسطول لا يضاهى من الغواصات الذرية التي تطلق الرؤوس النووية، والتي تمخر عباب المحيطات. وبذلك يكون لها وجود عسكري ضخم فعّال ومؤثر في كل بقعة من بقاع العالم.
إذاً، فالقناة الأولى التي افتتحتها أميركا وهي القناة الاقتصادية، بدأت بها من اتفاقية بريتون وودز 1944 وتوّجت بذلك الدولار على رأس النقد العالمي، وأسلمته زمام المبادرة لقيادة العالم اقتصادياً، ووضعت الذهب في الخلف كركيزة داعمة (احتياط) فقط كخطوة أولى لإخراجه من الساحة العالمية اقتصادياً.
إن قيمة الذهب انخفضت ما بين 1980 و2003 إلى 32% مما كانت عليه، فهي الآن (800) دولار عام 1980. وكانت حينئذٍ (أي في 1980) قد ارتفعت معدلات التضخم بشدة في الدول الصناعية، وبخاصة بعدما ما أصاب العالم من اضطراب سياسي جراء وجود السوفيات في أفغانستان، واندلاع الحرب العراقية – الإيرانية. فكانت النار مشتعلة في منطقة حساسة تمدّ العالم بأسره برافدها النفطي، مع الترقب والخوف وإثارة الحساسيات التي تعتبر هذا الاضطراب تهديداً لتلك المنطقة بأسرها. فكان من جرّاء ذلك هذا التضخم الهائل والارتفاع المضطرد لأسعار الذهب. كل ذلك خشية أن تطال الكارثة المنطقة البترولية، وتدفع بها إلى عالم المجهول، إما بتغييرات وانقلابات أو انفجارات تؤدي بالتالي إلى انفلات أزمّة التحكم في مادة البترول من أيدي أباطرة الإجرام.
مادة البترول هذه كانت عاملاً مهماً في إشعال الحرب العالمية الأولى. ومادة البترول هذه كانت عاملاً مهماً في هزيمة ألمانيا النازية. ومادة البترول هذه كانت عاملاً في الاضطرابات السياسية والعسكرية الأخيرة في منطقة الخليج. ومادة البترول هذه هي عنوان التحكم في رقاب ستة مليارات من البشر، يثقلهم كابوس الظلم والفقر والتقتيل والتشريد. فمن يمتلك السيطرة على هذه المادة السوداء من إنتاج وتكرير ونقل وتوزيع؟؟؟
إن مستوى احتياطي الذهب في البنوك المركزية والمؤسسات المالية الآن لا يزيد عن 5% بالنسبة لموجود الاحتياطيات الأخرى من العملات الأجنبية. ويرى الخبراء والمحللون الاقتصاديون الرأسماليون أن هذا التقليل من الذهب كاحتياطي يتمشى مع التوجه العالمي، حيث يقلل من مخاطر تقلبات أسعار الذهب. وقد أصبحت البدائل الاستثمارية كالسندات بالدولار أفضل من حيث العوائد، خاصة مع استخدام الدولار كأداة للتدخل في سقوف الصرف الأجنبي.
نريد من بحثنا هذا ألا تبقى هذه المشكلة الاقتصادية في برج عاجي لا يعالجها ولا يفهمها إلا الأخصائيون. بل لا بد من عرضها للرأي العام العالمي ليلمس بيده فساد النظام الاقتصادي الرأسمالي، الذي أوجد هذه الطبقية البغيضة: طبقية الأسياد والعبيد، طبقية الغنى الفاحش المرعب والفقر المدقع المميت الذي فيه كل الإهانة مصحوبة بالتعذيب والتنكيل، والتهجير والتشريد، وفتح أسواق النخاسة. ثم ليعلم هذا الجيل من البشر أين تكمن سعادة هذا الإنسان، في أي نظام وأي تشريع وأي اقتصاد؟!.ولكي نجعل الأمر واضحاً نقول:
1- لا يوجد نظام عالمي من الأنظمة القائمة في عالم اليوم، يخلو من العيوب والتعقيدات وإيجاد المشاكل. إن النظام الوحيد الذي يخلو من هذه العيوب هو نظام الإسلام، وإن لم يكن قائماً بعد في عالم اليوم، وذلك لأن صدق النظام والتشريع يأتي من صدق مشرِّعه، وصحة الفكر تأتي من صحة مصدره.
2- إن وضع الجمل المناسبة التي تحتوي التعاريف يجد فيه الباحث صعوبة، وتحتاج إلى دقّة وتأمل. ولكن الصعوبة الحقيقية تكمن في وضع التعاريف التي تتعلق بالاقتصاد، وخاصة في عالمنا الحاضر.
3- المشاكل النقدية التي من الممكن أن تتعرض لها كل دولة هي: مشكلة العجز في ميزان المدفوعات، وكيف نشأت هذه المشكلة، ثم مشكلة علاج هذه العجز بالقضاء عليه نهائياً.
4- مشكلة العجز في ميزانية الدولة تكمن في أمرين اثنين: (أ) زيادة النفقات التي تقوم على عاتق الخزينة وقلة الواردات إلى هذه الخزينة، أي زيادة المدفوعات، وقلة الدخول والواردات. و(ب) العجز في الميزان التجاري، أي زيادة الواردات من السلع والخدمات المستوردة من الخارج، على الصادرات من منتوجات الدولة سواءاً أكانت سلعاً أم خدمات. هذا هو واقع المشكلة التي يمكن أن تصاب بها كل دولة.
5- يرى الباحثون الاقتصاديون في النظام الرأسمالي أن علاج الاختلال في ميزان المدفوعات يكون بإيجاد السيولة النقدية. فأنشأوا ما يسمى (حقوق السحب الخاصة) لتسهيل مهمة الحكومة في تمويل العجز. ولكنهم يرون أنه لا بد من القضاء على هذه الظاهرة، وليس علاجها فقط. فيقولون إن القضاء على ظاهرة العجز في ميزان المدفوعات لأية دولة يقع على عاتق السياسة المالية والتجارية. ولكن أية سياسة مالية وتجارية؟ هل هي خاصة بالدولة ذاتها؟ أو بالسياسة المالية الدولية؟
6- إن هذه التعقيدات المالية والنقدية، ووجود ظاهرة الخلل في ميزان المدفوعات، لم تكن موجودة في القرن التاسع عشر، لاعتماد الجميع على قاعدة الذهب. فلما أسقطت قاعدة الذهب إبان الحرب العالمية الأولى تولدت المشاكل النقدية والمالية، وبدأت تتوالى الأزمات الاقتصادية.
فكان تخلّي العالم عن قاعدة نظام الذهب هو الذي أوجد هذه المشاكل التي يعاني منها العالم اليوم، بغض النظر عن وجود دول غنية ودول متخلفة (نامية).
7- التضخم النقدي والنمو الاقتصادي، وهما ظاهرتان تضرُّ إحداهما بالأخرى. ذلك أن النمو الاقتصادي لأية دولة يصاحبه التضخم وهو انتفاخ غير طبيعي، أي هو ورم في جسم سليم له عواقب وخيمة. ولا يعالج هذا التضخم وهذا الورم – لتبقى العافية مصاحبة للنمو الاقتصادي – لا يعالج إلا بالانضباط إلى قاعدة ثابتة، ولا تكون هذه إلا قاعدة نظام الذهب. أما القواعد المستحدثة مثل قاعدة (حقوق السحب الخاصة) وعملية الإكثار من الأرصدة من مختلف العملات المعتبرة – كالدولار والجنيه الإسترليني والمارك الألماني والين الياباني – فإن الاعتماد عليها له محاذير كثيرة. وبالتالي تكون الدولة مقودةً بزمام هو في يد الدولة صاحبة الرصيد الأكثر والأقوى عندها، كالدولار مثلاً. فما أكبر خطورة الارتباط بالدولار! كيف وقد أصبح الدولار قاعدة التحويل العالمية بعد 15/8/71، حيث ألغي استبداله بالذهب؟!
8- يقول بعض الباحثين: إن نظام النقد الدولي الحالي هو نظام طبيعي. أي إنه منبثق من التجارب العملية والأحداث الواقعية، استناداً إلى الاتفاقيات الدولية والأحداث العالمية والتجارب العملية والطرق التي استعملها التجار في تسوية العمليات التجارية على الصعيد الخارجي، بالإضافة إلى الأنظمة الإدارية والسياسية التي تنبثق من النصوص والقوانين الوضعية. وهكذا، يكون نظام النقد الدولي مع الانظمة الإدارية والسياسية، كل ذلك مستند في وجوده إلى عقل الإنسان، وتجارب الإنسان مستفيداً من أخطائه.
9- لم يدرِ هؤلاء الباحثون والمتشرعون إدارياً وسياسياً وقضائياً ومالياً أن النظرة في بحث أية مشكلة يجب أن تكون منصّبة على هذا الإنسان، وإن المشكلة هي مشكلة الإنسان، وليست مشكلة مالية ولا إدارية ولا سياسية. وإنما المشكلة أية مشكلة هي مشكلة الإنسان من حيث هو إنسان. وهذا يعني أنه لا بد من الرجوع والاحتكام والتقيد بالتشريع الذي وضعه خالق الإنسان لمعالجة مشاكل الإنسان من حيث هو إنسان سواء المالية منها، أم القضائية، أم السياسية، أم الاجتماعية. كل هذه هي مشاكل إنسان، فتبحث على أساس أنها مشكلة إنسان. وهذا يقتضي الإيمان بالأحكام والتقيد بالتشريع الذي أنزله خالق الإنسان، وهو التشريع الإسلامي والنظام الإسلامي.
10- إن نظام النقد الداخلي لأية دولة إنما يفرَض بقوانين ويطبق بقوة القانون. ولكن نظام النقد الدولي، وإن وضع بقوانين ترتكز إلى اتفاقيات وتحت إشراف مؤسسات دولية، إلا أنه يطبق بقوة القانون، ولا يوجد سلطة دولية تمتلك قوانين دولية تلزم بها سائر الدول، وإن كانت مرتبطة موقعة على مواد نظام صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، وبالتالي على مواد قانون اتفاقية (الغات) منظمة التجارة العالمية. أي لا يطبق نظام النقد الدولي بقوة القانون.
لكنه كما يقولون يرجع في الالتزام به إلى الناحية النفسية (سيكولوجياً) حسب الفكرة التي تتكون لدى الجماعات في وضعها الثقة بنظامٍ ما. وهذه ظاهرة في منتهى الخظورة. لأننا لو رجعنا إلى الأزمات النقدية التي اندلعت نيرانها على الصعيد الخارجي لوجدنا أنها تعود إلى هذه الظاهرة، أي تحكم النزعة النفسية في تقبّل القانون وبالتالي الالتزام به. والحقيقة إن الذي يتكون لدى هذه الجماعات ليس ثقة بقانون أو نظامٍ ما. وإنما هو رؤية مصلحية آنية فقط. وبالتالي يستساغ التلاعب بهذا القانون أو ذاك، والاحتيال عليه وخرقه بالمخادعة والتلاعب، وأحياناً كسره من قبل الدولة ذات الهيمنة والنفوذ عالمياً، كما فعل نيكسون عام 1971 عندما أبطل العمل بنظام استبدال الدولار بالذهب، ضارباً عرض الحائط بكل ما بينه وبين شركائه الرأسماليين من اتفاقيات والتزامات. فيكون نيكسون بهذا القرار قد كسر العمود الفقري لاتفاقية بريتون وودز، وأطاح بالذهب عن عرشه الذي اقتعده طيلة قرون طويلة، وسلب منه أهم صلاحياته الأساسية: وهي كونه أداة الدفع الرئيسة في العمليات التجارية، وأداة التغطية للعملات التي يتحدد سعرها على ضوء نسبة هذه التغطية.
إن الدولار نقد متحيز له هوية محددة. فلا يصحّ أن يوضع موضع الذهب أو أن يقوم بالدور الذي يقوم به. فبأي مسوّغ يصبح الدولار قاعدة نظام النقد الدولي؟ هل يستطيع أن يقف موقف الذهب في عالميته، وعدم تحيّزه واستمراريته وقوته الذاتية التي منحتها له القر ون الطويلة؟ فالذهب لا يحتاج إلى فائض من الإنتاج تغطيةً له، ولا يحتاج إلى نفوذ سياسي يستند إليه. وإنما الدول الغنية والضعيفة والجماعات والأفراد، الجميع لديه سواء، لثباته في المحافظة على سعر الصرف تلقائياً. فلا يحتاج إلى قوة قانون، ولا إلى ضمانة دولية. وفي كل هذا ضمان وأمان من التلاعب بأسعار الصرف، وضمان وأمان من حدوث الأزمات.
لقد خاضت أميركا التجربة، وأنزلت الذهب عن عرشه، وسلبت منه صلاحياته، ونصّبت بدله الدولار، وأعطته تلك الصلاحيات التي لا تتوفر إلا في الذهب، وفي نظام الذهب، ظناً منها أن يكتمل لها القعود على عرش المال عالمياً، بضمانة هيمنتها السياسية، وحماية قوتها العسكرية.
إن الإسترليني لم يخرج من منطقة نفوذه، والمارك الألماني يتمتع بنفس القوة التي يتمتع بها الدولار، والفرنك الفرنسي له منطقة يدور فيها.
لماذا لم يستطع الدولار أن يزيح الإسترليني والمارك والفرنك من الساحة، أو على الأقل من مناطق النفوذ القديمة؟ وهذه المصارف المركزية العالمية مليئة بالأرصدة من هذا القطع النادر جنباً إلى جنب مع الدولار. فكيف وقد ظهر له منافس جديد يزاحمه في الساحة الدولية ألا وهو (اليورو) العملة الأوروبية الموحدة، والذي تتبناه إحدى عشرة دولة قوية في إنتاجها، سليمة في اقتصادها، تتمتع بفائض في ميزان مدفوعاتها، وضمن مجموعة اقتصادية متماسكة سياسياً؟
هذا هو الذي كانت تخشاه أميركا، وهو وجود تكتلات نقدية خارج الأطر الدولية، يحميها اتحاد اقتصادي قوي سياسياً وإنتاجياً، بعكس التجمعات الاقتصادية القائمة على أساس اتفاقيات مصلحية فقط، مثل منظمة (آسيان) ومنظمة (آيبك) ومنظمة (نافتا)، ويضاهي هذه المنظمات الإقليمية مؤتمرات اقتصادية مثل (مؤتمر برشلونه) ومؤتمر (بانكوك).
11- إذا قمنا بعملية مقارنة بين نظام النقد الداخلي لأية دولة ونظام النقد الدولي نجد أن هناك اختلافاً مهماً بينهما. حيث إن كلاً منهما يحتاج إلى وحدة نقدية ثابتة من أجل قياس القيم، وتسوية المدفوعات، والاحتفاظ بالأرصدة والمدخرات.
أما نظام النقد الداخلي فيعتمد نقداً واحداً وهو النظام الوطني في عمليات التسوية والأرصدة والمدخرات، في حين أن نظام النقد الدولي يحتاج في هذه العمليات إلى نقدين: نقد البلد الدائن، ونقد البلد المدين. وهذه تعتبر نقطة ضعف في نظام النقد الدولي القائم، وهي نقطة بالغة الخطورة، وتعني فيما تعنيه التحكم الكامل في مقدّرات البلد المدين. حيث لا يوجد على الصعيد الدولي سلطة نقدية واحدة يعود إليها وحدها حق تحديد كمية النقد المصدرة، وتحديد قيمة الوحدة النقدية.
أما الصلاحيات التي أعطيت لصندوق النقد الدولي باعتباره المؤسسة العالمية، فإن صندوق النقد الدولي هذا ومنذ تأسيسه وضع متحيزاً للدولة الأقوى والأغنى. وتحيزه ظاهر في تسلطه على الدول النامية من خلال الشروط التي يضعها عندما يتدخل لعلاج ظاهرة الاختلال في ميزان المدفوعات. وقد ظهرت مواقفه المتحيزة واضحة في علاجه للأزمات النقدية العالمية التي نشأت مؤخراً في جنوب شرق آسيا والبرازيل وروسيا وغيرها. وإذا أضفنا إلى هذا كله أن الصندوق له أثر كبير في افتعال الأزمات الاقتصادية آنفة الذكر، نرى أنه لزاماً لا بد من علاج جذري لنظام النقد الدولي يتناول أول ما يتناول صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، مضافاً إليهما منظمة التجارة العالمية بقوانينها التي تصبّ الفوائد كلها في قنوات الدول الصناعية الكبرى، وبخاصة أميركا.
12- إن نظام النقد الوطني ينحصر حق تحديد كمية النقد المصدرة، وتحديد قيمة الوحدة النقدية فيه في يد البنك المركزي للدولة المعنية. فالبنوك المركزية هي التي تحدد حجم الكتلة النقدية في التداول. لكن استعمالها يعود إلى الافراد أو الوحدات الاقتصادية على مختلف أنواعها، ويقوم البنك المركزي بدور المراقب والمنظم فقط.
أما بالنسبة لنظام النقد الدولي، فالشأن ليس كذلك. إذ المصارف المركزية والمصارف المالية هي التي تحدد كمية السيولة المصدرة، وفي الوقت نفسه هي التي تقوم باستعمالها. وعندنا من المراكز المالية علاوة على البنك المركزي الفدرالي الأميركي الكثير.
13- يقولون: أن نظام النقد الدولي قابل للتطوير والارتقاء لأنه كأي شيء يخضع لقانون النسبية في الزمان والمكان. فالنظام الذي يصلح في بيئة ما، يمكن ألا يصلح إذا نقل إلى بيئة أخرى. والنظام الذي سار سيراً حسناً في الماضي، ربما لم يعد صالحاً في الزمن الراهن. وهذا ينطبق على نظام النقد الدولي (كذا يقولون).
ونقض هذا القول: آتٍ من أن النظام – أي نظام – إنما يوجد لتنظيم علاقات الإنسان، وحل مشاكله، ورعاية شؤونه. ومشاكل الإنسان مهما تعددت وتنوعت تبقى مشاكل إنسان، حتى لو كانت مشاكل مالية أو اقتصادية، أو مشاكل اجتماعية وسياسية. والإنسان لم يتغير منذ الأزمنة الغابرة وحتى يرث الله الأرض وما عليها. خلقه الله بشراً سوياً، فتبقى مشاكله محصورة في إنسانيته، أي في فطرته. أي أن مشاكله تنبثق عن غرائزه وحاجاته العضوية، فلا تغيير ولا تبديل ولا تحوير. وعليه فإن الإنسان لا يخضع لقانون نسبية الزمان والمكان، وقانون نسبية الزمان والمكان لا يكون تأثيره إلا في الوسائل والأساليب فقط. أما الأحكام التي تعالج المشاكل، وترعى بها الشؤون، فهي ثابتة، وليست خاضعة لهذا القانون. والوسائل والأساليب هي الأدوات والحالات التي تنتقى انتقاءً لتسهيل تطبيق الحكم الشرعي أو القانون عند القيام به أو تنفيذه.
ثم إنه إن كان البحث في نظام النقد الدولي من حيث هو نظام، فهو ثابت لا يتغير ولا يخضع لقانون نسبية الزمان والمكان. وأما (النقد) من حيث هو أداة ووسيلة، فأمره يرجع إلى اصطلاح الناس على اتخاذه أداةً أو وسيلةً. وقد استقر اصطلاح الناس منذ القدم على اتخاذ (الذهب) ليكون هو أداة النقد، لميزات كثيرة يتمتع بها هذا المعدن الثمين. فالنقد هو مقياس تقدير السلع، وهذه هي الأثمان، وهو مقياس تقدير المنافع والخدمات، وهذه هي الأجور.
14- كان التعامل النقدي في مراحله الأولى يتمثل في كونه نقداً سلعياً، أي ممثلاً بسلعة استهلاكية أو معدنية. فلم يكن من السهل أبداً عقد الصفقات كبيرة القيمة (مليون مثلاً). لاستحالة عدّ النقود ونقلها من أجل تسديدها.
ولكن عندما وصل النقد إلى مراحله الأخيرة أي مرحلة النقود الائتمانية، أصبح من السهل عقد الصفقات كبيرة القيمة، إذ لم يعد علينا سوى تحرير شيك بالقيمة المطلوبة مهما بلغت. بل تعدى الأمر ذلك إلى أسلوب معاملات البورصات التي تتم بالمليارات بواسطة التلفون أو الأنترنت.
ففي المراحل الأولى – عندما كان النقد سلعياً ومعدنياً – لم تكن تظهر هذه التعقيدات والأزمات التي تصيب الاقتصاد العالمي. فلم يكن هناك اضطرابات حادة ولا تضخم نقدي، لأن النقد يومئذ لم يكن خاضعاً لإدارة الحكومة فيما يتعلق بكمياته المصدرة.
أما في المراحل الأخيرة التي ظهرت فيها الأزمات والاضطرابات – وهي مراحل النقود الاعتبارية – فقد تم تهميش الذهب ثم إلغاؤه، وأصبح باستطاعة الحكومة إصدار أية كمية تشاء من النقد وأصبح هذا النقد إلزامياً، وهو نقد اعتباري وليس نقداً حقيقياً. فالنقد الحقيقي يمتلك قوة إبراء ذاتية كالذهب. أما النقد الاعتباري القانوني فإنه لا يملك قوة إبراء ذاتية، وإنما يستمد قوته من إصدارات قانونية. وهنا يلعب حجم الإنتاج دوره في غطاء النقد مضافاً إليه الثقل السياسي للدولة المصدرة نفسها
[يتبع]
2004-03-10