تحريف الإسلام بحجة تغير الأحكام بتغير الزمان أو المكان (2)
2004/08/10م
المقالات
2,275 زيارة
تحريف الإسلام بحجة تغير الأحكام بتغير الزمان أو المكان (2)
تحدثنا في الحلْقة السابقة عن محاولة إحياء بدعة تغير الأحكام بتغير الزمان أو المكان، وذكرنا بعض المغالطات التي يعتمدها رواد التحريف والتلبيس، لأجل دس الأفكار والمفاهيم الغربية العلمانية، ومن ذلك افتراءاتهم على ابن القيِّم، رحمه الله، ومغالطاتهم في تصوير وتفسير بعض ما فعله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، رضي الله عنه . ونتابع في هذه المقالة بيان المغالطات التي يعتمدونها من خلال تذرعهم ببعض الأئمة، كشهاب الدين القرافي، وابن عابدين، رحمهما الله تعالى، وكذلك من خلال استنادهم إلى بعض القواعد التي ذكرتْها مجلة الأحكام العدلية، التي كانت معتمدة في الخلافة العثمانية.
اختلاف الأحكام باختلاف معاني الألفاظ والأفعال والنيات والعادات والأعراف:
لا يختلف ما ذهب إليه الإمامان القرافي وابن عابدين عما ذهب إليه ابن القيم، في أن الأحكام المتعلقة بأقوال الناس وألفا ظهم تختلف إذا اختلفت معاني هذه الأقوال والألفاظ. فقد تكون الألفاظ واحدةً، ولكن معناها عند قوم يختلف عن معناها عند غيرهم، وقد يكون للَّفظ معنىً في اللغة، ومعنىً آخر في الاصطلاح، أو في العرف الاستعمالي. وقد يعتمد المعنى على قرائن الأحوال التي قد تختلف دلالاتها بين قوم وغيرهم، وقد يعتمد على النيَّة. فإذ اختلفت معاني الألفاظ والجُمل، فإن الأحكام التي كانت هذه المعاني مناطاً لها تختلف تبعاً لذلك. وهذا يدخل في ألفاظ النكاح، والطلاق، والعتاق، والنذور، والأيْمان، وسائر العقود، وفي الأفعال التي تصبح ملازمة عند بعض الناس لأفعالٍ غيرها، أو ذات دلالة على مقاصد أو معانٍ معينة. كدلالة لباس معين على الزفاف، وغيره على الحداد، وآخر على أن لابسه طبيب، أو جندي، أو شرطي…
وهذا الاختلاف لا علاقة له بزمان أو مكان، وليس هو تغيراً في الأحكام، فالحكم الشرعي هو «خطاب الشارع المتعلق بأفعال العباد»، فإذا اختلف الفعل اختلف حكمه، والفعل الواحد حكمه واحد، وثابت في كل زمان ومكان. وإذا كان الفعل قولاً، فإن الأقوال إنما وضعت لأجل معانيها، فإذا اختلفت معانيها، فإن هذا يعني أن الفعل – الذي هو قول – قد اختلف، وبالتالي فإن الحكم يختلف تبعاً لاختلاف الفعل، شأنه شأن سائر الأحكام مع سائر الأفعال. وكذلك إذا كان للفعل دلالة عند قوم على معنى معين مختلف ٍ عن دلالته عند غيرهم، فإن اختلاف الحكم هنا لا علاقة له بزمان أو مكان، وإنما سببه اختلاف الفعل. فعلى سبيل المثال، اللباس الذي يختص به الطبيب هو في الأصل جائز، وجائز لأيٍ كان. ولما ارتبط هذا اللباس بمعنىً معين وهو أن لابسه طبيب، صار إذا لبسه غير الطبيب، ليوحي للناس أنه طبيب، حراماً، وليس ذلك من باب تحريم المباح، وإنما من باب تحريم الغش والخديعة، وهو حكم عام وثابت ولا صلة للأمر بزمان أو مكان.
وكمثال آخر: حمل الحقيبة للرجل أو المرأة أمر جائز، واتخاذ أحذية معينة أمر جائز لهما أيضاً. ولما اختص، من هذه المباحات، حقائب ذات شكل معين، وأحذية ذات شكل معين، للمرأة، وأخرى للرجل، صار اتخاذ الرجل لما اختص بالمرأة واتخاذ المرأة لما اختص بالرجل، دالاًّ على معنى معين حرمه الشرع، وهو تشبه الرجال بالنساء، وتشبه النساء بالرجال. فتحريم هذا الأمر ليس تغيراً في الأحكام، وإنما هو عين الثبات، فتحريم التشبه المذكور حكم عامّ وثابت.
ومثل ذلك يقال في الأحكام المتعلقة بالأقوال أو بالنيات والقصود، فهي ثابتة بثبات معاني الأقوال، وثبات النيات والقصود.
وفيما يلي بعض أقوال القرافي وابن عابدين في هذا الأمر، ما يؤكد أن الاستناد إليها في زعم تغير الأحكام بتغير الزمان أو المكان، وبتعبير آخر: تطوير الأحكام، هو استناد باطل في زعم باطل.
رأي القرافي:
أما القرافي، رحمه الله، فهو يبيِّن مراده بوضوح في كتابه (الفروق) عند الفرق الثامن والعشرين: «بين قاعدة العرف القولي يُقضى به على الألفاظ ويخصِّصُها، وبين قاعدة العرف الفعلي يُقضى به على الألفاظ ولا يخصِّصُها». ويأتي بأمثلة على ذلك، نذكر منها اثنين. يقول: «إذا فرضنا مَلِكاً عجمياً يتكلم بالعجمية، وهو يعرف اللغة العربية، غير أنه لا يتكلم بها لِثِقَلها عليه، فحلف لا يلبس ثوباً، ولا يأكل خبزاً، وكان حلفه بها بالألفاظ العربية التي لم تجرِ عادته في استعمالها، وعادته في غذائه، لا يأكل إلا خبز الشعير، ولا يلبس إلا ثياب قطن، فإنا نُحَنِّثُه بأي ثوب لبسه، وبأي خبز أكله، سواء أكان من معتاده في فعله أم لا، وهذا إذا لم تجرِ له عادة باستعمال اللغة العربية؛ لأنه لو كانت عادته استعمال اللغة العربية لكان طول أيامه يقول: أكلت خبزاً، وائتوني بخبز، وعجِّلوا بالخبز، والخبز على المائدة قليل، ونحو ذلك، لا يريد في ذلك كله إلا خبز الشعير الذي جرت عادته به، فيصير له في لفظ عرفٌ الخبز قولي ناسخ للغة، فلا نُحَنِّثُه بغير خبز الشعير، وكذلك القول في ثوب القطن، بخلاف ما إذا كان لا ينطق بلفظ الخبز والثوب إلا على الندرة، فإنه لا يكون له في الألفاظ اللغوية عرفٌ مخصِّصٌ يقدَّم على اللغة، فيحنث بعموم المسميات اللغوية، من غير تخصيص ولا تقييد، فتأمَّل ذلك» . فههنا يبيِّن القرافي حكمَيْن مختلفين في الأَيْمان، والاختلاف فيهما راجع إلى أمرين: أحدهما: دلالة اللفظ، هل هو على عموم أنواع الخبز وعموم أنواع الثياب، أو على خصوص نوعٍ معين من كلٍّ منهما. والثاني: قصد الحالف باللفظ، هل هو على الأنواع أو على أنواع معينة منها. ولا مدخل هنا للقول بزمان أو مكان وإنما المعنى هو أن اللفظ إذا كان عاماً يشترك في مدلوله كثيرون، ويَحْتَمِلُ أن يُراد به الخصوص، فدلالته على العموم أو الخصوص تعتمد على نية صاحب اليمين. وهذه قاعدة عامة وثابتة عند القرافي. واختلاف الحكم عنده، في كون الحالف يحنث في الحالة الأولى، ولا يحنث في الثانية، لا يرجع إلى زمان أو مكان، وإنما هو راجع إلى كون لفظ الخبز أو الثوب عامّاً، والحالف لم يَنْوِ قصره على خبز الشعير وحده أو على القطن.
ويقول القرافي في مثالٍ آخر: «إذا حلف لا يأكل رؤوساً، يحنث بجميع الرؤوس عند ابن القاسم، ولا يحنث إلا برؤوس الأنعام عند أشهب. والقولان مبنيان على أن أهل العرف قد نقلوا هذا اللفظ: أكلت رؤوساً، لأكل رؤوس الأنعام دون غيرها، بسبب كثرة استعمالهم لذلك المرَكَّب في هذا النوع خاصة دون بقية أنواع الرؤوس. فهذا مدرك أشهب فيقدَّم النقل العرفي على الوضع اللغوي.وابن القاسم يسلِّم استعمال أهل العرف لذلك، ولكن لم يصل الاستعمال عنده إلى هذه الغاية الموجبة للنقل، فإن الغلبة قد تقصر عن النقل» .
ففي هذا المثال أيضاً، قد يحنث الحالف إذا أطلق يمينه: لا أكلت رؤوساً، وقد لا يحنث، وهذا يعتمد على المعنى الأغلب لهذا اللفظ المركب. وهو لا يحنث إلا برؤوس الأنعام عند أشهب، ويحنث برأس عصفور عند ابن القاسم، واختلافهما في هذه المسألة يرجع إلى اختلافهما في تحقيق مناط الحكم. قال القرافي: «فاتفق أشهب وابن القاسم على أن النقل العرفي مقدَّم على اللغة إذا وُجِد، واختلفا في وجوده هنا، فالكلام بينهما في تحقيق المناط» .
وخلاصة الأمر في هذا عند القرافي أن الأحكام التي علّقها الشارع على دلالات الألفاظ، وعلى النيات، تتغير بحسب هذه الدلالات والنيات؛ لأن الألفاظ والنيات هي مناطاتها.
ومن أراد الاستزادة مما عند القرافي في هذا الأمر فلينظر إلى الفرق التاسع والعشرين عنده، وهو في الفرق بين النية المخصِّصة والنية المؤكدة، حيث يقول: هذا الفرق أيضاً ذهب عنه كل من يفتي من أهل العصر، فلا يكادون يتعرضون عند الفتاوى للفرق بينهما، فإذا جاءهم حالف وقال: حلفت لا لبست ثوباً، ونويت الكتان، يقولون له: لا تحنث بغير الكتان، وهو خطأ بالإجماع، وكذلك بقية النظائر. وطريق كشف الغطاء عن ذلك أن تقول: إن المطلِقَ إذا أطلق اللفظ العام، ونوى جميع أفراده بيمينه، حَنَّثْناه بكل فرد من ذلك العموم لوجود اللفظ فيه، ولوجود النية، والنية هنا مؤكدة لصيغة العموم. وإن أطلق اللفظ العام من غير نيةٍ، ولا بساطٍ ، ولا عادةٍ صارفةٍ، حَنَّثْناه بكل فرد من أفراد العموم، للوضع الصريح في ذلك، وإن أطلق اللفظ العام، ونوى بعضها باليمين، وغفل عن البعض الآخر، لم يتعرض له بنفيٍ، ولا إثباتٍ، حَنَّثْناه بالبعض المنوي باللفظ، والنية المؤكدة، وبالبعض الآخر باللفظ، فإنه مستقل بالحكم، غير محتاج، إلى النية، لصراحته، والصريح لا يحتاج إلى غيره. وإن أطلق اللفظ العام وقال: نويت إخراج بعض أنواعه عن اليمين قلنا: لا يحنث بذلك البعض المٌخْرَج؛ لأن نيته مخصصة لعموم لفظه، بخلاف نيته الأولى وهي أن يقصد بعض الأنواع باليمين، ويغفل عن غيره» .
وهكذا فإن اختلاف هذه الأحكام بحسب دلالات الألفاظ، أو النيات، يتبع قواعد ثابتة، وهو عين ثبات الأحكام.
رأي ابن عابدين:
ولا يختلف ما ذهب إليه ابن عابدين، رحمه الله، عما سبق في هذا الأمر، وأنه لا يخرج عن أعراف الناس في معاني الألفاظ، وعن عاداتهم في إطلاق الألفاظ والتراكيب وفي فهمها، وعن دلالة أو ملازمة بعض الأفعال لبعض المعاني. وفيما يلي بعض أقواله للبيان والتأكيد.
يقول رحمه الله تحت عنوان: (الأَيْمانُ مبنية على العُرف): «لأن المتكلِّم إنما يتكلم بالكلام العربي، أعني الألفاظ التي يراد بها معانيها التي وُضعت لها في العُرف، كما أن العربي حال كونه بين أهل اللغة إنما يتكلم بالحقائق اللغوية، فوجب صرف ألفاظ المتكلم إلى ما عهد أنه المراد بها» .
وقال تحت عنوان: (مبحث مهم في تحقيق قولهم: «الأَيْمان مبنيَّة على الألفاظ لا على الأغراض): أي الألفاظ العرفية … واحترز بها عن القول ببنائها على عرف اللغة أو عرف القرآن، ففي حلفه لا يركب دابَّةً ولا يجلس على وَتَد، لا يحنثُ بركوبه إنساناً، وجلوسه على جبل، وإن كان الأول في عرف اللغة دابَّةً والثاني في القرآن وتداً، وقوله: لا على الأغراض، أي المقاصد والنيات، احترز به عن القول ببنائها على النية» . ثم قال: «إن اللفظ إذا كان عاماً يجوز تخصيصه بالعُرف، كما لو حلف لا يأكل رأساً، فإنه في العرف اسم لما يكبس في التنور، ويباع في الأسواق، وهو رأس الغنم دون رأس العصفور ونحوه، فالغرض العرفي يخصص عمومه، فإذا أطلق ينصرف إلى المتعارف» .
ويقول تحت عنوان: (مطلب في اعتبار العرف العملي كالعرف اللفظي): «ألا ترى أنه لو حلف لا يركب دابة، لا يحنث بالركوب على إنسان، للعرف اللفظي، فإن اللفظ، عرفاً، لا يتناول إلا الكراع، وإن كان في اللغة يتناوله، ولو حلف لا يركب حيواناً، يحنث بالركوب على إنسان؛ لأن اللفظ يتناول جميع الحيوانات، والعرفُ العملي، وهو أنه لا يُركب عادةً، لا يصلح مُقَيِّداً» . ثم ذكر الخلاف في مسألة الحنث، إذا حلف لا يركب حيواناً، وأن الخلاف راجع إلى العرف العملي، هل هو مخصص كالعرف القولي أو لا، ثم ذكر أمثلة منها: «وقد سُئلتُ لو أن بدوياً اعتاد أكل خبز الشعير، فدخل بلدةً، المعتاد « فيها أكل خبز الحنطة، واستمرَّ هو لا يأكل إلا الشعير، فحلف لا يأكل خبزاً، فقلت: ينعقد على عرف نفسه، فيحنث بالشعير؛ لأنه لم ينعقد على عرف الناس، إلا إذا كان الحالف يتعاطاه، فهو متهم فيه، فيُصرف كلامه إليه لذلك، وهذا منتفٍ فيمن لم يوافقهم، بل هو مجانب لهم» .
فهذه المطالب التي يذكرها ابن عابدين، والأمثلة التي يذكرها، على تأثير العرف والعادة في الحكم الشرعي، لا يخرج معناها عن العرف والعادة في استعمال الألفاظ والجمل، للدلالة على مقاصدهم، ولفهم الأقوال، ولا علاقة لها من قريب أو بعيد بالزمان أو المكان، ولا بالعادات أو الأعراف، في استحسان الأقوال أو استقباحها، أو في عَدِّها من المقبول أو المرفوض، أو من الممدوح أو المذموم.
ومما يزيد الأمر بياناً وتأكيداً، الأمثلة التي أتى بها ابن عابدين تحت عنوان: (اليمين تتخصص بدلالة العرف والعادة)، ومنها: «رجلٌ حلَّف رجلاً أن يطيعه في كل ما يأمره، وينهاه عنه، ثم نهاه عن جماع امرأته، لا يحنث، إن لم يكن هناك سبب يدل عليه، لأن الناس لا يريدون، بهذا، النهيَ عن جماع امرأته عادةً كما لا يراد به النهي عن الأكل والشرب» . ومنها: «اتهمته امرأته بجاريةٍ، فحلف لا يمسها، انصرف إلى المس الذي تكره المرأة. وكذا لو قال: إن وضعت يدي على جاريتي فهي حرَّة، فضربها، ووضع يده عليها، لا يحنث إن كانت يمينه لأجل المرأة ، ولأمر يدل على أنه يريد الوضع لغير الضرب» . ومن الأمثلة على المراد بالعرف والعادة قوله: «ومثله فيما يظهر ما ذكره بعض محققي الحنابلة: قال لزوجته: إن قلتِ لي كلاماً، ولم أقل لك مثله، فأنت طالق. فقالت له: أنت طالق، ولم يقل لها مثله، من أنها لا تطلق؛ لأن كلام الزوج مخصص فيما كان سباً، أو دعاءً، أو نحوه، إذ ليس مراده أنها لو قالت: إشتر لي ثوباً، أن يقول لها مثله، بل أراد الكلام الذي كان سبب حلفه» .
ويذكر ابن عابدين أمثلة على تخصيص العام بالنية، وعلى الأيمان، والطلاق، والعتاق، والعقود وسائر التصرفات، وكلها لا تخرج عن المذكور آنفاً عنه وعن القرافي. بهذه المعاني – المذكورة أعلاه– تحدَّثَ بعض أئمة الفقه عن العرف والعادة، وبهذا الخصوص، وبهذه الحدود، وضعوا بعض القواعد، فإذا لم تؤخذ موضوعاتها، وحقيقة معانيها، ومواضع تطبيقها، بل أطلقت وعُمِّمَت، حصل الانحراف والتحريف.
الرأي في مجلة الأحكام العدلية:
بهذه المعاني الخاصة جاءت بعض القواعد الشرعية مثل: «المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً» و «المعروف بين التجار كالمشروط بينهم» و «التعيين بالعرف كالتعيين بالنص» . وهي قواعد ذكرتها مجلة الأحكام العدلية، وجاء في شرحها ما يدل على خصوص معانيها، ومواضع تطبيقها. وفيما يلي بعض الأمثلة على ذلك، ما يؤكد أن التذرع بمثل هذه القواعد، وربط تغيير الأحكام بالزمان والمكان، ونسبة ذلك إلى الفقهاء وإلى مجلة الأحكام العدلية، وتعميمها، وعدم قصرها على مواضعها الخاصة، هو من الجهل، إن لم يكن تضليلاً وتحريفاً.
جاء في المجلة: (المادة 39: لا يُنْكَر تغيّر الأحكام بتغيّر الأزمان). وجاء في شرحها: «والمراد أن الأحكام المبنية على العرف والعادة، لا على النص والدليل، تتبدل مع تبدل العرف والعوائد». إذن، شرح القاعدة يذكر أن الأمر قاصر على الأحكام التي جعل الشرع مناطها العرف والعادة، وهذا فيما أباحه الشرع من عرفٍ أو عادةٍ، وكان نص الإباحة فيها عاماً في أفعال كثيرة قد يصير أي منها عادةً. وجاء أيضاً في شرح هذه المادة في المجلة: «فإنه كان عند الفقهاء المتقدمين، إذا أحدٌ اشترى داراً، ورأى أحد بيوتها، سقط خيار رؤيته، وذلك لأن حجر الدور في عهدهم كانت تبنى على نمط واحد، فلما تبدلت الأعصار، وصارت بيوت المنازل تبنى على نسقٍ مختلف بالشكل والقدر، صار لا بد من رؤية حجر الدار كلها كي يسقط خيار الرؤية». إذن، الحكم، وهو خيار الرؤية، عامٌ وثابت. وقد كانت رؤية غرفة واحدة تدل على ما لم يُرَ، ثم صارت رؤية غرفة واحدة لا تدل على ما لم يُرَ، فهل هذا تغير في الحكم بناء على عرفٍ أو زمان، أو أن التغير هو في الواقع الذي جاء له الحكم.
وجاء في المجلة: (المادة 40: الحقيقة تترك بدلالة العادة). وجاء في الشرح: «لو قال الرجل لخادمه: أشعل الفنار، كان عليه أن يشعل الشمعة التي في الفنار، ولو أشعله فاحترق ضَمِنَ لأن مفهوم كلام الآمر بحسب العرف إشعال الشمعة لا الفنار، إذ غرض الآمر إشعالها لا إشعاله».
وجاء في المجلة: (المادة 36: العادة مُحَكَّمة يعني أن العادة، عامةً كانت أو خاصة، تُجعل حكماً لإثبات حكم شرعي). وجاء في الشرح: «إذا باع حماراً، ولم يذكر وقتَ البيع، دخول البرذعة والاكاف أو عدمه، فيرجع في ذلك إلى العرف والعادة. منه: إذا استأجر حمالاً لنقل شيء من السوق إلى بيته، فيعتبر في حمله إلى داخل الباب العرف والعادة». وجاء في الشرح أيضاً: «حيث لم يرد نصٌ بأخذ وإعطاء الزيتون والزيت ونحوها، كيلاً أو وزناً، فيرجع لدى الحاجة إلى عرف الناس، وأما فيما ورد النص فيه، فلا عبرة للعادة». أي أن ما لم يرد فيه نص خاص فإنه يُعْمَلُ فيه بالنص، أو النصوص العامة، التي تبيح ذلك الفعل، فيعتاده الناس، ويصبح له معنى ملازم له، ومفهوم منه، وإن لم يُذكر. ويكون ذلك المعنى وكأنه متفق عليه، أو مشروط، لأنه مفهوم ضمناً وإن لم يُذكر.
وبهذا يتبين أن هذه القواعد ليست قواعد كلية، أو عامة مطلقة، وإنما هي قواعد فقهية خاصة بمواضيع معينة. أي أن عمومها لا يتجاوز موضوعها، وعلى ذلك فتعميمها، وإطلاقها، خطأ، ويؤدي إلى التحريف والانحراف. والاستناد إليها لتبرير إباحة المنكرات، كالقروض الربوية، أو السكوت على منكرات الحكام، أو للدعوة إلى الديمقراطية والحريات العامة، وحرية العقيدة، أو لتبرير القبول بقوانين الكفر، ومفاهيم الحضارة الغربية، تحت عناوين مرونة الإسلام، وتجديد الخطاب الديني، وما شاكل ذلك، هو عمل تضليلي وتحريفي
[يتبع بيان أقوال الشاطبي وثبات الأحكام الشرعية]
2004-08-10