من الهداية إلى الشهادة (قصة شهيد) (1)
2005/03/08م
المقالات
1,801 زيارة
من الهداية إلى الشهادة (قصة شهيد) (1)
هذه قصة واقعية… قصة شهيد من أوزبكستان تُـروى بلسان حاله… منذ الهداية إلى الإسلام، وعمله مع حـزب التحـرير، إلى اعتقاله وإدخاله سجون الظالمين… سجون الطاغية كريموف حاكم أوزبكستان… ثم التعذيب المفضي إلى الاستشهاد… أسكنه الله فسيح جناته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
و«الـوعــي» تنشر هذه القصة على صفحاتها مبيِّـنة سيرة أولئك الرجال الرجال، الذين لا يخشون في الله لومة لائم، قلوبهم عامرة بالإيمان، ألسنتهم رطبة بذكر الله، تردد قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من أعظم الجهاد كلمة حق عند ذي سلطان جائر».
رحم الله رشيداً، ونصر إخوانه من بعده بإقامة الخـلافة الراشدة، وحينها سيعلم الطاغية كريموف، وكل الطغاة الظالمين أمثاله، أي منقلب ينقلبون.
وهذه هي القصة:
بسم الله الرحمن الرحيم
قبيل النهاية
وضعوا رشيداً المعذب بشدة ووحشية في غرفة ضيقة. كل أعضائه يتألم بشدة، لم يبق في بدنه مكان لا يُـرى أثر للضرب فيه، وانكسرت يده اليمنى، ومع ذلك أحس بلذة، لذة غير عادية، وخطر بباله كلاماً كان قد سمعه منذ زمن قديم “يتوصل إلى اللذة الروحية بالأوجاع البدنية”. وفي الوقت نفسه مست قلبه المخافة من عدم قبول عمله، فرقّ قلبه، وانحدرت دموعه إلى خديه، ودعا بخشوع، خشوع لم يشعر بمثله في حياته كلها: «ربي تقبل مني واعف عني». عندئذ وقعت حادثة عجيبة، وتصوّر وكأن الرب نفسه نظر إليه نظرة الرحمة، وقال : «قبلت». اشتدت لذة رشيد إلى درجة لا توصف، وبدا وكأن كيانه كله قد غرق في طمأنينة، لم يذق مثلها من قبل، وتذكّـر قول سيد قطب، رحمه الله، “الحياة في ظلال القرآن نعمة، نعمة لا يعرفها إلا من ذاقها”. وقال في نفسه تقليداً له “الأذى في سبيل الله نعمة، نعمة لا يعرفها إلا من ذاقها”.
المرحلة الأولى
ولد رشيد من أسرة مثقفة، وتخرج كإخوته من كلية الجغرافيا، وترك تخصصه المحبوب، واشتغل بالتجارة بسبب عيشه في مجتمع لا يمكن العيش براتب فيه. كان يذهب إلى إيران للتجارة. وكانت تؤلمه الخيانات في المعاملات، والرشاوى في الجمارك، وأطماع شرطي السير الخبيثة، ولا يزول عن قلبه الهم الموهوم، رغم كونه سالماً غنياً في بيته وأهله، لا سيما بعد تلك الحادثة العجيبة عندما كان عمره اثنتي عشرة سنة، فبينما كان يركض، وكان كل همه موجهاً إلى نيل الكرة، ضربته سيارة،ولم يشعر بضربها له، إلا عندما أفاق، حيث سمع الناس يتكلمون في أنه رجع، بحفظ الله، من عتبة الموت. وكان ما بين الكلام الذي سمعه وبين الرؤيا التي رآها عندما كان مغشياً عليه تناسب ما. حيث رأى أن رجلاً في لباس أبيض أخذ بيده وتوجه به إلى جهة غير معلومة. وعندئذ واجه رشيد مفهوم الموت لأول مرة، واقشعر جلده، وأصبح أسيراً لتلك التساؤلات: من أنا؟ من أين جئت؟ إلى أين أذهب؟ وما هي الغاية من وجودي؟
عندما بلغ سن الشباب أخذ يبحث عن الجواب لأسئلته، فقرأ كتباً كثيرة ولم يقتنع بما كان فيها من الأفكار. فمفهوم عدم زوال أي شيء، وعدم المحاسبة على أي عمل، كان يشتعل تارة وينطفئ تارة أخرى في زاوية من زوايا قلبه وتفكيره وتصوره، وكان هذا أكثر ما يهمه.
وفي مثلٍ “لا قدر في ماء يجري أمامك” حكمة بالغة. فالإنسان يبحث أحياناً عن أهم شيء له من العالم كله، ولا ينظر تحت قدميه وهو موجود هناك. وحدث برشيد مثل هذا. فهو لم يلقَ في طريقه إلى غايته كتاباً إلا وقرأه، ولا فيلسوفاً إلا وتعرف بأفكاره. وأخذته الحيرة عندما وجد ما بحث عنه طوال حياته في نفسه. إنه كان يحتسب نفسه مسلماً من قبل، حيث كان يذهب إلى صلاة العيدين والجنازة والمراسم الدينية، ولكنه لم يفكر ولا مرة أين يُـرجع أساس هذه الأمور. فهو قد عجب من ذلك، وتحيّـر، ووبخ نفسه.
لقد حدثت له حادثة. هل يجوز أن يسمي هذه الحادثة صدفةً؟ فالحق، إنها ليست بصدفة، بل هي رحمة الله وهدايته. فإنه ســبحانه يقول: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ4 ) [العنكبوت 69]. فرشيد قد جاهد في بحثه عن الحق.
ذات يوم، أراد رشيد أن يتخذ رفيقاً له في السفر عند رجوعه من سمرقند، كيلا يغلبه النوم في الطريق، وهو يقود سيارته منفرداً، ولكن بالتصادف، بل برحمة الله، لقي صاحبه محمداً. ومحمد هذا كان شاباً ليس فيه ما يجذب إليه، ولكن عندما تنظر إليه بدقة، ترى في عينيه جدية، وفي وجهه بشراً. وفي الطريق أوقفته شرطة السير من غير أن يخالف قواعد السير، فغضب رشيد من هذه الظلم الفاضح، وركب سيارته، فقال له محمد، عندما رآه غضبان:
– لعل كلب المجتمع المتعفن قد أزعجك، لا تبالِ، فإن مثل هذه الكلاب لا ينتظر منهم غير هذا.
تعجب رشيد من قول محمد وقال:
– لماذا تقول هذا الكلام؟
– هل في قولي شيء من الكذب فأرجع عن قولي؟ نقول إن أوزبكستان غنية بالمعادن الطبيعية، وفي هذه الدولة لا يكفي راتب موظف مثقف لربع حاجاته الضرورية، من استطاع أن يعول أهله فهو البطل. هذا العميل الذي استقر على الحكم بدعم من سيده أميركا يمتص خيرات البلاد، والأوزبكي المسلم الذي ساد أجداده العالم، وقع في يد خبيث لا يعرف أبوه بالضبط. إنه هو الذي أفسد الدولة مطلقاً. فلم يبق ولا جهة واحدة يصلح العمل فيها. لقد أصبح الجهلاء علماء، والعلماء تجاراً، ووسّـد حماية الدولة إلى السفهاء، وعُـزل كل من عنده شيء من الفتوة والرجولة، أو حبس، أو قتل، أو أخرج، فلم يبق إلا الجبناء. وهم سكتوا عندما لم يجيدوا الكذب، ولكن لم يقولوا الحق قط، وليس في مثل: “إذا أردت أن ترى الجنة فانظر إلى تلفزيون أوزبكستان، وإذا أردت أن ترى جهنم فعش فيها” أي مبالغة.
وجد رشيد في قول محمد التفاعل في نفسه، بين الاضطراب والتفكير العميق. كثيراً ما لا يستطيع التفكير العميق من يضطرب، وبالعكس لا يضطرب من يفكر عميقاً.
– ونحن مسلمون -استمر محمد في قوله- نتبع فكرة ضعيفة ليس بينها وبين الوساوس فرق كبير، ونترك فكرتنا التي تقنع العقل ويطمئن لها القلب!
– وما هي فكرتنا؟ سأل رشيد.
– فكرة الإسلام.
– فكرة الإسلام؟!
– نعم فكرة الإسلام. من الأسف الشديد أننا نحسب أنفسنا مسلمين ولا ندري ما هو الإسلام. ها أنت تعجب من قولي فكرة الإسلام، ألستَ بمسلم؟
– بلى، مسلم، والحمد لله.
– إذن قل لي، ما هو الإسلام؟
تردد رشيد في الجواب، أراد أن يقول قولاً ما، ولكنه سكت.. سكت لأنه ما كان يدري عن الإسلام إلا القشور. واضطر أن يعترف بهذه الحقيقة المرة، وتحيّر من أنه لم يفكر بعدُ في هذا.
– لا تدري يا صاحبي! لا تدري! وفي الحقيقة إنه كان أول أمر يجب عليك أن تتعلمه. يجب أن يتعلم هذا الأمر الرياضي قبل الرياضة، والفيزيائي قبل الفيزياء، والنجار قبل النجارة، والخباز قبل الخبازة، فكيف تعيش وأنت لا تعلم الغاية من الحياة؟ هل هذا من الممكنات والمعقولات؟
تأثر رشيد وأحس قلبه بشيء ما. وقع في حالة رجل بحث عن كنـز طوال حياته ثم ها هو يجد معالمه؛ لأن هذه التساؤلات كانت تهمه منذ زمن طويل، فما أشد ما كان عناؤه في مجال البحث هذه عن الحقيقة.
– فأنت مثلاً كما أظن ما ذهبت إلى سمرقند ورجعت منها بغير غاية. أليس كذلك؟
– بلى.
– وإلى الموت؟
– ما فهمت قولك.
– أعتذر منك إن كان سؤالي غليظاً. ولكن عمر الإنسان يؤدي إلى الموت، والحياة سفر من الولادة إلى الموت، إنه ليس بسفر فقط بل أعظمه وأهمه. إن كان سفر سمرقند بغير غاية فلا بأس به، أما إن كان سفر الحياة بغير غاية فمعاذ الله. وسؤالي لك هو بهذا المعنى: ما هي غايتك من سفر حياتك؟
تردد رشيد أكثر، وأراد أن يقول إن غايتي تربية الأولاد، وبناء البيت، والتدقيق العلمي، إلى آخره، ولكن سكت. سكت لأنه لم يقتنع بعد من هذه الأمور. كان يرى أن الحياة لابد أن تكون أكمل وأشمل وأدق مما يتصوره.
–…
– لماذا تسكت؟ أثقلت عليك بسؤالي؟ كيف تعيش بغير غاية؟ أتمضي حياتك ولا يهمك شيء؟
– لا ليس كذلك، فأنا أيضاً كإنسان يهمني تربية الأولاد، وإعالة البيت، وكسب المال، إلى آخره.
– أعتذر منك، فأنا لا أحب الميوعة، أقول الحق في وجهك. مثل هذه الاهتمامات توجد حتى عند الحيوانات والطيور. نعم هناك الفرق في الشكل، وهل يكفي هذا للفرق عن الحيوان؟
كان رشيد قد تفكر في ذلك من قبل. ولكن لم يقنعه الفرق الشكلي بين الإنسان والحيوان أبداً. كان يرى أنه لابد أن يكون هناك أمر ما.
– وأنت ما ظنك في المسألة؟
– أنا إنسان عاقل، أظن أن الشكل لا يكفي لأن يفرق بيني وبين الحيوان. أنا مسلم أؤمن أن الله قد خلقني والكون، هو الذي خلق جدي الكبير وأدخله إلى الجنة، وكانت الملائكة قبل ذلك يعبدون الله إلزامياً، فأراد الله أن يخلق خلقاً يعبدونه اختيارياً. ولما كانت الطاعة الاختيارية أفضل من الطاعة الإلزامية، أمر الملائكة أن يسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى، واستكبر، وأقسم أنه سيغوي بني آدم. ومن المعلوم أن الطاعة الاختيارية تظهر في الأمر والنهي، فابتلى الله آدم بالنهي عن أكل الشجرة، فأغوى الشيطان جدي، فأهبطه الله إلى الأرض، ومع ذلك فالرب تعالى لم يدع بني آدم بغير عناية، بل أرسل إليهم رسلاً يبشرون وينذرون، وخاتمهم قائدنا محمد رسول الله. إذن فالطريق أمامي واضح، أي إن الغاية من حياتي هي الرجوع إلى دار جدي الأول.
وكأن محمداً قد فتح لرشيد الباب الذي كان مغلقاً أمامه، فقال:
– ألا تعلمني طريقك؟
ففرح محمد من هذا كأنه وجد كنـزاً، وفهم رشيد سر هذا الفرح ولكن بعد زمن، عندما تدبر قول رسول الله r: «لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من الدنيا وما فيها».
وفي الطريق، سأل رشيد محمداً أسئلة كانت تهمه، فكان جواب محمد أفضل مما انتظر منه. وكان الحوار بينهما حاراً حتى لم يشعر بدخولهما إلى طشقند. فهذان الصاحبان اللذان التقيا قبل ساعات قد افترقا كأنهما متصاحبان منذ مائة عام. وقد صعب الفراق عليهما.
وبذلك اتصل رشيد ومحمد بصلة الود والصدق، ولم يصبرا الهجر يوماً واحداً. كان رشيد لا يشبع من كلام محمد، ويستمع إليه ساعات بلا ملل. وكان محمد يفرح من أنه قد علّـم رشيداً في عدة أسابيع العلوم التي كان يعلمها غيره في عدة سنوات.
فوجود الخالق، ووحدانيته، وعظيم قدرته، وصدق رسوله، ونزول القرآن من الله، كل تلك المعلومات والمفاهيم أشبعت عقل رشيد، وأجابته عن كل ما كان يبحث عنه.
المرحلة الثانية
وجد رشيد حلاوة الإيمان. وأحس في سويداء قلبه أن متاع الدنيا برمته ليس بشيء إزاء هذه الحلاوة. أخذ يفكر في أن عمر الإنسان إزاء الأبدية والأزلية كرأس إبرة في صحراء مترامية الأطراف. وفي الوقت نفسه علم أن هذا العمر القصير ثمين بالنسبة للإنسان، بحيث لو صرف لإعادة ثانية منه كل أموال الدنيا لم يعد أبداً. إذن يجب أن تصرف هذه الثروة لغاية مناسبة لها. الاتصال بالأبدية والأزلية، أي راحة! أي طمأنينة! أي لذة! والانقطاع عن الأبدية والأزلية، أي مشقة! أي كلفة! أي اضطراب! الاتصال بالأبدية والأزلية يرفع الإنسان إلى العلى بقدر ما يهبطه الانقطاع عنهما إلى الحضيض.
خجل رشيد من ماضيه، عندما قرأ له محمد هذا القول لسيد قطب، بشوق وحرارة: «وعشـت –في ظلال القرآن- أنظر من علو إلى الجاهلية التي تموج في الأرض، وإلى اهتمامات أهلها الصغيرة الهزيلة.. أنظر إلى تعاجب أهل هذه الجاهلية بما لديهم من معرفة الأطفال… كما ينظر الكبير إلى عبث الأطفال، ومحاولات الأطفال، ولثغة الأطفال.. وأعجب.. ما بال هؤلاء الناس؟! ما بالهم يرتكسون في الحمأة الوبيئة، ولا يسمعون النداء العلوي الجليل. النداء الذي يرفع العمر، ويباركه، ويزكيه؟»
سأل رشيد يوماً صاحبه:
– من أين تعلمت هذه العلوم يا محمد؟
– سنتكلم في هذا كثيراً فيما بعد.
– كنت تعلم كل هذا وعلمتني، فكيف الناس في أطرافنا؟ كيف نعلمهم؟ كيف نريهم الحق؟
– ألم أقل لك سنتكلم في هذا كثيراً فيما بعد، فمن واجبي أن أخبرك بأمور مهمة.
– أخبرني الآن.
فتيقّـن محمد بأنه قد جاءت الفرصة لإخبار رشيد بكل شيء. فبدأ قوله بالصراع بين الكفر والإسلام إلى يوم القيامة، وأتمه بأعمال حزب التحرير، ثم أخبره عن حزب التحرير بشكل واسع، وعرض عليه أن ينضم إليه.
تأثر رشيد عند القسم لدخول حزب التحرير تأثراً شديداً، بحيث إنه ما حدث له مثل هذه الحالة من قبل. وعندما ضمه محمد إلى صدره ليباركه بعد القسم وجده يتصبب عرقاً .
2005-03-08