الاجتهاد الفقهي بين الالتزام والتسيُّب
2000/07/08م
المقالات
2,376 زيارة
كتب الدكتور محمد التاويل من علماء القرويين موضوعاً حول الاجتهاد في جريدة المحجة المغربية العدد 130، ولأهمية الموضوع فإن «الـوعـــي» تنشر قسماً منه، ليعلم القراء الكرام أن الخير لا ينقطع في هذه الأمة وأن هناك من العلماء الأفذاذ من يتصدى في كل وقت لدعاوى الكفر الباطلة والمضبوعين بثقافة الغرب الذين يحرفون الكلم عن مواضعه ويلبسون الحق بالباطل.
قال مقال الدكتور محمد التاويل:
تتعالى كثير من الأصوات هنا وهناك تنادي بضرورة الاجتهاد واعتماد فقه جديد يساير التقدم العلمي والحضاري الذي يعيشه المجتمع المسلم المعاصر المفتون بحضارة الغرب والشرق والمتلهف لمعانقتها والارتماء في أحضانها بأي ثمن وأية وسيلة ولو كان التخلص من القيم الدينية والحضارة الإسلامية، والتضحيةُ بها، ما دام ذلك يحقق له الارتباط بتلك الحضارة والتعلقَ بالعجلة الخلفية لها والانجرار وراءها، وإن تهشم رأسه أو تقطعت أوصاله، لأن الحضارة الغربية تستحق ذلك الثمن وأكثر في رأيه.
والدعوة إلى الاجتهاد في حد ذاتها دعوة يزكيها الفقه الإسلامي ويتجاوب معها، ولا يمكنه التنكر لها أو معارضتُها، وهو ثمرة من ثمرات الاجتهاد ووليد من مواليده: نشأ في حضنه وترعرع في كنفه، ولا يسعه إلا مباركة هذه الدعوة وترشيدُها والدفع بها إلى الأمام في الاتجاه الصحيح الذي يحدده الفكرُ الإسلاميُّ الأصيل، والمنهج الأصولي الدقيق، والبحثُ العلمي النـزيه، وقوفاً مع نصوص الكتاب والسنة التي تعترف بحق الاجتهاد، وتفرضه على القادر عليه، المتأهلِ له، وتشجع عليه بإعفاء المخطئ من إثم خطئه ومسؤوليته عنه.
ولكن يبقى السؤال المطروح هو: لماذا هذه النداءات المتكررة بفتح باب الاجتهاد؟ ولماذا هذا الإلحاح الشديد على إبراز الحاجة إليه ووجوب ممارسته؟ ولماذا الإصرار عليه من قوم لا يؤمنون بالفقه الإسلامي جملة وتفصيلاً؟ اجتهاداً وتقليداً ولا يعرفون عنه قليلاً ولا كثيراً؟ وبذلوا كل جهودهم لمحاصرته وإقصائه من المدرسة والجامعة بعد نجاحهم في إبعاده من قاعات المحاكم وقُبة البرلمان ومراكز القرار، ومَنْعِهِ من التدخل في مراقبة التشريع، وحرمانه من إعلان رأيه، وتجاهُلِ مواقفه في السياسة والاقتصاد ومختلف مجالات الحياة؟!
لا شك أن دعوة هؤلاء للاجتهاد دعوة مريبة وغير صادقة، يهدفون من ورائها تحقيقَ أهدافهم الخفية والمعلنة في دفن الشريعة الإسلامية بمفهومها الصحيح وإبعادِها من طريقهم، وإقامة فقه عميل ومزور مقامها، يستمد فلسفته وأفكاره من علمانية الغرب وإلحاده، ويستجيب لطموحاتهم في تعطيل نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة باسم الاجتهاد واعتماد فقه جديد كما هو الحال الآن في موضوع تعدد الزوجات وحق الطلاق، وسن الزواج وتوزيع الإرث واقتسام الثروة المكتسبة خلال الزوجية بين الزوجين عند الطلاق وغير ذلك من الموضوعات التي تصطدم فيها مشاريع العلمانيين بنصوص الكتاب والسنةـ، والتي يحاولون تمريرها بسلاح الاجتهاد الذي يعلقون عليه آمالهم في امتصاص غضب الجماهير المسلمة وسخطهم على المتلاعبين بدينهم والمتألبين على شريعتهم باسم الاجتهاد والتجديد.
إلا أن هذه المناورات لا تفيد شيئاً في هذه المواقف وهذه الموضوعات.
أولاً: لأن هذه القضايا المتنازع فيها وحولها هي من القضايا المعلومة من الدين بالضرورة، ثابتة بالنصوص القطعية التي لا تحتمل التأويل، ولا تقبل إلا قراءة واحدة لا أكثر ـ كما يحلو للبعض أن يقوله ـ وهي بذلك غير قابلة للمناقشة لا صاخبة ولا هادئة، والمناقشة حولها والاجتهاد فيها لا يمكن أن يأتي بجديد يختلف عما قررتْه الشريعة الإسلامية في مصادرها الأولى بمنتهى الصراحة والوضوح، ولا تتعدى المناقشة فيها أن تكون جدلاً عقيماً لا يستند إلى علم ولا كتاب مبين، ولا يهدف إلى معرفة الحق بعد اتضاحه، ولا يقصد منه إلا إضلال الخَلْق وإبطال الحق.
والإنسان أمامها بين خيارين لا ثالث لهما: إما الإيمان بها وتقبُّلها ثم البحث عن حِكَمها وأسرارها، وإما الإعلانُ عن رفضها وإنكارها، فيسقط في هاوية الإلحاد والكفر بشريعة الله (ومن كَفَرَ فإن الله غني عن العالمين).
وأما ثانياً: فإن الاجتهاد في الإسلام ليس بالسهولة التي يتخيلها البعض أو يصورها البعض الآخر (فَكِّرْ وقُلْ)، فالاجتهاد الشرعي ليس هو التفكير المجرَّد المنطلق من الفراغ والعقل وحده. لأن العقل وحده ليس مؤهلاً للاستقلال بمعرفة الأحكام الشرعية، وليس سبيلاً صحيحاً لمعرفتها أو إنشائها وتشريعها بعد البعثة باتفاق المسلمين وقوفاً مع قوله تعالى: (إنِ الحُكْمُ إلاَّ لله).
والاجتهاد أيضاً ليس هو التجول في بلدان الآخرين وقوانينهم والتعرف على أخلاقهم وحضارتهم واختيار ما يعجب السائح المنبهر ويروق الجاهلَ المستَلَبَ من ذلك واستيراده تحت غطاء الاجتهاد وإعفاؤه من واجب التفتيش والمراقبة والتأكد من صحته وصلاحه وسلامته من الآفات.
كما أن الاجتهاد الفقهي أيضاً ليس هو اتّباعَ الهوى، ولا رُكْنَ ما يطلبه الحاكمون والمسؤولون أو المستفتون، كما يريده البعض أن يكون، وذلك لسببين:
أولهما: أن الهدف والحكمة من بعثة الرسل وشرع الشرائع هو مقاومة الهوى، والحدُّ من طغيانه في حياة الناس، وعلاقتِهم بغيرهم وتصرفاتِهم معهم أو مع أنفسهم، وإخضاعُهم لشريعته تعالى وإلزامُهم بطاعته وعبادته والانقياد إلى أحكامه على كل حال.
وثانيهما: أن الهوى والشريعة أمران لا يجتمعان، فالهوى عين الباطل وأخوه الذي لا يفارقه، والشريعة عين الحق والصواب. ولذلك قارن الله بين الحق والهوى في أكثر من آية، وأمَر باتّباع الحق والوحي، ونهى عن اتباع الهوى، وحذَّر من عاقبته، فقال: (يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تَتَّبع الهوى فيُضلَّك عن سبيل الله)، وقال: (ولو اتَّبع الحقُّ أهواءَهم لفسدتِ السماوات والأرض ومن فيهن)، وقال أيضاً: (ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتَّبعْها ولا تَتَّبع أهواء الذين لا يعلمون @ إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئاً). وقال: (إتَّبِعوا ما أُنزِل إليكم من ربكم ولا تَتَّبعوا من دونه أولياء قليلاً ما تذكّرون) إلى غير ذلك من الآيات التي تحذِّر من اتِّباع هوى النفس، وهوى الغير مهما كان ذلك الغير. وما زال العلماء يعيبون اتِّباع الهوى حتى في اتّباع الرخَص، واختيارِ بعض المذاهب على بعض، ويرون ذلك نوعاً من الفسق وانحرافاً عن المنهج السوي في اتِّباع الدليل، والوقوفِ معه، يقول الشاطبي رحمه الله في تعليقه على قوله تعالى: (وما ينطق عن الهوى @ إنْ هو إلاَّ وحي يوحى): فقد حصر الله الأمر في شيئين: الوحي وهو الشريعة، والهوى فلا ثالث لهما، وإذا كان كذلك فهما متضادَّان، وحين تَعَيَّنَ الحق في الوحي تَوَجَّهَ للهوى ضدُّه، فاتِّباع الهوى مضاد للوحي [الموافقات 2/129].
وهكذا يتبين أن الاجتهاد الشرعي ليس واحداً من الثلاثة: ليس استحسانَ العقل، ولا اتِّباعَ الهوى، ولا النقلَ والاستيرادَ وتقليدَ ما عند الغير. ولكن الاجتهاد في مفهومه الإسلامي الشرعي الأصولي والفقهي هو العكوفُ على النصوص الشرعية وأدلتها المختلفة وتقليبُها ظهراً لبطن، والانكبابُ على دراستها دراسة وافية وعميقة، والبحثُ الجادّ في ثناياها واستنطاقُها والاستماع إلى مختلف أدلتها ودلالالتها، والغوصُ العميق في حِكَمها وأسرارها، والمقارنة بين المتعارض منها، في محاولة جادّة وهادفة ومتجردة عن التوجيهات والأغراض الشخصية والحزبية للعثور على الجواب المطلوب من خلالها، ومن بين ثناياها، وداخل أحشائها ورحمها حتى يصح نَسَبُهُ لها وانتسابه إليها، وحتى يكون حُكْماً شرعياً حقاً وصدقاً، مَوْلداً وروحاً وهدفاً، خرج من صلب الفقه، ورحم الشريعة، لا يهدِم أصلاً من أصولها ولا يناقض مبدأً من مبادئها الثابتة، وليس لقيطاً متبنّىً لا يُعرف له أصل ولا فصل، ولا أب ولا أمّ استُورد لضرب الشريعة وهدمها باسم الاجتهاد لإقامة العلمانية الملحدة على أنقاضها باسم الحداثة والعصرنة والتجديد.
والاجتهاد بهذا المعنى وبهذا المفهوم الشرعي الأصولي الفقهي يتطلب جهوداً جبارة وأهلية خاصة وكفاءة عالية في علوم الشريعة الإسلامية واللغة العربية وعلومها، فهو يتطلب:
l معرفة تامة وواسعة بآيات الأحكام وأحاديثها من كتاب الله وسنة رسوله، وبأسباب النـزول والورود، والمتقدم والمتأخر، والناسخ والمنسوخ منهما، والعام والخاص، والمطلق والمقيد، والظاهر والمؤوّل، والمجمل والمفسر، والمتواتر والآحاد، والصحيح والضعيف، وأحوال الرواة، والجرح والتعديل، ومواقع الإجماع والاختلاف. والبراءة الأصلية والقياس وشرائطه.
l كما يتطلب معرفةً دقيقة باللغة العربية وعلومها من صرف ونحو واشتقاق وبلاغة، وخبرةً عالية بأصول الفقه، وإحاطةً بمعظم قواعد الشرع وممارستَها، بحيث يكتسب قوة يفهم بها مقاصد الشرع.
بالإضافة إلى صفات شخصية لا بد منها وهي: الفطانة وفَقاهة النفس، والعدالة والأمانة العلمية، والثقة والصدق في القول ليؤخذ برأيه، ويُسمع إلى كلامه، ويُعمل باجتهاده. هذه هي أهلية الاجتهاد الشرعي التي تخوِّل صاحبها حقَّ الاجتهاد وممارسته باستحقاق وجدارة، وتوجبه عليه عند الحاجة إليه، وهي أهلية لا يتمتع بها كل أحد، وخاصة الغرباء عن اللغة العربية والأميِّين في الشريعة الإسلامية بل كثير من الفقهاء لا تتوفر فيهم هذه الشروط ولا يتمتعون بهذه الأهلية، وقد كان أكثر الصحابة والتابعين ومن تبعهم يستفتون غيرهم في قضاياهم الشخصية، ولا يجتهدون فيها، ويُحجمون عن الإفتاء لنفسهم وغيرهم اعترافاً منهم بخطورة الاجتهاد في الدين، بالرغم من معرفتهم باللغة العربية، ولم يحفظ التاريخ الإسلامي إلا عدداً محدوداً من المجتهدين.
ولهذا يُعرِّف الأصوليون الاجتهاد بأنه: استفراغ الفقيه الوُسْع لتحصيل ظنٍّ بحكمٍ شرعي، ويعرفون المجتهد بأنه: الفقيه الحائز على تلك المؤهلات العلمية والشخصية السابقة. وبهذا يتبين أن الاجتهاد الشرعي من اختصاص النُّخبة الممتازة من الفقهاء المؤهلة لتلك المهمة الصعبة، مهمة التحدث عن حكم الله، والإعلان عن مراده سبحانه في قضية من القضايا المجتهَد فيها.
وليس في هذا احتكار للاجتهاد ولا انتقاص من قدر غيرهم من العلماء والمثقفين الآخرين كما يمكن أن يدعيه البعض، ولكنه من المنطق والحق إسنادُ الأشياء إلى أهلها، والضربُ على أيدي المتطفلين عليها، ومنعُهم من الخوض فيها حتى لا يطالهم الحديث الشريف: «إذا أُسنِدت الأمورُ إلى غير أهلها فانتظر الساعة». وليس هذا خاصاً بالاجتهاد الفقهي، ولكنه مبدأ عام يسري مفعوله في كل العلوم وكل المجالات.
ثم يختتم الدكتور التاويل مقاله قائلاً:
وإذا كان بعض الناس يفهم أن الاجتهاد هو تبديل حكم الله والأخذ بحكم البشر، وتطبيق شريعة الغرب بدلاً من شريعة الله، فليعلنها صراحة ولا يلبس على العامة باسم الاجتهاد والتجديد ولا يخادع الله، فإن من يخادع الله يخدعه الله كما قال تعالى: (يخادعون الله وهو خادعهم).
وهكذا يتبين أن الدعوة للاجتهاد والتلويحَ بإمكانية تغيير الثوابت الشرعية عن طريقه هي دعوة ضالة مضلة محكوم عليها بالفشل، ولن تجد لها صدىً في صفوف الفقهاء الصادقين، ولن يخيفهم التهجم عليهم والتشهير بهم وإيغار صدور البسطاء عليهم، فإن الحق واضح بيِّن يشع نوره ولو كره الكافرون .
2000-07-08