أثر فساد الاقتصاد الغربي في البشرية (6)
2000/07/08م
المقالات
1,759 زيارة
«العلاج الصحيح»
بقيت مسألة واحدة مرتبطة بالنظام الاقتصادي الإسلامي، ويظهر فيها حسن المعالجة لأمور المال وهي مسألة النقود. وقبل البداية بعرض شيء من التفصيل في هذه المسألة نتحدث قليلاً عن أهميّه النقود، وأهمية توفرها في الدولة.
النظام الاقتصادي كما قلنا هو تدبير شؤون المال بتوزيعه بين الناس، والنقد بشكل عام هو الشيء الذي اصطلح الناس على جعله ثمناً للسلع، وأجرة للجهود، والخدمات، والمنافع، سواء أكان معدناً، أم غير معدن، وبه تقاس جميع السلع وجميع الجهود والخدمات.
وتبرز أهمية النقود، وأهمية توفرها في الدولة خاصة إذا كانت هذه الدولة تحمل مبدأ تريد نشره للعالم، وتواجه تحديات كبيرة من قبل هذا العالم. فالدولة صاحبة المبدأ تحتاج إلى القوة، وإلى الإمكانات الضخمة لحمل هذا المبدأ، وتحدي العالم به.
فالنقود في هذا العصر هي إحدى دعائم الاقتصاد، إذ بها تستطيع شراء الأسلحة وبها تستطيع شراء ما ينقص من مواد للرعية ولأمور الصناعة والنمو وغيرها، فلا بد من وقفة تبين الأحكام الشرعية المتعلقة بالنقود ومقارنة ذلك مع الفساد النقدي عند الغرب.
أما النقد في نظام الإسلام، وفي أحكام المعالجات، فهو أداة تبادل السلع وبه تقدر أجره الجهود والخدمات، وقد أقر الرسول عليه السلام ما كان موجوداً من تعامل بالنقود لذلك، عن طاووس عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الوزن وزن أهل مكة، والمكيال مكيال أهل المدينة» رواه أبو داوود. وروى البلاذري عن عبد الله بن ثعلبة بن صُعير قال: [وكانت دنانير هرقل ترد على أهل مكة في الجاهلية، وترد عليهم دراهم الفرس البغلية فكانوا لا يتبايعون إلا على أنها تبر، وكان المثقال عندهم معروف الوزن، ووزنه اثنان وعشرون قيراطاً إلا كسراً، ووزن العشرة دارهم سبعة مثاقيل، فكان الرطل اثنتي عشرة أوقية، وكل أوقية أربعون درهماً، فأقر الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك، وأقره أبو بكر وعمر وعثمان] (الأموال في دولة الخلافة).
وقد ربط الشرع أحكاماً معينة بالدينار الذهبي والدرهم الفضي ـ وهي النقود في ذلك الوقت ـ فحرم كنـزها، قال تعالى: (والذين يكنـزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم) التوبة: 34، وجعل الدية مقدرة بهما، قال عليه السلام: «وإن في النفس المؤمنة مائة من الإبل وعلى أهل الذهب ألف دينار».
من هذا نرى أن الإسلام قد أقر جعل الذهب والفضة ـ النقود ـ أداة تبادل السلع والمنافع بين الناس.
وقد وضع الإسلام أحكاماً لهذا النقد تمنع الظلم، سواء أكان ذلك بتكدس المال بين فئة معينة من الناس، وجعله دُولة بينهم، أو بالتحكمات النقدية التي تقود إلى استعباد الشعوب واستعمارها ومص خيراتها، وإيقاعها في دوامة لا تنتهي، ولا تقف عند حد، كما هو حاصل الآن في النظام النقدي. أما الأحكام الشرعية فهي متعلقة بطبيعة النقد ومقداره، وبأحكام التعامل به بين الناس. فمن خلال النظر في الأحكام الشرعية العملية المتعلقة بمعاملات الناس المالية، نرى أن الإسلام قد فرض الذهب والفضة أساساً للنقود في الإسلام. وهذا الفرض جاء كحكم شرعي عملي استنبط من إقراره عليه السلام، ومن ربطه لبعض المعاملات به، وتحريم بعض المعاملات كذلك، ثم اتباع الصحابة رضوان الله عليهم والخلفاء الراشدين من بعد الرسول لهذه الطريقة الشرعية. فقد أقر الرسول عليه السلام ما كان موجوداً في أيدي الناس من نقود كأداة للتعامل فيما بينهم، وربط أحكاماً شرعية عملية بالذهب والفضة، وحرم أحكاماً في البيع والشراء أي في الصرف.
فطبيعة النقد الشرعي هو الذهب والفضة، فهو الأساس الذي يوضع للنقود إن كانت ورقية أو معدنية. أي يجب أن يكون غطاء لأية قطعة نقدية معدنية أو ورقية ـ تصدر في حدود الدولة، دون زيادة ولا نقصان. أما الوزن الشرعي لذلك فهو 4.25 غراماً للدينار الذهبي، و2.975غرام فضة للدرهم الفضي. وهذا النظام النقدي ـ الذهب والفضة ـ وحده القادر على تحقيق الاستقرار النقدي، ويقضي على المشاكل النقدية في العالم الآن.
فعندما تحدثنا عن المشاكل النقدية العالمية رأينا أن سببها هو اتخاذ الدولار الأميركي أساساً للنقد في العالم، وهذا الأساس كما رأينا اتخذته أميركا سلاحاً ضد الشعوب، وأداة لنهب خيراتها، ووسيلة لتربعها على رؤوسها، واستعمارها واستعبادها. ورأينا أنه السبب في مشاكل التضخم النقدي، وفي انهيارات الأسواق العالمية، وفي النكسات النقدية عند الدول والشعوب. كذلك كان سبباً في عدم الاستقرار النقدي الذي قاد إلى جميع هذه المشاكل. فلا بد من وجود نقد يقضي على كل هذه المشاكل النقدية بما يتصف من أوصاف تؤهله لذلك.
والناظر في الذهب والفضة يرى أن فيها أوصافاً تجعلها مؤهلة لأن تكون عملة عالمية تحقق العدالة، وتنشر الاستقرار النقدي، وتقضي على كل المشاكل النقدية. وهذه الميزات هي: أولاً: الذهب والفضة سلعة كبقية السلع، لها تكاليف إنتاج وصناعة، والطلب عليها هو كالطلب على أية سلعة ذات قيمة في ذاتها فلا تستطيع الدول أن تصنع ما تشاء وتزج في الأسواق كما هو في الأوراق الإلزامية التي ليست لها أية قيمة في ذاتها سوى القانون الذي فرضها على الناس قانوناً للتبادل.
ثانياً: عملية إغراق الأسواق بالذهب والفضة، عملية لها تكاليف، إما باستخراجه وإما بشرائه مقابل سلع ومنافع وخدمات تقدمها بدل ذلك. والدولة التي تطرح الذهب في السوق تطرح عملة عالمية تنتجها جميع الدول، لا دولة معينة، وكل دولة قادرة على شراء السلع والخدمات به من تلك الدولة التي طرحت الذهب في الأسواق، أو من أية دولة.
ثالثاً: النظام الورقي ليس فيه ميزة الميزان الذاتي مثل الذهب والفضة، فالدول التي تستهلك أكثر مما تنتج في النظام النقدي تستطيع أن تطبع ما تشاء من النقود وخاصة إذا كانت دولة قوية متحكمة في الاقتصاد العالمي مثل أميركا، ولا تستطيع ذلك دولة مثل الأردن إلا داخلياً، لأنه يؤدي إلى إفقاد الدولة قيمة نقودها عالمياً. أما النظام النقدي في الذهب والفضة فله ميزة الميزان الذاتي، أي أن الدول التي تستهلك أكثر مما تنتج تضطر لإخراج كميات من الذهب والفضة خارج بلادها وهذا بالتالي يؤدي إلى انخفاض سلعها الداخلية، وارتفاع في الأسعار المستوردة ما يجعل الدولة تقلل من الاستيراد، وتفكر كثيراً قبل إخراج رصيدها الذهبي لخارج حدودها.
رابعاً: إن كون الذهب سلعة عالمية يجعله في أية دولة بقدر حاجة السوق. والسلع والخدمات تأخذ سعرها بقدر وجودها، أي بقدر وجود النقد. فإن كانت النقود قليلة في السوق فإن أسعار السلع والخدمات تنخفض تلقائياً ويزيد في هذا الانخفاض زيادة الإنتاج، فكلما ازداد الإنتاج، انخفضت الأسعار كذلك. وهذا بعكس النقد الإلزامي الحالي في الدول، فإنه بزيادة الإنتاج نرى ارتفاعاً في الأسعار وازدياداً في التضخم، نتيجة طباعة نقود جديدة وطرحها في السوق لسد الخلل في ميزان المدفوعات. والسبب هو كون هذه النقود ليس لها غطاء ثابت، وتتخذ لتحقيق أغراض سياسية داخلياً وخارجياً، وارتباطها كذلك بغطاء نقدي عالمي غير ثابت، يتخذ أداة استعمارية.
خامساً: إن عالمية الذهب كسلعة ونقد، وتمتع هذه السلعة بسعر صرف عالمي ثابت، فإن هذا يجعل العالم منفتحاً تجارياً دون أية قيود، أو رقابة أو خوف من الدول على سلعها أو نقودها الداخلية. فما عند الدول من نقد هو بقدر السلع والخدمات، وما يخرج منها كذلك هو تحصيل لسلع وخدمات، والدول لا تقوم بالمضاربات المالية بالذهب والفضة بسبب ثبات سعر الصرف لهما، وثبات قيمتها العالمية في جميع الدول سواء بسواء. وهذا يؤدي إلى انتشار العدل في نظام نقدي عالمي، لا تستطيع أية دولة اتخاذه وسيلة نهب، أو استعمار، كذلك يؤدي إلى نشاط الأسواق التجارية، وانفتاحها، ما يسهل تبادل السلع والخدمات، ويؤدي إلى انخفاض الأسعار وتوفر السلع، ومرد ذلك كله، بحبوحة في العيش للشعوب عامة.
هذا ما يتعلق بطبيعة النقد وبمقداره ـ أي بأوزانه ـ أما ما يتعلق بالأحكام المتعلقة بالمعاملات العملية لهذا النقد، فكما قلنا فإن الإسلام جعل النقود ثمناً للسلع، وأجرة للجهود، والخدمات والمنافع بشكل عام، فهو أداة التبادل بين الناس لتحقق هذه المنافع. وقد وضع الشارع أحكاماً شرعية تتعلق بهذا النقد في التعاملات، تضمن تحقق الغاية من وجود هذا النقد، وتمنع الظلم والاحتكار والتسلط بسببه. فوضع أحكاماً لتبادل النقود بالسلع والخدمات من حيث التقابض وكيفيته، ومن حيث تغير قيمة السلع مقابل النقد، أو تغير قيمة النقد مقابل السلع. وأوجب في أصناف معينة التقابض في المجلس، وأجاز التراخي في أصناف أخرى. كما وضع أحكاماً تتعلق بالنقد نفسه من حيث التعامل، فوضع أحكاماً تتعلق بالصرف، أي تبادل الأموال مع بعضها، سواء أكان ذلك من نفس الجنس أو بجنس غيره، قال عليه السلام: «الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلاً بمثل، يدا بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء» رواه مسلم. ووضع أحكاماً للأوراق النائبة عن الذهب والفضة، كيف تكون، وكيف يتم التعامل معها. وكذلك منع الإسلام معاملات معينة يتحقق فيها معنى الربا، أو تكون هي الربا نفسها. والتفصيلات في هذا الموضوع يطول شرحها، ونتركها للقارئ. ولكن نقول بأن طبيعة هذه المعاملات تمنع الظلم وتحقق العدل والاستقرار النقدي، وتمنع كذلك الاستغلال والتحكمات النقدية، والانهيارات في أسعار النقد كما هو حاصل الآن. ولو دققنا فيما يجري في أسواق المال لرأينا أن الخلل يعود لأمرين الأول: طبيعة النقود الموجودة، وتحكم الدول بها. وثانياً: طبيعة المعاملات المحرمة التي ترتكز على الربا وعلى الصرف الخاطئ، فتتيح للحيتان من رؤوس الأموال الفرصة، وتمهد لهم الطريق لابتلاع أموال الناس عن هذه الطرق وخاصة أولئك الذي يتعاملون بالأسهم والسندات في الأسواق المالية.
أما في نظام النقد الشرعي فلا مجال لوجود هذه الثغرات التي يتصيد منها الرأسماليون أموال الناس، وثرواتهم، ومقدراتهم المادية. فلا وجود لتذبذب أسعار الصرف، ولا وجود للأسهم والشركات الرأسمالية، ولا وجود للربا المصرفي، التي تدفع هؤلاء إلى الجشع والاستغلال، ومص دماء الشعوب الفقيرة خارج بلادهم، أو دماء الطبقة الكادحة داخل بلادهم.
من هنا نرى أن نظام الذهب والفضة قادر على تحقيق العدل في نظام نقدي عالمي، ولا تستطيع ذلك الأوراق الإلزامية الصادرة عن الدول المتعددة التي تتخذ من الدولار الأميركي أساساً لها. بل على العكس فإن تلك الأوراق تجلب الشقاء والظلم للبشرية.
وأخيراً وبعد استعراض النظام الإلهي في شؤون الاقتصاد، في رعاية شؤون الناس المالية، وبعد مشاهدتنا للاعوجاج في أنظمة البشر الوضعيّة الوضيعة، والاستقامة في النظام الإلهي السامي الفريد العادل، نقول: إنه لحريّ بالمسلمين أن يعملوا بكامل طاقاتهم وجهودهم ليجعلوا هذا النظام في سدة الحكم بدل هذه الأنظمة الفاسدة الظالمة. وإذا ما رأت البشرية السعادة بكل معانيها، وتذكروا ما هم فيها من ظلم واعوجاج فإنهم سرعان ما يخلعون عن ظهورهم هذه الأوزار الثقيلة ليتحلوا بالإسلام.
إن هذا الأمر ـ بروز النظام الإلهي بشكل واضح جلي للناس ـ لا يكون إلا برعاية وراعٍ. أي لا يكون إلا في دولة تطبق هذا النظام، في الدولة والمجتمع، وتحمله رسالة خير وهدى للناس. فعلى حملة الدعوة بخاصة والمسلمين بشكل عام أن لا يهدأ لهم بال، ولا يقر لهم قرار إلا بذلك. (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون). (وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون). (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) صدق الله العظيم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
[انتهى]
أبو المعتصم
2000-07-08