سـرايـا الرسـول (صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم)
2000/06/08م
المقالات
3,085 زيارة
منذ أن أذن الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بالقتال، إلى أن قبضه الله إليه، والجهاد يملأ حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إما غازياً في سبيل الله، وإما مرسلاً سرية أو بعثاً في أرض الله، وإما دافعاً هجمات أعداء الله. فخلال هذه العشر سنوات بعد الهجرة، حدثت سبع وعشرون غزوة، غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه، وثمان وثلاثون سرية وبعثاً، أرسلها الرسول صلى الله عليه وسلم تقاتل في سبيل الله، أي أن خمساً وستين معركة كانت بين جند الإسلام وأعداء الله خلال هذه العشر سنوات، فكأنه لم يكن يمر شهر أو شهران دون جهاد، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم «الجهاد ذروة سنام الإسلام». يروي ابن هشام في سيرته نقلاً عن ابن إسحق (كان جميع ما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه سبعاً وعشرين غزوة.. ثم عدَّدها، بدءاً من غزوة وَدَّان وحتى غزوة تبوك. وكانت بعوثه صلى الله عليه وسلم وسراياه ثمانية وثلاثين ثم عدّدها من غزوة عبيدة بن الحارث أسفل ثنية ذي المروة وحتى بعث أسامة بن زيد).
وسنتناول في هذه الكلمة بعض السرايا والبعوث، لنرى ما شاء الله من خير فيها، عسى أن ننتفع وننفع به، فنكون من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
===============================
أولاً: سرية زيد بن حارثة إلى جُذام:
يروي ابن هشام في سيرته نقلاً عن ابن إسحق (أن رفاعة بن زيد الجذامي، لما قدم على قومه من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتابه يدعوهم إلى الإسلام، فاستجابوا له، لم يلبث أن قدم دحية بن خليفة الكلبي من عند قيصر صاحب الروم، حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه، ومعه تجارة له، حتى إذا كانوا بواد من أوديتهم يقال له شنار، أغار على دحية بن خليفة، الهُنيدُ بن عُوص وابنه عُوص بن الهُنيد… فبلغ ذلك رهط رفاعة بن زيد ممن كان أسلم وأجاب فنفروا إلى الهنيد وابنه.. حتى لقوهم فاقتتلوا.. إلى أن يقول فاستنقذوا ما كان في يد الهنيد وابنه، فردوه على دحية..) ثم كانت غزوة زيد بن حارثة على أثر ذلك لتأديب الذين خرجوا على دحية، وقتل المسلمون في هذه الغزوة الهنيد وابنه.
وهنا لا بد من وقفة. إنّ رهط رفاعة الذين أسلموا من جُذام، عندما علموا بظلم رجال من قومهم لأحد المسلمين، هبوا للدفاع عنه، وبلغ الأمر أن يقاتلوا قومهم حتى أزالوا الظلم عن أخيهم في الإسلام.
إن هذه من الأمور المهمة التي تبرز أخوة الإسلام في الآية الكريمة ]إنما المؤمنون إخوة[ وكذلك في الحديث الشريف «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ولا يخذله ولا يحقره»، وهي من مظاهر حيوية الأمة وترابطها وتراحمها. أما إذا وصلت الحال بالمسلمين، أن يعتقل شباب الدعوة من المساجد ومن التجمعات السكنية، أمام المسلمين، لقولهم ربنا الله، دون أن يتحرك المسلمون لاستنقاذ إخوانهم أو حتى لقول كلمة أمام الظالمين وأعوانهم، إذا وصلت الحال بالمسلمين إلى هذا، فالأمر يكون مظهراً خطيراً من مظاهر مرض الأمة، التي نسأل الله أن تتعافى الأمة منه، وتعود إلى ما يجب أن تكون عليه، كالبنيان المرصوص، يشد بعضه بعضاً، كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.
ثانياً: غزوة ابن أبي حَدْرد إلى إِضَم:
يروي ابن هشام في سيرته عن ابن إسحق (أن ابن أبي حدرد قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى إِضم في نفر من المسلمين، حتى إذا كنا ببطن إضم، مر بنا عامر بن الأضبط الأشجعي على قعود له ومعه متيِّع ـ (تصغير متاع) ـ له، ووعاء من لبن، قال، فلما مر بنا سلّم علينا بتحية الإسلام، فأمسكنا عنه، وحمل عليه (أحدنا)، محلِّم بن جثَّامة فقتله لشيء كان بينه وبينه، وأخذ بعيره، وأخذ متيِّعه. قال فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرناه الخبر، نزل فينا ]يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا، ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً تبتغون عرض الحياة الدنيا..[ إلى آخر الآية، ثم يروي ابن إسحق أن الرسول صلى الله عليه وسلم حكم لأهله بالدية، ودعا على محلِّم بن جثَّامة، ويقول ابن إسحق إنه لما مات ابن جثامة لفظته الأرض فعمدوا إلى جبلين فسطحوه بينهما ثم رضموا عليه الحجارة حتى واروه. قال فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم شأنه فقال والله إن الأرض لتطَّابق على من هو شر منه ولكن الله أراد أن يعظكم في حُرْم ما بينكم بما أراكم منه.
إن هذا يستأهل التدبر، فإن قتل المسلم بغير حق أمر كبير في الإسلام، يقول سبحانه: ]من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً[ ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل نفس بغير حق». فكيف بمن يقتلون الدعاة إلى الله، يعذبونهم في السجون لدرجة الموت، لا يخشون الله ولا عذابه، ولا المصير المظلم الذي أعده الله للظالمين ]ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار مهطعين مقنعي رؤوسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء[.
ثالثاً: غزوة عبد الرحمن بن عوف إلى دومة الجندل:
يروي ابن هشام في سيرته عن ابن إسحق قال (حدثني من لا أتهم عن عطاء بن أبي رباح قال سمعت رجلاً من أهل البصرة يسأل عبد الله بن عمر بن الخطاب عن إرسال العمامة من خلف الرجل إذا أعتم. قال فقال عبد الله سأخبرك إن شاء الله عن ذلك بعلم: كنت عاشر عشرة رهط من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجده: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعبد الرحمن بن عوف وابن مسعود ومعاذ بن جبل وحذيفة بن اليمان وأبو سعيد الخدري وأنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أقبل فتى من الأنصار فسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جلس فقال يا رسول الله صلى الله عليك أي المؤمنين أفضل فقال أحسنهم خلقاً قال فأي المؤمنين أكيس؟ قال أكثرهم ذكراً للموت وأحسنهم استعداداً له قبل أن ينـزل به، أولئك الأكياس.. ثم سكت الفتى وأقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا معشر المهاجرين خمس خصال إذا نزلن بكم وأعوذ بالله أن تدركوهن: إنه لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها (يجهروا بها) إلا ظهر فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في إسلافهم الذين مضوا ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين (الجدب) وشدة المثونة وجور السلطان ولم يمنعوا الزكاة من أموالهم إلا منعوا القطر من السماء فلولا البهائم ما مطروا وما نقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سُلِّط عليهم عدو من غيرهم فأخذ بعض ما كان في أيديهم وما لم يحكم أئمتهم بكتاب الله وتجبروا (تعاظموا عن أن يحكموا بما أنزل الله) إلا جعل الله بأسهم بينهم). ثم أمر عبد الرحمن بن عوف أن يتجهز بسرية بعثه عليها فأصبح وقد أعتم بعمامة من كرابيس (قطن) سوداء فأدناه رسول الله صلى الله عليه وسلم منه ثم نقضها ثم عممه بها وأرسل خلفه أربع أصابع أو نحواً من ذلك ثم قال هكذا يا ابن عوف فأعتم فإنه أحسن وأعرف ثم أمر بلالاً أن يدفع إليه اللواء فدفعه إليه فحمد الله تعالى وصلى على نفسه ثم قال خذه يا ابن عوف اغزوا جميعاً في سبيل الله فقاتلوا من كفر بالله لا تغلّوا (لا تخونوا من الغنائم) ولا تغدروا ولا تمثّلوا ولا تقتلوا وليداً فهذا عهد الله وسيرة نبيِّه فيكم. فأخذ عبد الرحمن اللواء، قال ابن هشام فخرج إلى دومة الجندل.
إن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يرويه عبد الله بن عمر لا يحتاج إلى مزيد شرح وبيان، فهو ينطق بنفسه عن حال المسلمين هذه الأيام، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
رابعاً: بعث أسامة بن زيد إلى أرض فلسطين:
وهو آخر البعوث قال ابن إسحق وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد بن حارثة إلى الشام وأمره أن يوطئ الخيل تخوم البلقاء والداروم من أرض فلسطين فتجهز الناس وأوعب مع أسامة المهاجرون الأولون قال ابن هشام وهو آخر بعث بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعث زيد بن حارثة في جمادى الأولى سنة ثمان إلى الشام، ثم غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم الروم بنفسه في تبوك في رجب سنة تسع، ثم كانت هذه الأخيرة بعث أسامة بن زيد، بعد رجوعه صلوات الله وسلامه عليه من حجة الوداع حيث أقام بالمدينة بقية ذي الحجة من السنة العاشرة ثم محرم وصفر من السنة الحادية عشرة ثم ضرب على الناس بعثاً إلى الشام وأمَّر عليه أسامة بن زيد بن حارثة مولاه صلى الله عليه وسلم.
وكانت تلك نذيراً للروم والدول الكبرى آنذاك، ان الدولة الإسلامية الناشئة ليست دولة قرشية أو دولة أوسية أو خزرجية بل هي دولة إسلامية مهمتها تطبيق الإسلام وحمله للعالم بالدعوة والجهاد لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، من ضيق الدنيا إلى سعة الاخرة ومن عبادة العباد إلى عبادة رب العباد.
وقد استمرت تلك الدولة، منذ أن أقامها رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة، ما يقارب الأربعة عشر قرناً، إلى أن تمكن الكافر المستعمر وعملاؤه في بلاد المسلمين، من القضاء عليها، لكنها بعون الله قادمة، ما دام هناك رجال يحبون الله ورسوله، ويحبهم الله ورسوله، يعملون لإعادتها، مخلصين لله صادقين مع رسول الله، فيتحقق على أيديهم وعد الله سبحانه وبشرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعندها يعز الإسلام وأهله ويذل الشرك وأهله، فتدك صروح الكفر، وتعلو راية الحق، راية العقاب، راية لا إله إلا الله محمد رسول الله، وإنّ غداً لناظره قريب.
2000-06-08