الاستعمار السياسي أخطر من الاستعمار العسكري
2000/05/08م
المقالات
4,588 زيارة
إن الصراع الدّامي الذي كانت رحاه تدور بين أهل الحق والباطل لإحقاق الحق وإزهاق الباطل، أو بين أهل الباطل فيما بينهم، من أجل التنافس على المصالح، لا زال متكرراً متجدّداً إلى يوم النّاس هذا، كالحربين العالميتين الأولى والثانية وما جنتاه على البشرية من دمار، أو كالحروب الأخرى التي سبقتهما أو عقبتهما، كالحروب الصليبية وحروب مماليك أوروبا، وكحروب الشمال والجنوب في أميركا، وحروب دول الكفر الاستعمارية مع الدولة الإسلامية في الأناضول والبلقان وشرق آسيا وشمال إفريقيا إلى أن تم لها فصل مقاطعاتها عن جسم الدولة، أو كحرب الفيتنام والخليج والبلقان والشيشان…الخ، هذا إذا كانت الحرب حرباً استعمارية من أجل الاحتلال المباشر أو لرد الاستعمار وإخراجه من الديار المحتلة، وهي حالة تسمى بالحرب الفعلية. أما إذا كانت الحالة غير هذه وكان الاستعمار فيها غير مباشر، أي استعماراً سياسياً واقتصادياً وثقافياً، فإن الوضع يختلف والسيناريو يتغير، وصورته تأخذ أشكالاً وأساليب أخرى غير الوسائل والأساليب الأولى التابعة للحرب الفعلية. إذ إن هؤلاء الجشعة الاستعماريين ما انفكوا يكشّرون عن أنيابهم لينهشوا بها أجسام الضعفاء دون رحمة، عن طريق وسائلهم الخاصة التي أنشؤوها لهذا الغرض، كالهيئات والمنظمات العالمية، مثل هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي والبنك العالمي وصندوق النقد الدولي واليونسكو وغيرها من المنظمات العالمية التي تهيمن عليها الدول الكبرى وتسيرها حسب أطماعها السياسية. وهذه الهيئات والمنظات ليست إلا أشكالاً ووسائل لهذا الاستعمار الخفي، ومن أشكاله أيضاً السفارات والبعثات الديبلوماسية وبعثات رجال الأعمال، والبعثات الثقافية التي تتجول في البلاد طولاً وعرضاً لتهيمن على أهلها وتقوم فيهم مقام الجواسيس الذين يعملون لحساب الدول الاستعمارية، فهذا النوع من الاستعمار الثقافي والاقتصادي والاجتماعي والسياسي، ليس إلا الجانب الثاني من واجهة الاستعمار، غير أن هذا الجانب الثاني، أي من الاستعمار اللاّمباشر، أخطر بكثير من الجانب الأول الذي تكون فيه الحرب متبادلة، ذلك أنّ الاستعمار المباشر يثير حفيظة الناس ويثير فيهم غريزة حب البقاء فتتفاعل فيهم حرارة التمسك بالحياة والدفاع عن النفس فيقفون ضد المستعمر لمحاولة إخراجه من أرضهم المحتلة، ومن اجل ذلك تتحد القوى التي تعيش فوق موطن الأحداث والأرض التي يقيمون عليها لطرد العدو منها إلى أن يتحقق لهم الغرض، وعليه كان هذا النوع من الاستعمار المباشر أقل خطراً من الاستعمار اللاّمباشر، وإن كانت تزهق فيه الأرواح وتتدفق فيه الدماء، وهي شأن الحرب الفعلية مع العدو. أما إذا كان الأمر على عكس ذلك وكان الاستعمار فيها لا يأخذ شكله المادي المعتاد، فإن هذه الحالة ـ أي حالة الاستعمار اللاّمباشر ـ تأخذ منعرجاً خطيراً وتستعمل أساليب ووسائل ملتوية وخفية، وقليل من الناس من يتفطن إلى ذلك. وعليه كان هذا النوع من الاستعمار اللاّمباشر أخطر بكثير من الاستعمار المباشر. وخطره آت من جهتين، خارجية وداخلية.
أما الجهة الأولى، وهي الخارجية، فإنها تتمثل في دوران ىطاحونة الأطماع المادية للدول الكبرى ذات النفوذ العالمي، حول الدول الصغرى والضعيفة من أجل احتكار المصالح والمنافع لتتقوى بها، ومن ثم تهيمن على العالم كله وتأطره في الإطار الذي تريده، ولتحقيق ذلك تستغل قوتها ونفوذها وتستعمل الهيئات والمنظمات العالمية التي أشرنا إليها، إذ تستخدمها كوسائل ضغط لتحقيق أهدافها. فهيئة الأمم المتحدة مثلاً ومجلس الأمن الدولي حينما يقرران إرسال الجيوش إلى المناطق الواقعة تحت نيران الحرب، لا يكون تدخلهما ذاك من أجل حماية البشرية وأمن الشعوب، وإحلال السلام فيها، كما يزعمان أو كما يخيل للبعض، وإنما هو للوقوف إلى جانب مَن يسير على خطاهما ويحقق أغراضهما ومصالحهما، كما هو الشأن بالنسبة إلى حرب البلقان في البوسنة والهرسك، إذ تبين أنهما كانا يمدان الصرب المعتدين بالمعدّات والأسلحة ويكشفان لهم المواقع الاستراتيجية للمسلمين، في حين يُخضعان المسلمين لقانون حظر التسلح، ويحصرانهم في مناطق محددة بتعلة حمايتهم من الصرب، ثم لا يتورعان عن التهكم بالرأي العام والقوانين الدولية حينما يزعمان تدخلهما بالصلح وفرض الحوار بين المختصمين. ومن باب ذر الرماد على الأعين يقومان ظاهرياً بمد يد المساعدة (الإنسانية) للدول المتضررة بالحرب (بفتات الأغذية، وبقايا الأدوية، وفواضل الألبسة). وكما سناريو البوسنة والهرسك هناك سناريو فلسطين ولكنه بشكل أقبح.
أما واقع صندوق النقد الدولي والبنك العالمي فهيمنتهما على الدول الضعيفة هيمنة اقتصادية، إذ يثقلان كاهل الدول (النامية) بالقروض الطويلة والقصيرة المدى، وهذه القروض من شأنها أن تعطي الدول المقرضة صلاحية التحكم في اقتصاديات الدول المقترضة، فتهيمن عليها سياسياً واقتصادياً. وصندوق النقد الدولي له قدرة على التلاعب بعملة البلد المقترض، فيزيد في قيمة الفوائد على القروض أو يخفضها بحسب المصلحة التي يراها، كما أن له دوراً فعّالاً في إحداث القلاقل والثورات الداخلية حينما يشترط على الدول الواقعة تحت نفوذه تجميد الأجور على ما هي عليه، أو زيادة الرسوم الجمركية على السلع والبضائع، أو رفع الدعم عن المواد الأساسية لحياة الناس، وأظن أن الانتفاضات الشعبية التي حدثت في كل من، تونس والجزائر والمغرب ومصر والأردن، والتي اصطلح عليها بثورة الخبز، لم تكن لتخفى عن أحد، ولكن هل كل الناس يعلمون من المتسبب الرئيسي فيها؟ هذا فضلاً على أن القروض التي تطلبها الدول الضعيفة لا تصرف لها غالباً إذا كانت الغاية منها توظيفها في المشاريع المنتجة، مثل الصناعات الثقيلة وإنشاء المخابر للأبحاث التكنولوجية والعلمية وما شاكلها. فهذه الدول المهيمنة إذاً لا تقرض قرشاً واحداً إلا إذا ضمنت أنه لا ينتج شيئاً مهماً للبلد المقترض، حتى تُبقيَ الدول ـ النامية ـ تحت نفوذها، ولا تزيد عن كونها مجرد دول استهلاكية تستهلك ما تنتجه لها، وتمنع عنها حق المنافسة الدولية، بل لا تصرف هذه القروض إلا في المشاريع الجامدة، كإنشاء الطرقات وإصلاحها أو بناء الجسور والأحياء الشعبية أو المدارس والمستشفيات والفنادق إلى غير ذلك من المشاريع الحجرية.
أما ما يقال في شان القروض التي تصرف للإصلاح الزراعي، فهي ليست إلا من قبيل التمويه والتدجيل على الناس، إذ كيف يتحقق هذا الإصلاح الزراعي والسلطات الحاكمة في هذه الدول النامية واضعة يدها على الأراضي الموات وتمنع عن الناس استغلالها، فلا هي تقوم بإحيائها ولا الأهالي لهم حق التصرف فيها!! هذا فيما يتعلق بالقروض، أما ما يتعلق بالمساعدات التي نسمع عنها والتي تقدمها هذه الدول الكبرى لدولنا، فهي تصرف مباشرة لأجهزة الحكم وخاصة منها أجهزة الأمن الداخلي، فهي تعطى لها بسخاء لا مثيل له لتقوية شوكة الأنظمة الجائرة وضمان بقائها في الحكم، وخذ كمثال على ذلك واقع ـ تونس ـ ذاك البلد الصغير ذي الإمكانيات المحدودة والموارد الطبيعية القليلة، لكن رغم ذلك فإنه يملك وزارة قوية تعد من أهم الوزارات نفوذاً وهيمنة على بقية الوزارات، وتستغل هذه الوزارة وحدها أكبر قسط من ميزانية الدولة، ألا وهي وزارة الداخلية التي تتقدم على وزارة الدفاع الوطني، حتى بات حضور البوليس التونسي أقوى من حضور الجندي التونسي، وقد بلغت ميزانية هذه الوزارة في وقت ما: 100 مليون دينار، أي ما بين 12 و 15% من الميزانية العامة، ثم زادت على ذلك الرقم أيام ـ مزالي ـ و ـ بن علي ـ. ونفوذ هذه الوزارة يطول عدة إدارات وطنية التي عادة ما تكون منفصلة عن جسم هذه الوزارة، فهي تقوم بالإشراف المباشر على جميع سلطات الأمن، من الشرطة بأنواعها وأجهزة الاستعلامات والحرس الوطني (أي رجال الدرك) الذي يتبع عادة وزارة الدفاع كما هو الحال في الجزائر، وكذلك تشرف على مصالح وإدارات السجون التي تتبع في كثير من الدول وزارة العدل، ولها كذلك الإشراف المباشر على الولاة (أي المحافظين) وعلى البلديات، وحتى الشعائر الدينية تدخل تحت إشرافها المباشر. فهذا الاهتمام الكبير بهذا القطاع يدل دلالة قطعية على مساندة الدول الاستعمارية للأنظمة الجائرة والمأجورة لقمع شعوبها بقوة الحديد والنار، هذا هو واقع صندوق النقد الدولي والبنك العالمي.
أما اليونسكو واليونيسيف، فهي في الظاهر هيئات عالمية وظيفتها الاهتمام برفع الأمية وإغاثة أطفال العالم الفقير، ولكن في حقيقة أمرها تعمل على نشر الرذيلة والفساد الخُلُقي والاجتماعي والثقافي، فبتعلة رفع الأمية تعطى البرامج البيداغوجية والثقافية لهذه الدول الفقيرة، وتتسرب هذه البرامج إلى القرى والأرياف، وهي برامج غربية من نوعها وتتنافى مع القيم الإسلامية. ومن آثار هذا النشاط، إحداث المدارس المختلطة للذكور والإناث، وبرامج (التثقيف الجنسي) التي تلقن للمراهقين والمراهقات بتعلة معالجة العقد النفسية لدى الشباب القاصر. كما لا يخفى عنا النشاط الحثيث الذي تقوم به هذه الهيئات من تحريك (لقضية) المرأة وتحديد النسل. فأما تحرير المرأة فهو يعني دفعها إلى السفور والمجون، وخروجها عن التقاليد والعادات، وإبعادها عن أحكام الشرع الإسلامي، وأما تحديد النسل فهو يعني تقليل سواد الأمة والوقوف أمام تزايد القوة البشرية عند المسلمين، لأن هذه القوة تخيف الغرب الذي يعاني نقصاً واضحاً في تزايد النسل بسبب تفشي الفساد الجنسي والخُلُقي ـ كالسحاق واللواط ـ.
وتتعلل لنا هذه المنظمات بالدراسات التحليلية التي توضح فيها ـ حسب زعمها ـ خطورة النمو الديمغرافي على عيشنا الجغرافي، وعدم توازن الإنتاج الغذائي مع نسبة تزايد عدد السكان وتفاقم الولادات. وتقوم وسائل الإعلام وخاصة منها المرئية ـ التلفزيون ـ بعرض صور مقرفة عن المجاعة والجفاف في إفريقيا وآسيا لكي تثير الأحاسيس والمشاعر، فتكسب من وراء ذلك، السند العام لبرامجها الشيطانية الممارسة على الدول الضعيفة، وتتحاشى كشف يدها المختلسة لخيرات هذا (العالم النامي). والمؤتمر الذي أقيم في القاهرة سنة 1994 من الخامس إلى الثالث عشر من أيلول، والذي أطلق عليه اسم “مؤتمر السكان والتنمية” وكان تحت رعاية حسني مبارك، كان الغرض منه هو تمرير هذه الخطة الجهنمية، فالقول بأن نسبة التزايد والنمو الديمغرافي لا توافق نسب الثروات الموجودة في العالم ونسب الإنتاج القومي لبعض البلدان ـ وخاصة بلدان العالم الثالث ـ قول سخيف للغاية بالغ أصحابه فيه لإقناع الآخرين أنهم على حق وأنهم يسعون من وراء ذلك لتوفير العيش الرفيه لهم، إذ الإحصائيات التي بين أيدينا تكشف المفارقات العجيبة، فالتعداد السكاني للعالم ونسبة تقسيم الموارد الطبيعية على أفراده تشير إلى عدم التكافؤ بين السكان وتوزيع النسب عليهم لسد حاجياتهم، إذ إن عدد سكان العالم وصل إلى ـ 5.5 مليار نسمة ـ يعيش 25% منهم في الدول المتقدمة و75% المتبقية تعيش في دول العالم الثالث، ويستهلك سكان الدول الشمالية ـ أوروبا الغربية وأميركا واليابان ـ بمفردهم ـ 80% من موارد الطاقة و85% من الخشب و80% من الموارد الغذائية ـ. أما سكان العالم الثالث الذي يبلغ عددهم ـ 4 ـ بليون نسمة فإن نسبة استهلاكهم للموارد الطبيعية لا تتعدى السدس ـ أي 17% من جملة الموارد في حين أن المواطن الأوروبي يبلغ متوسط دخله عشرين ضعفاً مقارنة بدخل ساكن العالم الثالث، مع العلم أن ما يسمى ـ بالعالم الثالث ـ غني بثرواته الطبيعية وأراضيه الزراعية، وفي مقدوره سد الحاجات الأساسية، بل والكمالية لبلايين من السكان، حتى إن أحد علماء الطبيعة صرح بأن الثروات الموجودة كافية لتوفير مستوى معيشي يوازي مستوى معيشة ـ الفلاح السويسري ـ لأكثر من ـ 57 ملياراً ـ من السكان بشرط أن يتم توزيع الثروات توزيعاً صحيحاً. ولكن رغم ظهور هذه الحقائق المذهلة فإن الاستعمار وأذياله لا زالوا يتشدقون علينا بما يخالف هذه الحقائق المكشوفة بندواتهم ومؤتمراتهم وإعلاناتهم الماكرة التي تحث الناس على تحديد النسل لضمان حياة أفضل.
تلك إذاً بعض الخطوط العريضة المتعلقة بالوجه الخارجي للاستعمار اللاّمباشر، أي الاستعمار الآتي من وراء الجدار.
أما الوجه الثاني له، فهو نابع من داخل الجدار ومن بطن الديار، ومعنى ذلك أن الاستعمار الكافر اخترق الجدار الفاصل بيننا وبينه بفضل الجسر الذي رماه فوقه، فأصبحت له وبفضله يد طويلة يبطش بها داخل صفوفنا. وهذا الجسر الذي عقده المستعمر فوق جدارنا ووصل به إلى بهو دارنا فإنما يمثله طاقم العملاء والخونة من أبناء سلالتنا ـ المفبركين ـ بيد المستعمر الكافر من الذين صاروا له عوناً من الداخل.
وبهذه الاستراتيجية الثنائية التي توخاها المستعمر الكافر بمعية عملائه، صارت بلاد الإسلام مرتعاً خصباً له وقصعة شهية يشبع منها نهمه وجشعه، وهي حالة من أفظع وأبشع الحالات التي عرفها تاريخ الصراع البشري. ذلك أن التاريخ البشري لم يرو لنا مثل هذه الحالة المقرفة من الخيانات المكشوفة والعمالة المفضوحة مع العدو، ولم نقرأ قط عن أمة ما خانت نفسها بنفسها بهذا الشكل القذر لحساب أمة عدوة لها. نعم إن هذه الأمة، وهي امة عريقة، عاشت ردحاً من الزمن تتأرجح فيه بين القوة والضعف عرفت فيهما نوعاً من الحروب والغزوات (كالغزو التاتاري والصليبي) إلا أنها تخلصت من استعمارهم بفضل إخلاصها وصدقها مع نفسها. فالتاتار الوحشيون الذين هاجموها وصبوا عليها جام حقدهم وعدوانهم سرعان ما انقلبوا إلى مسلمين ومجاهدين ورافعين لرايتها ـ لا إله إلا الله ـ، وأما الصليبيون الحاقدون على الإسلام والمسلمين فإن الله قد أخرج لهم رجلاً مخلصاً لربه ولدينه ولأمته فطهر منهم بيت المقدس والديار الإسلامية ورد غزوهم وعدوانهم ومسح عن الأرض الطاهرة دنسهم، حتى بات اسم ـ صلاح الدين الأيوبي ـ فخر هذه الأمة مثله كمثل هارون الرشيد والمعتصم بالله والسلطان عبد الحميد. قلت إن هذه الأمة عاشت ردحاً من الزمن تتأرجح فيه بين القوة والضعف ولكنها لم تعش مثل هذه الخيانات التي لوثت شخصيتها ودنست شرفها بأيدي أبنائها. فالحالة اليوم انقلبت رأساً على عقب وصار المخلص الأمين لأمته ينعت بالتطرف والإرهاب، أما الخائن اللئيم فهو ينعت بالرجولة والشجاعة والكياسة والحنكة! وهكذا وبخيانة هؤلاء العملاء المأجورين صار للاستعمار الخفي حظ في اختراق جدارنا وحظ في الهيمنة علينا وحظ آخر في خيراتنا، ولكن أكثر الناس غافلون عما يدور حولهم وعما يخطط لهم، يظنون بحكامهم القائمين عليهم ظن الخير، بل قل إن هناك فريقاً آخر من الناس لا يبرر موقف الحكام وخياناتهم المفضوحة فحسب وإنما يذهبون إلى الزعم بأن للمستعمر الكافر مزايا حضارية علينا لا تنكر، إذ حسب زعمهم الماكر أن الهجمة التي قام بها المستعمر الكافر على ديارنا كان لها الفضل في تحريرنا من التخلف الذي كنا عليه! ـ كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً ـ وهذه خيانة من طراز آخر لفئة من الناس تبلّد فيها التفكير وفقدت منها الشهامة ونخوة الرجولة والمروءة. وهنا أود فتح قوس لإيضاح الخطة التي مارسها المستعمر الكافر لصناعة بعض العملاء له في الداخل.
عند أواخر القرن السابع عشر بدأ الغرب يتحسس لدى المسلمين ضعفهم الفكري وتاخرهم العلمي، فدبّت فيه أطماع الاستيلاء على أرضهم وخيراتهم، إلا أنه اتخذ الحذر في خطوته هذه وفكر في طريقة يتعامل بها مع هذا العملاق الذي لم يقهر من قبل نظراً للقوة البشرية التي في حوزته ولعلمه كذلك بأن الجندي المسلم لا يستسلم بسهولة، وأن الحرب معه كانت سجالاً، إذ قوة هذا الجندي كانت متوجة بفكرة الاستشهاد في سبيل الله، فغلب على ظنه أن الدخول معه في صراع مادي طويل المدى لا يعود عليه بالمنفعة المنتظرة. وحينها فكر ثم فكر وأخيراً توصل إلى وضع خطة جهنيمة تعجّل له إنتاج الثمرة التي يرجوها. وتكف عنه عناء سنين قادمة. وكانت هذه الفكرة التي توصل إليها تتمحور حول استهداف الحافز الأساسي لقوة هذا المجاهد المسلم وتدميرها، ألا وهو الحافز العَقَدي الحي الموجود فيه، وما ينبثق منه من أفكار، ولذلك كان السبيل الوحيد للانتصار عليه هو العمل على تجفيف منابع هذه الروح المعطاءة وبعث الشك فيها، أي في العقيدة التي يحملها في جوفه. ومن ثمّ بدأ يتسرب بين الظفر واللحم لكي يصل إلى قلب الأمة النابض فيقطع شرايينه ويفصله عن الجسم، وكانت الدولة الإسلامية يومها تسمى عنده بالرجل المريض، وهي بالتأكيد فرصة سانحة للوثوب عليه والتغلب على جسده المعتل ساعة احتضاره الأخير، فالأمر إذاً كان جد سهلاً ولا يحتاج إلا للتعجيل به. وفعلاً تحقق له ذلك الطموح وانهار الصرخ الشامخ وسقط الجسم النحيل، وكيف لا يتوصل إلى ذلك وقد استقطب نفراً من أبناء جلدتنا الذين كانوا قائمين في دياره فحول وجهتهم عن دينهم وأمتهم بعد أن اكتشف فيهم حالة الانبهار بحضارته الفاسدة، فسهر على تكوينهم فكرياً وسياسياً بالقدر الذي يخدم مصلحته، ثم عجّل بإرسالهم إلى ديارنا وساعدهم للوصول إلى مناصب الدولة الحساسة لكي ينفثوا فيها السموم التي تشبعوا بها في ديار الغرب الكافر، وهكذا تسربت في الأمة أفكار لم تكن تعرفها من قبل، كأفكار القومية والوطنية، فشققت بنيانها المرصوص، ثم زادت عليها أفكار أخرى، كأفكار الديمقراطية والحرية فميعت التزاماتها الشرعية وحولت ولاءها لله وللرسول إلى العلمانية وفكرة فصل الدين عن السياسة، وولاءها للمسلمين، إلى ولائها للكفار اعداء هذه الأمة من بني صهيون والصليبيين.
نعم إن هذا العدو المارد خطط استراتيجية جهنمية لضمان بقائه حياً داخل جدارنا وفي عقر دارنا، للهيمنة والسيطرة علينا سياسياً واقتصادياً، حتى لا يكون لنا بعد ذلك حظ في منافسته ومزاحمته على الساحة العالمية، وهكذا ضاعت الأمة ولم تجد لها راعياً مخلصاً يرعاها حق الرعاية، ولذلك نراها اليوم متشردة عن ديارها هرباً من الأنظمة الدكتاتورية، ونجدها جائعة في بطنها من جراء سياسة التجويع والتضييق الممارَسة عليها. أما المستعمر الكافر فإنك تراه يدخل ديارنا ويقيم فيها بأمان، ويتجول داخلها حيثما شاء ويتربع على خيراتها ويستثمر أمواله فيها كيف يشاء! والغريب في ذلك كله ليس نفوذ المستعمر وعملائه علينا وإنما سذاجة الناس وغفلتهم عما يقع عليهم وعما يعانون من هؤلاء جميعاً دون أن ترى عليهم حمية الغيرة والدفاع عن حقهم المغتصب.
وهكذا استطاع الكافر المستعمر عن طريق صناعة العملاء أن يَنْفذ إلى داخل بلادنا، ينشر فيها سمومه، ويُنَفِّذ فيها مؤامراته، يستغل خيراتنا ويضلل أبناءنا، كل ذلك بغير يد منه مباشرة، بل بأيدي قوم يتكلمون كلامنا ويلبسون لباسنا، باعوا دينهم بدنياهم بل بدنيا غيرهم. وكانوا معولاً رئيساً في هدم دولة الخلافة والوقوف في وجه العاملين لإعادتها من جديد. لقد حقق المستعمر بأسلوبه الجديد في الاستعمار السياسي والاقتصادي والفكري، ما لم يستطع تحقيقه بجنده وطائراته ودباباته. فالاستعمار غير المباشر أشد خطورة من الاستعمار المباشر، وأشد فتكاً وإيلاماً، لأن الأول يقتل دون أن يُرى إلا من الواعين، وأما الثاني فيقتل على ملأ من الناس يراه الواعي وغير الواعي، والمقاومة أشد وأقسى لما هو ظاهر للعيان، وهي أضعف لما يُصنع في الخفاء.
إن الأمة الإسلامية يجب أن تكون واعية على ما يجري حولها، فلا تسمح لأعدائها أن ينفذوا داخلها، ليس بجيشهم فحسب، بل بسمومهم، من أفكار وثقافة، واقتصاد وسياسة، وكذلك لا تسمح لعملاء أعدائها أن يستقروا في سلطانهم، يتحكمون في رقابها، ويكونون مواقع متقدمة لأعدائها. بذلك تنجو من مكائد الأعداء، وتصحو بحق، وتقتعد مكانها من جديد، خير امة أخرجت للناس، تامر بالمعروف وتنهى عن المنكر، تعيد سلطان الإسلام والمسلمين وترفع راية الرسول الأمين، وإنها لقادرة على ذلك بإذن الله. (ولَينصُرَنَّ اللهُ من ينصُرُه إنَّ اللهَ لقويٌّ عزيزٌ).
خالد إبراهيم العمراوي
سويسرا
2000-05-08