الإسلام والطائفية
2005/05/07م
المقالات
2,544 زيارة
الإسلام والطائفية
حاول المستعمر بكل قوته أن يحارب أحكام المواطنة في الدولة العثمانية آنذاك وتحويل وتغيير نظام “الملل” الإسلامي في الدولة العثمانية إلى نظام المواطنة الوضعية التي لا تنظر إلى عنصر الدين في تفصيل الواجبات والحقوق في الدولة. الهدف كان مسح ومحق تصنيف الناس حسب التابعية لدار الإسلام لما يترتب على ذلك من أحكام التجارة والجهاد وغيرها من علاقات بين المسلمين وغيرهم من أتباع الديانات والملل المختلفة.
ولازلنا نرى آثار تلك المحاربة، وإن تغيرت الأساليب. فكان الهدف في السابق إدخال تغيرات في هيكل وأنظمة الخلافة العثمانية باسم الإصلاح والتحديث. أما الآن و بغياب الدولة التي تمثل المسلمين، أصبح المستهدف الإسلام وفهمنا لهذا الدين كل هذا تحت شعار “التجديد الديني” أو”تغيير الخطاب الديني”.
العشائرية الطائفية
لعله من المفيد هنا أن نفرق بين العشائرية الدينية، وبين الانتماء الديني وما يحتويه هذا الانتماء من عقائد وأحكام شرعية. فالانتماء العشائري يحول الدين إلى انتماء قومي، كما حصل مع الحركة الصهيونية، أو كما هو حاصل الآن في لبنان والعراق. وقد حاول الاستعمار الترويج لهذا الانتماء؛ لأنه يضرب الانتماء الحقيقي للإسلام وما فيه من عقائد وأحكام ويحوله إلى انتماء اسمي للإسلام، ومن ثم النضال لعشائرية سنية وشيعية، والصراع على مناصب وزارية وبرلمانية في الدولة العلمانية بدلاً من العمل لتمكين الإسلام. ففي هذا المعنى يقول العلامة فضل الله،مبلوراً الفصل بين الانتماء الديني والانتماء العشائري، ومعلقاً على الوضع في لبنان «وربما كان لطبيعة النظام اللبناني الطائفي الأثر الكبير في ذلك، عندما ربط مصالح النّاس بطبيعة الانتماء الطائفي، الأمر الذي دفعهم دفعاً إلى الارتماء في أحضان التجربة الطائفية، التي تعمل على ترسيخ القوقعة الطائفية وتعميقها، في داخل الذات، في حركة الفكر والشعور، وفي نطاق واقع العلاقات. وقد استطاعت اللعبة السياسية التي خططت لها “المارونية السياسية” أثناء حكمها للبنان، أن تثير حالة خوف مضاد في النطاق الإسلامي الداخلي، في ما كانت تثيره من إمكانية أن تأخذ هذه الطائفة دور تلك، وبالعكس، لتخلق في داخلهم حساسيات مذهبية، في مستوى العقدة المستحكمة، التي تتحول بالتالي إلى قنبلة موقوتة يمكن أن تفجّر الساحة، كلّما أريد لها أن تنفجر بالحقد والعداء والبغضاء. وما زالت اللعبة تتحرك في كلّ اتجاه، وعلى أكثر من صعيد». ويعلق عن هدف المستعمر من إثارة هذه النـزعة «وقد نلاحظ أنَّ بعض المحاور الدولية والإقليمية تعمل على الاستفادة من بعض تلك السلبيات في تحويل الصراع إلى صراع طائفي؛ لتضع القضية السياسية في نطاق الصراع المذهبي؛ فتتوتر الساحة مذهبياً في ما يمكن أن يخلقه هذا الوضع من عناصر الإثارة الطائفية، في الوقت الذي نعلم فيه جميعاً، أنَّ موضوع السنّة والشيعة بمدلوله الفقهي والشرعي، لا دخل له في ذلك، بل كلّ ما في الأمر أنَّ هناك صراعاً دولياً وإقليمياً يتحرك في الساحة من منطلقات سياسية بعيدة كلّ البعد عن هذه الأضواء» ولا هدف من هذه الطائفية العشائرية في رأي فضل الله غير استعراض قوة فارغة من أي مضمون حقيقي «والآن، كيف يمكن مواجهة هذا الطابع السياسي للخلاف بين المسلمين. إنَّنا نلاحظ في هذا المجال، في الحالة اللبنانية، أنَّ الواقع الطائفي لـم يستطع أن يتحول إلى حالة تعطي القوّة لأحد، إلاَّ في نطاق الزهو الاستعراضي الفارغ الذي لا يمثّل شيئاً في ساحة الواقع» لعل السر في استخدام هذا الأسلوب من المستعمر سببه أنه يدرك أن الإنسان المسلم بطبعه يميل إلى الإسلام كانتماء، والمستعمر رأى أنه من المستحيل إلغاء هذه المشاعر، فذهب
إلى تحويلها من انتماء حقيقي إلى الإسلام إلى انتماء اسمي، إلى مذهب، أو فرقة إسلامية.
التفريق بين التابعية للدولة والأخوة الإسلامية
علينا أن ندرك أن إقامة دولة الإسلام لا يعني حصر التابعية في تلك الدولة على عنصر أو مذهب معين. فقد أشكلت على عقولنا هذه الشبهة من أثر الهجوم الفكري للاستعمار، الذي صور الدولة الإسلامية بمفهوم الدولة الثيروقراطية في أوروبا في العصور الوسطى، التي أبادت كل دين مخالف للكنيسة، وما صراع البروتستانت والكاثوليك ببعيد…
أما الأخوة أو الرابطة الإسلامية فتدخل تحت باب الولاء، والولاء للمسلمين ثابت بدليل قطعي لا يخالفه إلا من أنكر أمر معلوم من الدين بالضرورة. لقد أجمعت جميع فرق الإسلام على اختلافهم على وجوب الولاء لجميع المسلمين وهذا يسمى ولاية الجملة، وفي نفس الوقت البراءة من الكفر والكفار والمنافقين وهذا يسمى براءة الجملة. فأي مسلم ما لم يأت ما يخل بإسلامه من كفر صراح يجب موالاته ونصرته، والكفر يعني التكذيب، أي تكذيب الرسالة والرسول، سواء كان التكذيب للرسالة كلها، أم لجزء منها، معلوم بالضرورة والقطع، الذي لا يحتمل التأويل، أنها من الرسالة. في هذا الصدد قال حجة الإسلام الغزالي «الكفر: هو تكذيب الرسول، عليه الصلاة والسلام، في شيء مما جاء به. والإيمان: تصديقه في جميع ما جاء به».
كان أحمد بن زاهر السرخسي الأشعري يقول «لمّا حضرت الشيخ أبا الحسن الأشعري الوفاة بداري في بغداد، أمرني بجمع أصحابه، فجمعتهم له، فقال: اشهدوا على أنني لا أُكفّر أحداً من أهل القبلة بذنب، لأني رأيتهم كلّهم يشيرون إلى معبود واحد، والإسلام يشملهم ويعمّهم» كما قال السيد الطباطبائي من الشيعة الإمامية «والمراد بالكافر من كان منكراً للأُلوهية أو التوحيد أو الرسالة أو ضرورياً من ضروريات الدين مع الالتفات إلى كونه ضروريّاً بحيث يرجع إنكاره إلى إنكار الرسالة».
أما الولاء في اللغة فمن الولاية بفتح الواو وكسرها تعني النصرة: يقال: هم على ولاية: أي مجتمعون في النصرة (لسان العرب). الولي بمعنى مولى وقد نقل أبو الهيثم ستة أوجه لكلمة “مولى”: «المولى على ستة أوجه: المولى: ابن العم، والعم،
والأخ، والابن، والعصبات كلهم. والمولى: الناصر. والمولى: الولي الذي يلي عليك أمرك. والمولى: مولى الموالاة وهو الذي يُسلم (أي يدخل الإسلام) على يديك ويواليك. والمولى: مولى النعمة وهو المعتِـق أنعم على عبده بعتقه. والمولى: المعتق (بالبناء للمجهول) لأنه ينـزل منـزلة ابن العم يجب عليك أن تنصره وترثه إن مات، ولا وارث له. فهذه ستة أوجه». وقال الفضل بن حسن الطبرسي «الولي: هو الذي يلي النصرة والمعونة، والوالي: هو الذي يلي تدبير الأمر، يقال: فلان ولي المرأة إذا كان يملك نكاحها، وولي الدم من كان إليه المطالبة بالقود، والسلطان ولي أمر الرعية، ويقال: لمن يرشحه لخلافته عليهم بعده ولي عهد المسلمين. قال المبرد: أصل الولي الذي أولى أي أحق ومثله المولى».
والمعاني اللغوية هذه نفسها هي المدلول الشرعي على سبيل العموم إلا باستثناء شرعي كأحكام الميراث، فالمسلم يجب محبته، ونصرته وكل ما يشمل من معاني تندرج تحت معاني الموالاة. يقول ابن تيمية: «والولاية: ضد العداوة، وأصل الولاية: المحبة، والقرب. وأصل العداوة: البغض والبعد». هذه الولاية ثابتة بأدلـــة مســـتفيضـــة كـــثيرة كـــقوله ســـبحانـــه ( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [التوبة71]. أما في السنة قوله صلى الله عليه وسلم: «المسلم أخو المسلم: لا يظلمه، ولا يسلمه: من كان في حاجة أخيه، كان الله، عز وجل، في حاجته! ومن فرج عن مسلم كربة، فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة! ومن ستر مسلماً، ستره الله يوم القيامة» وقوله صلى الله عليه وسلم: «المؤمن مرآة أخيه. والمؤمن أخو المؤمن: يكف عليه ضيعته، ويحوطه من ورائه» وقوله صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» وغيره الكثير من الأحاديث في وجوب ولاية المسلمين لبعضهم البعض…
وأما البراءة من الكفر والكفار فثابتة بأدلة قطعية، والبراءة بمعنى العداوة والبغض والبعد. قال الله سبحانه ( لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [المجادلة22]. أما ما يترتب على هذه الموالاة من أحكام فرعية، وما يدخل تحت معنى الموالاة للمسلمين، والبراءة والمعاداة للكفار والمشركين، فهذا مفصل في كتب الفقه، سواء على المستوى الفردي، أم من ناحية العلاقات الدولية بين كيان المسلمين ودولتهم ودول الكفر، فهذا مفصل في كتب السياسة الشرعية ككتاب السير للإمام الشيباني.
الأخوة الإسلامية أو الموالاة للمسلمين غير التابعية لدار الإسلام بمفهومها العام، فالتابعية الإسلامية هي حمل الولاء للدولة والنظام، واتخاذ دار الإسلام تحت ظل سلطان الإسلام دار إقامة دائمة، فهي تختلف اختلافاً جوهرياً عن الأخوّة الإسلامية. فالرابطة التي تربط الرعية بالدولة هي التابعية وهي ما تعرف اليوم بالمصطلح السياسي بالمواطنة، وهذه غير العقيدة الإسلامية، فهي رابطة تربط بين المسلمين وغيرهم من أصحاب الملل الأخرى؛ للعيش السوي تحت نظام واحد يجمعهم الكيان السياسي الإسلامي. وهذا المعنى واضح في صحيفة المدينة التي كانت عهد أو وثيقة بين الرسول صلى الله عليه وسلم كقائد للدولة الإسلامية ويهود بني عوف، وقد نصت هذه الوثيقة أن اليهود هم «مع المؤمنين أمة من دون الناس» فهم يعيشون مع المؤمنين تحت ذمة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ولكن هم ليسوا من المؤمنين.
فمن التحق بدار الإسلام، وقبل العيش في كنفها وتحت سلطة الدولة الإسلامية؛ فله ما على أهل دار الإسلام من حقوق، وعليه ما على أهل دار الإسلام من واجبات، وإن كان من غير المسلمين، فالعبرة هنا بالالتحاق بدار الإسلام. فالمسلم الذي لا يلتحق بدار الإسلام ليس له حقوق دار الإسلام، وهذا على عكس الذمي الذي التحق بدار الإسلام. نجد هذا المعنى في حديث بريدة حيث قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميرًا على جيش أو سرية أوصاه بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرًا، فقال: «اغزوا باسم الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا، ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليداً، وإذا لقيت عدوك
من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال (أو خلال) فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين، وعليهم ما على المهاجرين، فان أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، يجرى عليهم حكم الله تعالى، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا فاسألهم الجزية، فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم. وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه، فلا تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه، ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك، فإنكم إن تخفروا ذممكم وذمة أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله و ذمة نبيه، وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنـزلهم على حكم الله، فلا تنـزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك، فإنك لا تدري أتصيب فيهم حكم الله أم لا» رواه مسلم، فهذا نص يشترط التحول ليكون لهم ما لنا، وعليهم ما علينا، أي لتشملهم الأحكام، أي جميع حقوق التابعية.
وقال تعالى في آخر سورة الأنفال: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ *وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ* وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ *وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنكُمْ وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ).
فمجموع الأدلة فرقت بين الذين أمنوا وهاجروا وبين الذين أمنوا ولم يهاجروا. فالأول يستحق الولاية وما يترتب عليها من حقوق كسبهم من الغنيمة والفيء وغيرها من حقوق وواجبات في دار الإسلام. وأما الثاني فلا ولاية بمعنى ليس لهم حقوق وواجبات دار الإسلام ما لم يهاجروا ويكونوا كأعراب المسلمين، وإن كانت نصرتهم واجبة إن استنصرونا في الدين، فالأدلة فرقت بين ولاية الإسلام وولاية دار الإسلام، فلا يجوز الخلط بين الاثنتين.
عهد الذمة
سنختم هذا المقال بتعريف من هم أهل الذمة، إذ بهذا العهد نتعرف على نوع وتفاصيل العلاقة بين أتباع الملل غير الإسلامية مع دولة الإسلام. أما تعريف الذمي فالذمة في اللغة: هي العهد، والأمانة، والكفالة، والقوم المعاهدون. وأهل الذمة : أهل العقد. الذمي في الاصطلاح الشرعي هو كما عرفه الإمام الغزالي: « كل كتابي ونحوه، عاقل، بالغ، حر، ذكر، متأهب للقتال، قادر على أداء الجزية». وعرف البهوتي الحنبلي الذمي بأنه من يُـقَـر من الكفار على كفره، بشرط بذل الجزية والالتزام بأحكام الإسلام كقانون للدولة . وعرف الشيخ محمد مهدي الآصفي أهل الذمة بقوله: «أهل الذمة مصطلح شائع يقال لأهل الكتاب الذين يعطون الجزية ليكف عن قتالهم».
عقد الذمة عقد أو عهد مؤبد، به تحقن الدماء وتحفظ الأموال لغير المسلم المقيم بدار الإسلام، ومن هنا أطلق على الضريبة المدفوعة بالجزية، وهي مأخوذة من المجازاة لكفنا عنهم. وقيل من الجزاء: بمعنى القضاء قال تعالى: ( وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً) أي لا تقضي. ويقول الشيخ محمد مهدي الآصفي عن الجزية: «الجزية من الجزاء لغة، واصطلاحا هي مال يفرض على أهل الكتاب مقابل البقاء على كفرهم، أو مقابل الأمان المعطى لهم، والحقوق الأخرى التي تمنحهم إياها سلطة الدولة الإسلامية. والمعنى الثاني من الأول» ومن الروايات التي تؤيد ذلك ما جاء في كتاب الخراج للقاضي أبي يوسف فقد روى أنه «لما ولى رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أرقم على جزية أهل الذمة، فلما ولى من عنده ناداه فقال صلى الله عليه وسلم: ألا من ظلم معاهداً، أو كلفه فوق طاقته، أو انتقضه، أو أخذ منه شيئاً من غير طيب نفسه، فأنا حجيجه يوم القيامة».
هذا بخلاف أهل الهدنة، فإنهم صالحوا المسلمين على أن يكونوا في دارهم، سواء كان الصلح على مال أم غير مال، لا تجري عليهم أحكام الإسلام كما تجري على أهل الذمة، لكن عليهم الكف عن محاربة المسلمين، وهؤلاء يسمون أهل العهد، وأهل الصلح، وأهل الهدنة.
وأمــا المستأمــن: فهــو الـذي يَـقْدُم بلاد المسلمين من غير استيطان لها، وهؤلاء أربعة أقسام: رُسُل، وتجار، ومستجيرون حتى يُـعرض عليهم الإسلام والقرآن، فإن شاؤوا دخلوا فيه، وإن شاؤوا رجعوا إلى بلادهم، وطالبوا حاجة من زيارة أو غيرها. وحكم هؤلاء ألا يهاجروا، ولا يُقتلوا، ولا تؤخذ منهم الجزية، وأن يُعرض على المستجير منهم الإسلام والقرآن، فإن دخل فيه فذاك، وإن أحب اللحاق بمأمنه ألحق به ولم يعرض له قبل وصوله إليه، فإذا وصل مأمنه عاد حربياً كما كان. راجع “أحكام أهل الذمة“ لابن القيم الجزء 2/ 475 ــ 476.
أما عن أركان عقد الذمة فخمسة: عاقد ومعقود له، ومكان ومال وصيغة. وشرط في الصيغة، وهي الركن الأوّل، ما مر في شرطها في البيع والصيغة إيجاباً: كأقررتكم، أو أذنت في إقامتكم بدارنا مثلاً، على أن تلتزموا كذا جزية. وتنقادوا لحكمنا، وقبولاً نحو قبلنا ورضينا. وشرط في العاقد كونه إماماً يعقد بنفسه أو بنائبه.
وقد أوضح هذه الالتزامات لطرفي العقد الإمام الماوردي في كتابه “الأحكام السلطانية“، فقال: «يشترط عليهم في عقد الجزية شرطان مستحق ومستحب أما المستحق فستة:
l الشرط الأول: أن لا يذكروا كتاب الله بطعن ولا تحريف له .
l الثاني: أن لا يكذبوا رسول الله بتكذيب له ولا ازدراء.
l الثالث: أن لا يذكروا دين الإسلام بذم أو قدح فيه .
l الرابع: أن لا يصيبوا مسلمة بزنى أو باسم نكاح.
l الخامس: أن لا يفتنوا مسلما عن دينه أو يتعرضوا لماله.
l السادس: أن لا يعينوا أهل الحرب ولا يودوا أغنياءهم.
(فهذه الحقوق الستة) ملتزمة، فتلزمهم بغير شرط، وإنما تشترط إشعاراً لهم وتأكيداً؛ لتغليظ العهد عليهم، ويكون ارتكابها بعد الشرط ناقضاً لعهدهم».
ثم ذكر الماوردي بعد ذلك الشروط المستحبة وهى ستة أيضا تتعلق باللباس والبنيان ونحو ذلك، لكنها لا تلزمهم بعقد الذمة حتى تشترط، ولا يكون ارتكابها بعد الشرط ناقضاً لعهدهم ولكن يؤخذون بها ويؤدبون عليها زجراً. وللتفصيل راجع الأحكام السلطانية للماوردي.
أما معاملة الذمي بخير في الدولة الإسلامية فأغنى من أن يذكر، فقد ذكر الفقيه الأصولي المالكي شهاب الدين القرافي في كتاب “الفروق”: «إن عقد الذمة يوجب لهم حقوقًا علينا؛ لأنهم في جوارنا وفي خفارتنا (حمايتنا) وذمتنا وذمة الله تعالى، وذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودين الإسلام، فمن اعتدى عليهم ولو بكلمة سوء أو غيبة، فقد ضيَّع ذمة الله، وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم، وذمة دين الإسلام».
وتتجلى أيضا هذه المعاملة من أعمال الصحابة والتابعين لغير المسلمين. فقد أمر سيدنا عمر رضي الله عنه بصرف معاش دائم ليهودي وعياله من بيت مال المسلمين، ثم يقول: قال الله تعالى: ( إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ) [التوبة 60] وهذا من مساكين أهل الكتاب. وروي قريب من ذلك عن الإمام علي رضي الله عنه في النفقة الواجبة على ضعفائهم كونهم من رعايا الدولة الإسلامية «مر شيخ مكفوف كبير يسأل، فقال أمير المؤمنين رضي الله عنه: ما هذا؟ قالوا: يا أمير المؤمنين نصراني. فقال أمير المؤمنين رضي الله عنه: استعملتموه حتى إذا كبر وعجز منعتموه، أنفقوا عليه من بيت المال».
الخاتمة:
وأخيراً نختم مقالنا هذا بالنقاط التالية:
l استبدال نظام الذمة أو الملل في آخر أيام الدولة العثمانية كانت أول غرسة نحو تمزيق الدولة لدول قومية ووطنية. كما مهدت في تبديل الولاء للإسلام لولاء الوطن أو القوم. فكانت أول محاولة لاستبدال الرابطة العالمية على أساس الإسلام برابطة قومية أو وطنية ضيقة.
l الدولة الإسلامية عبر تاريخها كانت مثالاً عظيماً للعيش السلمي بين طوائف وأديان مختلفة.
l الثورات القومية في آخر أيام الدولة العثمانية كانت بوازع قومي أكثر من الوازع الديني أو الطائفي، وسببه الأبرز نمو المشاعر القومية والتمييز القومي عن طريق حركات قومية تركية، والتي استطاعت أن تمسك بزمام الأمور في الدولة. كان نمو المشاعر القومية وحركات الانفصال مدعومة مباشرة من تدخل المستعمر الأجنبي.
l التقسيم السياسي للطائفية لا علاقة له بالانتماء الإسلامي، بل هو عمل محض لتقسيم البلاد الإسلامية على نمط
عشائري، ولا ينظر إلى الإسلام وما يحتويه من عقائد وأحكام، أو بالأحرى تحويل الانتماء الإسلامي إلى انتماء قومي عشائري. وقد خطط المستعمر لهذا في لبنان وهو ما حاصل الآن في العراق.
l التابعية للدولة الإسلامية غير الرابطة أو الأخوة الإسلامية. لغير المسلم حق العيش في كنف الدولة الإسلامية، ولهم حقوق وواجبات المواطن. أما الرابطة الإسلامية، أو الولاء للمسلمين، فهي رابطة عقدية تربط المسلمين في كافة أنحاء العالم، ولكن هذا لا يعني أن لكل مسلم حقوق المواطنة في دار الإسلام، فليس له حقوق دار الإسلام ما لم يهاجر إليها.
أحكام الذمة والمستأمن والمعاهد في الشريعة الإسلامية تفصل علاقة غير المسلم مع الدولة الإسلامية .
[انتهـى]
2005-05-07