المساوئ الوخيمة التي يجرّها الجبن على الإنسان
2000/03/07م
المقالات
1,953 زيارة
إن الإنسان منذ بداية خلقه إلى نهاية وجوده لم يعرف الاطمئنان المطلق على حياته والراحة التامة. لأنه لا يعيش وسط مخلوقات معصومة من الخطأ والعصيان وإذاية الآخرين، كما هو شأن الملائكة مثلاً، وإنما يعيش وسط مجموعة بشرية مطبوعة بطبائع مختلفة عن بعضها البعض ومتقلبة من حين إلى آخر، ولها مشارب فكرية وسلوكيات عدة، وهي أقرب إلى الخطأ والعصيان والظلم والتعدي من العدل والاستقامة. فكان من الطبيعي أن نجد بين الناس من هو مستقيم ومن هو منحرف، ومن هو خيّر ومن هو شرير، ومن هو مصلح ومن هو مفسد إلى غير ذلك من الأصناف البشرية التي نحتك بها في عيشنا الدنيوي. وما نراه من مشاحنات وخصومات ومظالم وصراعات وتعدٍّ على الحقوق، ليس إلا دليلاً على اختلاف المفاهيم والسلوك والطبائع بين البشر، وسواء أكانت هذه الخصومات والمشاحنات والصراعات ناتجة عن احتكاك شخصين ببعضهما أو عدة أشخاص، أم كانت صادرة عن فئة مضادة لأخرى أو بين أمة وأخرى أو ما شابه ذلك، فإنها لا تزيد عن كونها صراعات وخصومات بين متناقضين، أي بين صنفين مختلفين من البشر، معنى ذلك أن الصنف الذي يحمل صفات الخير والعدل والاستقامة يكون على نقيض الصنف الذي يحمل صفات الشر والظلم والفساد.
وهذه الصفات تحدد لنا أيّ المفاهيم المتبنّاة لدى الشخص في هذه الحياة. لأن صفات أي شخص ما، تكون بمثابة الغلاف الخارجي لمجموعة مفاهيمه عن الحياة ولقد عبر القرآن الكريم عن واقع بعض الأشخاص بصفاتهم، إذ أنزل الله في كتابه العزيز آيات تشير إلى هذا الصنف ليبين لنا عقلية كفرهم وضلالهم فقال في شأن أبي جهل: (أفمن يمشي مكباً على وجهه أهدى أمن يمشي سوياً على صراطٍ مستقيم) الملك: 22، فالمكب في هذه الآية صفة لمن يكب رأسه في الأرض فلا ينظر يميناً ولا شمالاً ولا أماماً، فهو لا يأمن العثور والانكباب على وجهه وهذه الصفة كناية عن ضلال الشخص وكفره، والهمزة في رأس الآية تأتي للاستفهام الإنكاري للصفتين المختلفتين التي أتت بهما الآية، أي هل الذي يمشي مكباً على وجهه أهدى إلى المقصد الذي يريده أم الذي يمشي سوياً معتدلاً ينظر إلى ما بين يديه على طريق مستوٍ لا اعوجاج به ولا انحراف فيه؟ وهكذا مع بقية آيات القرآن التي تتخذ من بعض النعوت والصفات إشارات تهكم وتجريح لهؤلاء الضّالين المنحرفين عن الطريق، فتصفهم تارة بالعمى وتارة بالأموات وتارة أخرى بضلالة الأنعام أو أشد من ذلك.
ولا يقف نسيج الأشخاص عند حد المفاهيم والسلوك والصفات التابعة لهم، وإنما يكتمل بمجموعة الأهداف والغايات التي تضمرها أنفسهم وتتميز بها طبائعهم، وبهذا النسيج المتماسك تكتمل شخصية كل فرد منهم، فكان من البديهي أن نجد تناقضاً بين الأصناف. فأصحاب العقليات الفاسدة والنفسيات المريضة التي لها أهداف التدمير والتخريب والإفساد وغايات الاستعلاء والاستكبار والاحتكار وحب السيادة والسلطان، ستكون على تناقض تام في أهدافها وغاياتها مع أصحاب النفسيات الطيبة التي لها أهداف الإصلاح والبناء والتعمير والعدل وغايات السمو والارتقاء والتخلص من العبودية والأسر، والسعي وراء تحصيل رضوان الله. وبسبب هذا الاختلاف الطبائعي ينشأ الاختلاف على المصالح وتنشأ من ورائه الصراعات والمشاحنات، تصل أحياناً إلى سفك الدماء. ولكن ما نريده من هذا الطرح ليس التأكيد على حدوث الصراع بين البشر، وإنما النظر في بعض المواقف والشيم داخل حلبة هذا الصراع المحتم، من مثل المروءة والرجولة والشجاعة والبسالة والجرأة، أو عكس ذلك من جبن وخوف وتخاذل وانتكاس وتقهقر. فحلبة الصراع هي لحظة الحرج الحاسمة التي تكشف عن حقيقة وزن الرجال وتبين مواقفهم وشيمهم.
وصراحة إني كلما أردت الحديث في هذه المسألة أحسستُ بمرارة العلقم تسري في حلقي من شدة ما أشعر به وأنا ألاحظ الفارق البطولي بيننا وبين أسلافنا الأمجاد، كما يحرجني كثيراً الحديث عن أجدادنا والافتخار بشيمهم الطيبة ومواقفهم البطولية بينما نحن أحفادهم لم نواصل كتابة صفحات تاريخهم بما يضاهي أعمالهم، حتى صار عندي الحديث عنهم كمن يحاول الافتخار بأصله وماضيه الزاهر لينقذ حاضره المتردي وخيبة أعماله وفشله في الحياة، ولكن أمانة البحث والتحقيق تقتضي مني الإفصاح عن الحقائق وتجرني إلى الاعتراف بالواقع المر بغية البحث عن العلاج والإصلاح، ولذا تراني أمتنع عن التزويق الباطل والتزكية الكاذبة.
نعم إن الوهن الموشوم على جباهنا وافتقارنا للمواقف البطولية والشيم الرجولية حقيقة مُرّة تصفع وجوهنا، وهي كافية لجلب الخزي والعار علينا، كيف لا ونحن نلاحظ اليوم أن المفسدين يصولون ويجولون طولاً وعرضاً بفسادهم في الأرض كيفما شاؤوا دون أن يلاقوا مقاومة جدية تضربهم على أيديهم ضربة قاصمة، بل صرت ترى أصحاب الحق متخاذلين وقاعدين عن استرجاع حقهم من أيدي الطغمة الغاشمة، بينما ترى أهل الباطل والظلم في استعلاء دائم ظاهرين فوق العباد لا يتأخرون عليهم بظلمهم وجبروتهم، ولا نبالغ إذا قلنا إن هذا العصر انقلبت فيه الموازين والمواقف، فصرت ترى ساحة الحق مقفرة وخالية من رجالها، وساحة الشر مكتظة ومزدحمة بأشرارها وفراغ الأولى وازدحام الثانية ليس بسبب قلة رجال الأولى وكثرة رجال الثانية، وإنما بسبب اختفاء أهل الحق والخير وتحاشيهم عن الناس وبروز أهل الباطل وظهورهم واستعلائهم على الناس، فلا تستغرب بعد ذلك من نبح الكلاب البرّية بالخطب الكاذبة التي أصمّت آذاننا، ولا من عواء ذئاب التأييد الوحشي الذي أرهق عقولنا، ولا من نعيق الغرابيب السود بالمدح والشعر الذي أقرف قلوبنا، ولا من الضرب على الطبول الجوفاء التي صدعت رؤوسنا. فإذا خربت الديار وأقفرت من ساكنيها فارقص بين خراب جدرانها بما يحلو لك من الألحان والأنغام، فلا حياة تناديك من وراء الجدران بالكف عن التهريج والصخب والتشدق بالزعامة.
إنهم عطلوا الشرع وتبجّحوا بالعلمانية، وأسقطوا نظام الخلافة وتشدقوا بالنظام الجمهوري ومزقوا رقعتها وتغنوا بالوطنية، وباعوا أرض فلسطين للخنازير وعزفوا على طبول السلام، وسجنوا المسلمين وقتّلوهم ثم صفقوا لنشيد الحرية والاستقلال، فهل بعد هذا الظهور والاستعلاء، ظهور واستعلاء في الأرض!
وما ظهر أولئك واستعلوا في الأرض إلا حينما فر أهل الحق واختفوا وراء الجدران، فبانتكاس الرؤوس ووهن القلوب انتعش هؤلاء الظالمون وأقدموا على الجريمة والعدوان.
أما كيف يتخاذل أهل الاستقامة والصلاح وهم يرون أنفسهم على حق وغيرهم على باطل وكفر بواح: فإن ذلك يعود إلى الوهن الذي بيّنه سيد الخلق محمد عليه الصلاة والسلام إذ قال: «الوهن هو حب الدنيا وكراهية الموت» فكان هذا التشبث بالحياة على حساب كل عزة وكرامة هو في الحقيقة موت في عالم الوجود، لأن الذي مات جسده فعلاً وانطفأت روحه انتقل من عالم الوجود إلى عالم الغيب، أما الذي لم يمت جسده ولم تنطفئ روحه وهو لا زال في عالم الوجود ولكنه ليس له فيه أي أثر، فإنه يكون ميتاً بين الأحياء، قال الله تعالى: (أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون) الأنعام: 221، فالله سبحانه وتعالى شبه في هذه الآية الذين كفروا وفسقوا عن أمر ربهم بالأموات الذين يمشون في الظلمات غير خارجين منها، أما الذين عرفوا طريق الحق والإيمان فإن عرفانهم ذاك يخرجهم من عالم الأموات والظلمات ـ أي عالم الجهل والكفر ـ إلى عالم الأحياء حيث النّور والهداية، ولعل أحدهم يفهم هنا من لفظة ـ ميت ـ أن الله سبحانه وتعالى خصّ بها الكفار دون المسلمين، وما دمنا مسلمين ولسنا بكفار فهذا المعنى لا ينطبق علينا، فأقول له ليت شعري أن يكون تصورك في محله ولكن لفظة ـ ميت ـ الواردة في الآية لا تخص الكفار فحسب وإنما تتجاوزهم إلى غيرهم ممن عرفوا ما هو الإيمان الحق ولكنهم لم يتحركوا لنصرته، فهم بمثابة الجثث الهامدة التي تحوم حولها السباع والوحوش والصقور لتفتك بأجسادها، ولذلك نعت الله أمثالهم بالأموات الفاقدين لحياة العز والكرامة، فكل من ران الوهن على قلبه فهو ميت وإن كان فيه نشاط الحياة.
وهنا أريد أن أعطي بعض الأمثلة عن الجبن والوهن لنفهم هذا اللون القبيح من الخوف. فمثلاً شخص ما يشعر بوجود لص في بيته يريد سرقة ماله، فيقوم لصده والذود عن ماله، ولكن سرعان ما يتراجع عن ذلك، إذ تجول بخاطره عدة حسابات تقعده عن الاندفاع للذود عن ماله منها التفكير بخطورة المجرمين وصلابة قلوبهم وقسوتها لحظة قيامهم بالجريمة، وعدم تورعهم عن إحداث الضرر بغيرهم، فحينها يغلب عليه مفهوم الشر والضرر، ومفهوم الجريمة والمجرمين، وينهار وتتملكه حالة من الخوف، فيجبن ويتقهقر ويترك المقاومة ويسمح للص الذي ببيته أن يعبث بأملاكه كيفما يريد دون أن يحرك ساكناً لصده. ومِثْله الذي يجبن عن الدفاع عن عرضه أو ماله أو نفسه، وتتكرر مثل هذه الحالات مع أشخاص آخرين، كالجندي حينما يحمى وطيس الحرب فيجبن ويفر من ساحة القتال، تاركاً وراء ظهره مصير جيش بحاله، وكذا مع حامل الدعوة، حينما يشعر بقرب الأذى منه، فيتنحّى عن السير في حمل الدعوة مخافة على نفسه وأولاده ولقمة عيشه، وهكذا مع بقية الأمثلة المتقاربة لهذه الحالات. والمؤسف من هذا كله هو موقف الخوف والجبن الذي يعتري أصحاب الحق، الذين من المفروض أن يتسموا بالشجاعة والشهامة والرجولة، لأنهم يرون أنفسهم على خط مستقيم وخصومهم على باطل وخط معوج، غير أن ساعة الحرج تفرز عما في قلوبهم من جبن ووهن فيأخذ ذلك مأخذه فيهم، تكشف عزائمهم، ويتراجعوا عن القيام بالواجب لصالح أصحاب الباطل والفساد والجريمة، وهكذا يصير القاعد عن الحق كالميت لا حياة فيه بسبب الخوف والجبن، ولذلك كان هذا النوع من الخوف المصحوب بالجبن، وبالاً على الناس إذا حل بهم، وخطراً حقيقياً يهدد عيشهم وأمنهم.
إن الجبن، ما سكن بقلب شخص أو بقلب فئة من الناس أو بقلب أمة، إلا وأفقدهم النخوة والرجولة والعزة والكرامة، وفتح لعدوهم سبل الظلم والفساد والعبث بحياة الناس، فتراهم يتلاعبون بهم وبمصالحهم كيفما أرادوا وكما شاؤوا دونما ورع أو حياء. فيصولون ويجولون بفسادهم في الأرض دون أن يلاقوا مقاومة أو اعتراضاً أو صداً عن غيهم الذي تفوح رائحته النتنة هنا وهناك. نعم إن الجبن إذا ما ران على قلب أمة أصبح وبالاً عليها، إذ يفقدها العزة والشهامة، ويقتل فيها الشعور والإحساس بالكرامة والطموح إلى ما هو أسمى. ويرسّخ فيها العقلية الاعتزالية، فيصير كل فرد منها يحتسب لنفسه ولا يخاف إلا على حياته ومصالحه، وخالٍياً من أي شعور بالمسؤولية المشتركة لإنقاذ نفسه، ومَن حولَه، أو حتى التفكير بتخليص أمور حياته المدنية والسياسية من أيدي الطغاة المجرمين، وتطهيرها من نجاسة أعمالهم وأفعالهم.
ولقد أخطأ من ظن أنه ينجو بنفسه إذا ما انعزل عن الناس وتنحّى عن المسؤولية وقعد عن صراع الظلم والظالمين، لأنه بذاك يكون قد أعدم نفسه وأعدم بقية الناس من ورائه دون أن يبالي ذلك أن فكرة الانعزال والتخلي إذا ما رسخت في عقول الناس، جعلتهم أفراداً سلبيين لا يمثلون قوة موحدة، فضلاً عن أن انتشار الظلم والشر والفساد في الأرض، يبطش بالجماعة والأفراد على حد سواء، ولا يبالي بمن كان منعزلاً بنفسه أو مشاركاً في المقاومة، فالفقر والحرمان والبطالة الناتجة عن سوء التصرف، والهزيمة والذل والهوان الناتجة عن الخيانة، وسلب الإرادة ومنع الاختيار وقتل الطموح الناتجة عن الجور والاستبداد… كل ذلك وغيره إذا ما مورس في الواقع فإنه يشمل الأفراد والجماعات دون أي استثناء أو احتساب أو تمييز لمن يناهض ويقاوم الظلم أو لمن كان قاعداً عن ذلك.
والدارس اليوم لحال الأمة، يرى أن جبنها وتخاذلها أمام الحكام اللاّشرعيين، حالا بينها وبين الخلاص منهم، وأعاقها عن الإفلات من قبضتهم، وسيّراها بضاعة رخيصة بأيديهم، يتاجرون بها في أسواق النصارى واليهود، غير عابئين بصرخات الاستغاثة والتلوع التي تطلقها الأمة المهزومة، ولولا هذا الخوف والجبن والتخاذل، لما استطاعت عصابة العملاء والخونة التربع على مصالح هذه الشعوب العريضة للأمة الإسلامية وإدارة شؤونها، وهم في الحقيقة أحقر الناس وأقلهم شأناً في هذا الميدان، أي ميدان الحكم والإشراف على رعاية الشؤون، ولكن صدق فينا حديث الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم حينما أخبر عن ضياع الأمانة، إذ قال: «كيف أنتم إذا ضيعتم الأمانة، فقالوا وما هي الأمانة يا رسول الله؟ قال: «هو إسناد الأمر إلى غير أهله وفي رواية أخرى يقول: «الرجل التافه ينظر في أمور العامة»، فالرسول عليه الصلاة والسلام وصف ـ الحكم والرعاية ـ بالأمانة، لأنها مسؤولية على العامة، وإذا وقفنا على معنى ـ إسناد الأمر إلى غير أهله ـ الذي جاء في الحديث الشريف ومعنى ـ الرجل التافه ينظر في أمور العامة ـ ثم سلطنا هذين المعنيين على واقعنا الحالي، لوجدناهما مطابقين له تمام المطابقة، إذ يوجد على رؤوسنا اليوم رجال تافهون في أماكن ليست لهم، يزعمون الإلهام والإبداع السياسي دون سائر الناس، مع أنهم أسوؤهم في هذا الميدان وأقلهم شأناً فيه، ولكن سكوت الأمة عليهم وخوفها من بطشهم، وفّر لهم حظ الجلوس والاستقرار الطويل على عرش السلطة وسلب سلطان الشعوب وإدارة أمورهم بهذه الإساءة المفضوحة وبذلك التلاعب المكشوف بهذه الأمانة التي أسندت إليهم، حتى عادوا يسخرون ويعبثون ويستهزئون بالأمة بشكل وقح ما بعده وقاحة، والأمة في سبات عميق ومستسلمة لهم كاستسلام الخروف للذبح والسلخ.
ولقد قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه عنه حذيفة ـ رضي الله عنه ـ: «والذي نفسي بيده لتأمُرُنّ بالمعروف، ولتنهوُنّ عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم» رواه الترمذي، وعن أبي بكر الصدّيق، رضي الله عنه، قال: يا أيها النّاس إنكم لتقرؤون هذه الآية: (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم)المائدة: 105 وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنّ الناس إذا رأوا الظّالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمّهم الله بعقاب منه» رواه أبو داود والترمذي والنسائي، فلا غرو إذا حلّ غضب الله علينا ونحن على هذه الحال من المشاهدة العينية للظلم والعدوان والمنكر والفحشاء والصد عن المعروف والتنكيل بأصحابه، ولا نأخذ على أيدي هؤلاء الظلاميين، فيا للجبن ماذا خلف لنا ويا للوهن كيف أمات قلوبنا، ويا للأعداء كيف وجدوا حظهم فينا، أولئك الأعداء الذين لا يرقبون في المسلمين إلاًّ ولا ذمة، ـ استعمار غاشم، وقتل جماعي، وتطهير عرقي، واستنـزاف للقوى والخيرات…الخ ـ، وخلاصة القول أن هذا الجبن يساوي الوهن الذي حذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولست أدري هل المسلمون التفتوا يوماً إلى قوله سبحانه وتعالى: (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون) هود: 113، أو لم يولوه أية أهمية؟، فلو وقفوا عند هذا التحذير وتمعنوا في ألفاظه لعلموا أن الخوف والخشية لا تكون إلا من الله الواحد القهّار ولا تكون من غيره، لأنه وحده صاحب القوة التي لا تقهر والهيمنة المطلقة، وكل من كان دونه لا يملك الضر ولا النفع للبشر مهما أوتي من أدوات القوة ووسائل البطش والتدمير، ومهما كانت بشاعة آلة تعذيبه وكثرة جلاوزته ووحشية جلاّديه التي تتعدى كل خيال، قال تعالى: (فلا تخشوهم واخشوني ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون) البقرة: 150. وعليه فإن هذا اللون من الخوف من البشر بدل الخوف من الله كان ولا زال لوناً منبوذاً مذموماً ولوناً مورثاً للخزي والعار، ويا ويح من طبع على قلبه الخوف هذا والجبن ومات وهو على تلك الحال، فإنها حال سيئة في الدنيا والآخرة، كما أن الأمم التي قيادها للظالمين، مصيرها مظلم، قال الله تعالى في قوم فرعون: (فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوماً فاسقين) الزخرف: 54 وقال أيضاً جل من قائل: (ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين، إلى فرعون وملئه فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد، يَقْدُمُ قومَه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود، وأُتْبِعوا في هذه لعنة ويوم القيامة بئس الرفد المرفود) هود: 96-99، وإني والله لأعجب لحال أمة الجهاد والشهادة كيف تنقلب على أعقابها فتصير أمة خنوع وخضوع، ذليلة أمام هذه الشرذمة الحقيرة من السفاحين المغتصبين لحقها والمدنسين لشرفها، كيف يكون ذلك في أمة عريقة امتلأت بذكر أخبار بطولاتها وانتصاراتها وشهامتها بطونُ كتب التاريخ! كيف تتحول من أمة حية فاعلة إلى أمة متقوقعة ومتقهقرة، فاقدة لروح التضحية والمقاومة والثورة على الباطل، كيف تنسى عزتها وكرامتها، وتسمح لغيرها من الانحطاطيين بالتقدم عليها…؟ تلك هي العواقب الوخيمة لهذا النوع من الخوف الذي ابتليت به الأمة.
إنه لحري بهذه الأمة أن تنـزع عنها هذا النوع من الخوف، وأن تتجه بقلبها وعقلها إلى الله فلا تخشى أحداً سواه، فتستأنف مسيره مجدها، تنصر الله فينصرها، وتبتغي العزة من الله فيعزها وتكون من الذين قال الله فيهم: (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسـسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم)
خالد العمراوي
2000-03-07