مفهوم الأقلية (1)
2005/10/07م
المقالات
7,573 زيارة
مفهوم الأقلية (1)
إن مفهوم الأقلية مفهوم أجنبي، لم يعرفه المسلمون ولم يعرف في الإسلام. وقد ابتلي به المسلمون حين مزقهم هذا المفهوم وما زال يمزق ويشتت بهم حتى الآن. وقد استخدمته الدول الاستعمارية كسلاح فعال للتدخل في شؤون الدول والشعوب الأخرى، ولتمزيقها؛ حتى يسهل استعمارها، والهيمنة عليها، ومنعها من النهضة والتقدم. وقد قيل إن سياسة الاستعمار تعتمد على المقولة التالية: «فرق تسد».
=================================================================
نعم إن سياسة الاستعمار هي كذلك، ولا يخفى ذلك على أحد. ومع هذا ينطلي ذلك على الشعوب وتقبل به، وتبدأ بالمطالبة به. أي أن البلد تمزق إلى أقليات كما يسمونها، ومن ثم تقوم الدول المستعمرة بتحريض هذه المجموعات البشرية على المطالبة بما يسمى بحقوق الأقليات التي أفرزتها هذه الدول ومنها حق تقرير المصير. ويمدون هذه المجموعات البشرية التي سميت بالأقليات بالسلاح والمال والخبراء، وبالعملاء والجواسيس، وبالخبرات وبالقيادات العميلة، ويدعمونها بالدعاية والإعلام والمؤتمرات الإقليمية والدولية… وإصدار القرارات في الأمم المتحدة وفي مجلس الأمن وفي المؤسسات الدولية الأخرى، وممارسة الضغوطات على البلد الذي سيجزأ، وفرض الحصار عليه ومقاطعته، وتهديده بالتدخل، و القيام بتجميد أمواله وممتلكاته، وإيقاف المساعدات والقروض عنه، وإغلاق أجوائه أمام تحليق الطيران، وإلى غير ذلك من وسائل وأساليب الحرب. ويؤسسون لتلك المجموعات البشرية التي يهيئونها لأن تسمى أقلية الأحزاب القومية والوطنية، ويصنعون لها القادة العظام الملهمين! ويحيون لها لغاتها التي ربما تكون ميتة ويطورونها ويخطون خطوطها وأحرفها ويقعدون قواعدها، ويختلقون لها تراثاً ثقافياً وفلكلوراً أو رقصاً شعبياً كما يسمونه، ويبرزون عاداتها وتقاليدها كأنها أعمال مقدسة، ويحيون طقوسها الدينية، ويكتبون لها تاريخاً حافلاً بالأمجاد القومية! ويخطون لها حدوداً جغرافية، ويوزعون الخرائط على المدارس وعلى المحافل والمؤسسات الدولية والإعلامية، ويرسمون لها علماً بألوان زاهية، ويؤلفون لها نشيداً وطنياً ويختارون لها موسيقى القرب أو ما يشبهها لتعزف كلما ارتحل أو حط قائدها الرمز أو الفعلي! ومن ثم يقولون إن هذا الشعب شعب آخر يجب أن يأخذ استقلاله وهويته، فلزم أن تعطوه حق تقرير مصيره. هذا هو الواقع المتجسد لهذا المفهوم.
مقدمة
بعد هذه التوطئة؛ نريد أن نقدم مقدمة قصيرة تتعلق باختلاق المشاكل، وصياغة المفاهيم المضللة، وانخداع الشعوب بها، وسبب سرعة تجاوب الناس معها، وسرعة إثارة عواطفهم الجياشة.
إن الدول الاستعمارية قد اكتسبت تجربة كبيرة ومعرفة واسعة جدا في هذا المضمار، وساعدها على ذلك انحطاط الشعوب الأخرى أو كما يسمونها العالم الثالث وسذاجتها وقلة وعيها. وإنها، أي الدول الاستعمارية التي تؤمن بالمكيافيلية، لا تتورع عن استخدام أدنى وأحط الأساليب لخداع هذه الشعوب من كذب ودجل ومكر وخداع واحتيال وتضليل وإغراء وتزوير للحقائق وإيجاد مغالطات. فهي تعرف كيف تخلق المشكلة فتعد الحطب من قبل أصحاب المشكلة، وتشعل النار عن طريقهم، وتقذفهم في أتونها فيكونون وقودها، وتقعد تلك الدول تتفرج على محرقتهم، وتذرف دموع التماسيح عليهم وتطلق صرخات إنسانية كاذبة، ولكنها تكون بذلك تنفخ زفيرها الوسخ عليها حتى تزداد اشتعالا.
وأما بالنسبة لصياغة المفاهيم المضللة؛ فإن المفكرين والسياسيين الغربيين عندما يأتون على صياغة المفهوم، فإنهم يصيغونه لتحقيق الهدف الخبيث المخفي الذي يحقق مصالحهم، وعلى صورة يحقق هذا الهدف، لا يصيغونه بتجرد وبنـزاهة، ولا لأن يكون موافقاً للواقع ومطابقاً للحقيقة. وعدا ذلك فإن وجهة النظر للحياة عندهم ألا وهي فصل الدين عن الحياة تلعب دوراً كبيراً في صياغة هذه المفاهيم والمصطلحات. ولهذا يجب أن يدقق في كل التعاريف والمصطلحات والتعابير التي تصدر من الغرب، فهي خطيرة للغاية ومضللة جد تضليل، وسرعان ما يقع في شراكها أعلم الناس، إلا من رحم ربي من السياسيين المفكرين المخلصين لدينهم ولأمتهم. ونرى الكثيرين ممن يسمون علماء ومشايخ وكتاب وباحثين ينساقون وراء التعاريف والمصطلحات التي تصدر من الغرب، ويتلقفونها كأنها اكتشافات علمية باهرة، ويحاولون أن يوفقوها مع الإسلام أو مع المصلحة الوطنية أو القومية حسب تعابيرهم، ويعقدون الندوات والمؤتمرات لمناقشتها وللترويج لها، وتفتح دور الإذاعة والتلفزة نوافذ لها، وتحجز الصحف والمجلات حيزاً كبيراً لها.
وعندما تكون الشعوب غير واعية سرعان ما تنخدع بهذه المصطلحات وتتخذها شعاراً لها، وتهيج عاطفتها عند سماعها، وتتنغم عليها وتترنم بها. والشعوب بطبيعتها لا تفكر، بل إن تفكيرها سطحي، وعندما يوجد بين ظهرانيها أشخاص يتحكمون فيها وفي عقلها من المخدوعين أو من المضبوعين بالغرب أومن الخونة أوالسوقة أومن المرقة أو من العلماء الجهلة ومن المنتفعين، وفي نفس الوقت يقصى كل المفكرين السياسيين المخلصين عن الساحة وعن وسائل الاتصال والإعلام، بل يزج بهم في السجون أو تعلق رقابهم على أعواد المشانق، عندئذ تفقد الأمة عقلها النير، وعينيها البصيرتين، وأذنيها الواعيتين. فتكون الجولة والصولة لأولئك الرهط المفسدين في المدينة، والذين ذكرناهم آنفاً من السوقة والعملاء والمضبوعين وغيرهم من الجهلة والمنتفعين وطلاب السمعة والمناصب. فيتمكنون من سوق الناس ورائهم ووراء هذه الشعارات والمصطلحات، فتكون الكارثة، بل لقد حلت بنا الكارثة الماحقة بسببهم. وصدق رسول الله r عندما قال: «صنفان من الناس إذا صلحا صلح الناس وإذا فسدا فسد الناس الأمراء والعلماء» (رواه أبو نعيم في الحلية عن ابن عباس).
تعريف مفهوم الأقلية
ولنأتِ على تعريف هذا المفهوم؛ فلقد نشرت الأمم المتحدة عام 1991م دراسة للمقرر الخاص فرانسيسكو كابوتورتي (Fransesco Capatori) تتبع فيه تطور مفهوم الأقلية منذ عام 1930م. ولقد أورد فيه رأيا استشاريا لمحكمة العدل الدولية، وجاء فيه ما يلي: «تعرف الجماعة (الأقلية) بأنها مجموعة من الأفراد يعيشون في قطر ما أو منطقة، وينتمون إلى أصل، أو دين، أو لغة، أو عادات خاصة، وتوحدهم هوية قائمة على واحدة أو أكثر من هذه الخصائص. وفي تضامنهم معا يعملون على المحافظة على تقاليدهم، والتمسك بطريقة عبادتهم، والتأكيد على تعليم ونشأة أولادهم طبقا لروح هذه التقاليد، مقدمين المساعدة لبعضهم البعض1».
وفي عام 1950م ناقشت اللجنة الفرعية لمنع التمييز وحماية الأقليات التابعة للأمم المتحدة، خلال عدة اجتماعات عقدتها، العناصر الأساسية المحددة لمعنى اصطلاح “الأقلية” فقالت: «إن الجماعات التي تعرف عادة بأنها أقلية قد تنتمي إلى أصل عرقي، قد يكون لها تقاليد دينية أو لغوية أو خصائص معينة تختلف عن خصائص بقية السكان. ومثل هذه الجماعات ينبغي حمايتها بإجراءات خاصة على المستويين القومي والدولي حتى يتمكنوا من المحافظة على هذه التقاليد والخصائص ودعمها».
وفي دراسة لاحقة قام بها كابوتورتي آنف الذكر حول تفسير مفهوم الأقلية، وقد شاركت عدة دول بملاحظاتها وآرائها في هذا الموضوع. وورد في نهاية هذه الدراسة ما يلي: “التأكيد على ضرورة إضافة عنصر إلى تعريف الأقلية. ويتمثل هذا العنصر في رغبة الجماعة الأقلية في المحافظة على الاعتبار الذاتي في تقاليدها وخصائصها”. وأضيف إلى ذلك العبارة التالية: “تشكل كل أقلية شخصية اجتماعية وثقافية”. وأضيف إلى ذلك أيضا ما يلي: «إذ إن الحاجة إلى حماية الأقليات تنشأ أساساً من ضعف وضعها حتى في محيط الدولة الديمقراطية2».
وفي منتصف التسعينات جرى تطور جديد على هذا المفهوم مع التأكيد على العناصر السابقة التي تحدد معناه، وقد انعكس ذلك على بعض المواثيق والمعاهدات الدولية، منها “إعلان فينا” لحماية الأقليات القومية في الدول الأوروبية، والذي صدر عام 1993م، وقد جاء فيه ما يلي: «إن الأقليات القومية هي المجموعات التي صارت أقليات داخل حدود الدولة نتيجة أحداث تاريخية وقعت ضد إرادتها. وأن العلاقة بين مثل هذه الأقلية والدول علاقة مستديمة وأفرادها من مواطني هذه الدولة3».
وفي 18 تشرين الثاني من عام 1994 صدر عن المبادرة الأوروبية المركزية بتورينو قانون حماية حقوق الأقليات، وجاء في المادة الأولى منه التالي: «إن اصطلاح الأقلية القومية يعني جماعة تقل عددا عن بقية سكان الدولة ، ويكون أعضاؤها من مواطنيها، ولهم خصائص إثنية، أو دينية، أو لغوية، مختلفة عن تلك الخاصة ببقية السكان، كما أن لديهم الرغبة في المحافظة على تقاليدهم الثقافية والدينية4».
ولقد صدر تعريف مشابه في موسكو في 21 تشرين أول 1994م عن رابطة الدول المستقلة عن الاتحاد السوفياتي البائد حيث عرف الأشخاص المنتمين إلى أقليات «بأنهم الأشخاص الكائنين بشكل دائم في إقليم أي في دولة من الدول الموقعة على العهد ويحملون جنسيتها، ولكن لهم من الخصائص العرقية، أو اللغوية، أو الثقافية أو الدينية، ما يجعلهم مميزين عن بقية سكان الدولة5».
وإلى جانب هذا التعريف أضيفت عبارة مفادها: «لا يجوز تفسير اصطلاح الأقلية بشكل يحض على أو يجيز اتخاذ أي إجراء يهدف إلى حرمان أي شخص من إقامته الدائمة أو من وضعه كمواطن6».
وقد أضاف المقرر الخاص للأمم المتحدة كابورتوتي إلى دراسته العبارة التالية: «إن عدم الاستجابة إلى شكاوى الأقليات فيما يتعلق بوضعهم المتدني يمثل خرقاً للحقوق المدنية والسياسية».
يظهر من هذه التعريفات أن الغربيين يقسمون أهل البلد الواحد على أساس قومي أو لغوي أو ديني أو حسب عادات وتقاليد وثقافات خاصة حسب تعريفهم للثقافة، ولا يقبلون انصهار هذه الشعوب في بوتقة واحدة أو اندماجها في ثقافة واحدة وفي دولة واحدة. ونضع جملة اعتراضية قبل أن نكمل بحثنا في الجانب النظري لهذا المفهوم؛ وهي أن الدول الغربية تنكر على المسلمين الذين يعيشون بين ظهرانيها هويتهم وثقافتهم، ولا تعترف بدينهم، وتفرض عليهم الانصهار في بوتقتها والاندماج في مجتمعاتها وثقافاتها. ولكنها تتحمس وتنشط نشاطا منقطع النظير لتقسيم الشعوب الإسلامية وأهل الذمة، وتطالب بإعطائهم هويتهم واستقلالهم كما يسمونه.
أسباب إيجاد الفروق في المجتمعات
إن أصحاب الفكر الغربي يعملون على إيجاد التمايز والفروق داخل المجتمعات، ويعملون على تقسيمها على أساس هذه الفروق. فما سبب ذلك؟ لندرس هذه الأسباب أولا، وهي:
1- إن المبدأ الرأسمالي الذي يعتنقه الغرب، والذي حمل لواء حقوق الأقليات وهو الذي أنتج هذا المفهوم، قد فشل فشلا ذريعا في صهر الشعوب في بوتقة واحدة. وهذا دليل على بطلان هذا المبدأ وعلى عدم صحته. مع العلم أن فكرته الأساسية وهي العلمانية ألا وهي فصل الدين عن الحياة والتي لا تجعل للدين أي دور في معترك الحياة والسياسة هي فكرة لبني الإنسان فهي عالمية؛ فكيف تنادي باستقلال الشعوب على أساس فروق دينية؟! فهذا يدل على تناقضها وعلى عدم صحتها وعلى زيفها. وانبثقت عنها فكرة الحريات العامة والتي منها حرية الاعتقاد، وحرية الفكر، والحرية الشخصية. فبناء على ذلك يتمتع كل فرد بهذه الحريات في المجتمع بغض النظر عن الفوارق الدينية أو الفكرية أو العادات والتقاليد أو الفوارق اللغوية أو الثقافية كما يعرفونها. فلماذا ينادون بتقسيم الناس على أساس هذه الفوارق؟! وهذا دليل آخر على تناقض هذا المبدأ وعلى زيفه وعلى عدم صحته. ولقد أخذت طابع الديمقراطية التي تعطي للمواطنين حسب تعبيرهم حق الاشتراك في التشريع وفي حكم البلد بدون تمييز بينهم. فكيف ينادون بتقسيم أبناء البلد الواحد بدعوى حقوق الأقلية؟! فالغرب واقع في تناقض فظيع وسحيق لا يمكن له أن يتخلص منه ما دام يؤمن بهذا المبدأ الذي في أصله يناقض الفطرة ويناقض العقل. وهذا سر فشله وبطلانه. فالغرب لم يستطع أن يوحد نفسه على أساس مبدئه الرأسمالي هذا، وبقي دولاً وشعوباً ممزقة تخوض بعضها ضد البعض الآخر حروباً طاحنة ومنها الحربين العالميتين. وتسعى كل دولة منها لتحقق السيادة على قريناتها من الدول الرأسمالية الأخرى.
2- إن مقياس الأعمال في المبدأ الرأسمالي هو النفعية؛ فالناحية الفكرية فيه قائمة لخدمة النفعية، ويحافظ على هذه الناحية عند الغربيين لتحقيق المصالح. ولهذا كان الاستعمار هدفاً تسعى إليه كل الدول الغربية. وكان أصحاب المبدأ الواحد يقتلون بعضهم البعض للحصول على المنافع التي سيجنونها من المستعمرات التي يتقاتلون عليها، ويهاجمونها كما تهاجم الذئاب فريستها. فلا يوجد في مبدئهم مفهوم الأخوة كما هو في الإسلام، فيحب الناس بعضهم بعضاً، ويؤثرون بعضهم البعض. بل الأثرة هي التي تغلف قلوب أصحاب المبدأ الرأسمالي النفعي، وتسيطر على عقولهم وتسير تصرفاتهم، فلا يعرفون الإيثار قطعاً، فشعارهم هو رغيف الخبز إما أن آكله أنا أو أنت، ويحتدم الصراع على ذلك حتى يأكله أحدهم ويحرم الأخر. ولكن في الإسلام يقول كل واحد للأخر: خذ كله أنت؛ ولهذا كان أصحاب المبدأ الرأسمالي أول من ينتهك حقوق الإنسان التي يرفعون لواء الدفاع عنها كما هو حاصل في العراق وأفغانستان وسابقاً في فيتنام، بل في كل بلد دخلوه أو اقتربوا منه أو تدخلوا فيه، ويدعمون كل الأنظمة الديكتاتورية التي تفتح لهم أبواب الاستعمار والاستغلال تحت اسم الاستثمار، وتمنحهم منابع النفط ليشفطوها ويمصوها حتى آخر نقطة كما هو حاصل في دول الخليج.
3- إن الغرب يرى في المسلمين الخطر الكامن الذي يتهددهم؛ ولهذا عاملوا الدولة العثمانية بصفتها دولة إسلامية على عكس ما عاملوا شريكتها وحليفتها الغربية ألمانيا، وقد انهزمتا معا أمام دول الحلفاء الغربية. فمزقوا الدولة العثمانية شر ممزق، وهدموا نظامها نظام الخلافة الإسلامي، واستبدلوه بأنظمة من صنعهم في كل دويلة أقاموها على أنقاض الدولة الإسلامية، ونصبوا عليها عملاء من صنائعهم ليضمنوا تبعية البلد لاستعمارهم، ولم يلتفتوا للشعوب ليعطوها الديمقراطية والحرية التي يدّعونها ويتشدقون بها، وأطلقوا أيدي عملائهم هؤلاء ليبطشوا بشعوب الأمة الإسلامية حتى تخنع هذه الشعوب وتخضع للمستعمرين الغربيين وتسكت عليهم. وأما ألمانيا فلم يمزقوها وأبقوها على حالها؛ حتى تتهيأ لها الفرصة وتعيد قوتها التي فقدتها وتعود دولة كبرى كما كانت.
موضوع الأقلية قبل سقوط الدولة العثمانية
فقبل أن تسقط الدولة العثمانية، استخدمت الدول الغربية ورقة خلق الأقليات والدفاع عن حقوقها ونصرتها، وأمدتها ودعمتها بكافة أنواع الدعم تمهيداً لتمزيق الدولة الإسلامية والسيطرة عليها؛ فأوجدت القلاقل في بلاد البلقان وأثارت شعوبها وطوائفها التي كانت آمنة مستقرة تتمتع بكافة حقوقها في ظل الحكم الإسلامي؛ فاستطاعت الدول الغربية الطامعة في الاستعمار أن تسلخ هذه البلاد عن الدولة الإسلامية قبل أن تسقط . وكذلك أثارت في لبنان فتنة طائفية دموية لتكون ذريعة لتدخلها فيه عام 1861م. وفي معاهدة لوزان التي وقعت في 24 تموز 1924م بعيد هزيمة الدولة العثمانية، مزقت الدول الاستعمارية أراضيها على أسس قومية أو وطنية أو طائفية أو مذهبية. لتضمن سيطرتها عليها، ولتضمن بقائها ضعيفة حتى لا تقوم لهذه الأمة قائمة. وأزالت هذه الدولة عن الوجود.
والجدير بالذكر أن السلطان العثماني سليمان القانوني كان قد عقد معاهدة في عام 1535 م. مع فرانسوا الأول ملك فرنسا لإعطاء صلاحيات للقناصل الفرنسيين لمحاكمة الفرنسيين المقيمين في الدولة العثمانية باعتبارهم أقلية. ومن بعد ذلك طالبت بريطانيا والنمسا وغيرهما بنفس الصلاحيات لقناصلهما وحصلت عليها وهو ما عرف بقانون الامتيازات، مع العلم أن الدولة كانت في أوج عظمتها. وهذه مخالفة شرعية لسوء فهم السلطان ولخطأ حساباته ولعدم وجود من ينبهه من علماء ومفكرين سياسيين. وتبعه السلاطين الذين جاؤوا من بعده على نفس السياسة الخاطئة. فكانت وبالاً على الدولة الإسلامية فيما بعد عندما فتحت الطريق لتدخل الدول الاستعمارية في رعايا الدولة الإسلامية الذين يحملون تابعيتها ، وخاصة النصارى، وتحضهم على التذمر والتمرد والعصيان.
وبعد سقوط هذه الدولة
وبعد سقوط الدولة الإسلامية وتقسيمها إلى دويلات هزيلة على أساس قومي أو طائفي عام 1924م، وبعد أن استقر هذا التقسيم وصارت هذه الدويلات مستساغة تقريباً لدى شعوبها، أو على الأصح تعودت عليها، بدأت دول الاستعمار الغربي، منذ خمسينات القرن العشرين، بإثارة المجموعات البشرية والتي مزجها المستعمر نفسه مع بعضها البعض فيما أسماه هو بالوطن الذي صنعه بيده الأثيمة، والتي ما زالت تقطر دماً من دماء المسلمين الزكية، ولكن على شكل قابل للتفجر في وقت متأخر. فحان هذا الوقت عام 1955م، فأثارت أهل الجنوب في السودان على أساس وجود أقليات غير مسلمة، والانفصال له قد تحقق فعلياً الآن، وبقي أن يعلن عنه رسمياً وإن كان معلناً عنه بصورة شبه رسمية بعد توقيع النظام الفاسد في السودان على الاتفاقيات التي تتعلق بفصل الجنوب؛ ولهذا أوجد المستعمرون مشكلة دارفور تمهيداً لفصلها أيضا بعدما يتم فصل الجنوب نهائياً. وهناك مشروع لتقسيم السودان إلى خمس دول على الأقل. وأوجد الاستعمار مشكلة الأكراد في شمال العراق منذ نهاية خمسينات القرن الماضي. ومنذ منتصف ثمانينات القرن الماضي أيضاً أوجد نفس المشكلة في جنوب شرق تركيا. وبدأ المستعمر الآن في إيجادها في سوريا. ويقوم المستعمر الكافر في هذه الفترة على إيجاد مشكلة شيعية في العراق والتي لا وجود لها أصلاً هناك تمهيداً لتمزيقه إلى ثلاث دويلات على الأقل. وفي المغرب مسألة الصحراء. وفي المغرب والجزائر مشكلة البربر. وفي مصر مسألة الأقباط. وفي إندونيسيا يراد فصل عدة جزر عنها بعدما نجحت دول الاستعمار في فصل تيمور الشرقية. ونجحت هذه الدول في تقسيم الباكستان عام 1971م وسمي الجزء المنسلخ منها بنغلادش. وهناك مشاريع تجزئة للدويلات الهزيلة من قبل الدول الاستعمارية التي أقامتها. وتستخدم ورقة الأقليات وحقوقها ذريعة للتقسيم والتفتيت.
إثارة الفوارق الخاصة للأقليات
إن تعريفات مفهوم الأقلية يبحث عن فوارق خاصة لدى مجموعات من الناس تكون مندمجة ومنسجمة مع غيرها في النظام العام في داخل مجتمع وفي ظل دولة واحدة، ولكنها أقل عدداً من غيرها، وفي كثير من الأحيان لا تكون لها أية مشاكل مع ما يسمى بالأكثرية أو مع المجموعات البشرية الأخرى كما كانت الحال في ظل الدولة الإسلامية. وكل المجموعات البشرية كانت منصهرة في بوتقة الإسلام، ومندمجة في المجتمع الإسلامي بدون تمييز. وحتى بعد زوال الدولة الإسلامية وإيجاد هذه الدويلات الكرتونية الهزيلة بقيت هذه المجموعات البشرية منسجمة مع بعضها البعض؛ بسبب وجود آثار لأفكار الإسلام في قلوبهم وفي حياتهم. فمثلاً في تركيا حتى أعوام الثمانينات من القرن المنصرم لم يكن هناك مشكلة أقلية كردية ولم يكن يحس الأكراد بأنهم شعب آخر، بل كانوا منسجمين مع إخوانهم الأتراك ويعانون نفس المشاكل التي يعاني منها الأتراك؛ بسبب وجود نظام كفر فاسد يطبق عليهم يخالف دينهم ولا يستند إلى عقيدتهم. وكانوا يثورون لأجل النظام المنبثق عن عقيدتهم كما حدث بثورة الشيخ سعيد الكردي من أجل إعادة الخلافة عام 1926م. ولكن في عام 1984م أسس الاستعمار عن طريق عملائه حزب العمال الكردستاني الذي بدأ بإثارة النعرة القومية عند الأكراد، وحدث ما حدث، وما زالت هذه المشكلة تتفاعل ودول الاستعمار الغربي تغذيها حتى تؤتي أكلها المر بفصل الأكراد عن الأتراك، وإيجاد كيان علماني آخر كما هو موجود في تركيا، فتزيد المشكلة تعقيداً، حيث إن المخلصين من المسلمين الذين يعملون على إزالة نظام علماني واحد في بقعة أرض واحدة تسمى تركيا ويعملون على توحيده مع البلاد الإسلامية الأخرى، فإذا قدر وقسم البلد فإنه سوف يترتب عليهم أن يعملوا على إزالة نظامين كافرين في بقعتين من الأرض منفصلتين بينهما حدود وحواجز وأسلاك شائكة؛ فيترتب على هذا التقسيم مشاكل وعوائق جديدة كما هي موجودة في باقي البلاد الإسلامية. وقس على ذلك كافة المشاكل التي تعرف بمشاكل الأقليات في العراق، وإيران، وسوريا، والسودان، وفي الجزائر، والمغرب، وفي إندونيسيا، والباكستان، وفي غيرها من البلاد.
العامل الداخلي في إثارة النعرات
وهناك عامل داخلي يساعد في إثارة هذه المشكلة ولكنه بسبب سياسة المستعمر؛ وهو أن الاستعمار أقام هذه الدويلات في العالم الإسلامي على أساس قومي أو طائفي للشعب أو للطائفة الأكثر عدداً، فيشعر الآخرون بأن هويتهم مطموسة ومهملين، وتأتي الدول الاستعمارية عندما تحين الفرصة لإثارة هذه الجماعات التي يسمونها أقليات لمصلحة تريدها، فتعمل على إثارة النعرات لدى الناس ضد بعضهم البعض وتنفرهم من بعضهم البعض. ويكون للنظام العميل الدور الأول في سحق الشعوب التي تنتمي إلى عرق آخر أو طائفة أخرى. فمثلا؛ النظام في تركيا يجعل الدولة تستند إلى القومية التركية، ويعتبر كل شخص يعيش تحت ظلمه مواطن تركي، ولا يعترف بوجود شعوب أخرى، ولا يعترف بلغاتهم، ويعاقبهم إذا تكلموا بلغاتهم أو قالوا نحن لسنا أتراكاً، وتتبع ضدهم سياسة قمعية، فماذا سيحصل عندئذ؟! قطعاً لن ترضى هذه الشعوب الأقل عدداً. وقس على ذلك الدول العربية التي تجعل أنظمتها قومية فيحصل فيها نفس الشيء. ومثلاً عندما تقول إيران إن الدولة عندنا دولة شيعية، والذي يريد أن يكون مرشداً أعلى أو رئيس جمهورية يجب أن يكون شيعياً، وتخط ذلك في دستورها، فهذا الوضع يثير الحساسية لدى المسلمين الآخرين القاطنين فيها، فيجعلهم يشعرون بأن هذه الدولة ليست دولتهم، ويحرضهم هذا الوضع على التمرد والانفصال. وخاصة عندما تأتي إحدى الدول الاستعمارية وتستغل هذا الوضع فتدعم عملية التمرد والانفصال.
[يتبع]
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- Fracesco Capatori: Study on the Rights of Persons belenging to Ethinc, Religious and Linguistic Minorities (United Nations: New york, 1991)
2- Athanasia Spiliopoulou Akermak, Justifications of Minority Protection in International Law (London/ The Hague/ Boston: Kluwer Law Intenational, 1997)
3- Tannisalv Chernichenko, Definition of Minorities.
4- المرجع السابق.
5- المرجع السابق.
6- Bishop Gregorious
2005-10-07