نفاق الحكومات الغربية تجاه المسلمين
2011/08/06م
المقالات
2,207 زيارة
نفاق الحكومات الغربية تجاه المسلمين
يمثل أهم ما يُستخلص من دروس الانتفاضات الشعبية (ولكن ماذا يجب عليهم حياله؟)
صالح عبد الرحيم – الجزائر
يجد المراقب لما يحدث هذه الأيام في مختلف أقطار البلاد العربية أن الناس الذين خرجوا بمئات الألوف وبالملايين في وجه الحكام إلى الشارع ساخطين ومحتجين ومطالبين من خلال الاعتصام وإقامة التجمعات وتنظيم المسيرات، يجد في الظاهر كأنهم اتفقوا جميعاً على عدم إدراج مسألة تطبيق الإسلام ضمن مطالبهم. فهل هو الإعلام الغربي (المنافق) والعربي التابع له يعتِّم ويوجه، أم أنها خطة متعمدة من المنتفضين تنطوي على كثير من الدهاء والحكمة والحنكة المستخلصة من تجارب سابقة في بلدان مختلفة؟ أم أنه تدبير من جهات خارجية مؤثرة تهدف إلى إحداث التغيير الذي تريد بعدما تيقنت أن المنطقة وصلت إلى درجة الغليان، وأنها مقبلة على مرحلة جديدة تمامًا فلا بد من فعل شيء ما؟ إلا أن اللافت في كل هذا الحراك هو مواقف الدول الغربية الكبرى المؤثرة بشكل مباشر في المنطقة وسياساتُها المنافقة الماكرة إزاء تطلعات أهل المنطقة، وهذا ما يجب أن يعيه المسلمون قبل غيرهم. فمن تونس إلى مصر وما بعدها… إلى اليمن وسوريا وغيرها… وكانت الشعارات في معظمها تبدأ بـ «الشعب يريد» وتنتهي بجزئيات ما يريده هذا الشعب أو ذاك حسب البلد: من إسقاط النظام، إلى محاسبة الحكام، إلى تطهير البلاد، إلى إنهاء الانقسام، إلى العودة إلى فلسطين (كما رأينا في إحياء ذكرى يوم نكبة 48 في 15/05/2011م) .
رغم أن نظام الإسلام وشريعته يكفل ويحقق محتوى جميع ما في لائحة المطالب لدى جميع الشعوب المنتفِضة، ورغم أن أهل هذه البلدان مسلمون، إلا أن رافعي بل واضعي الشعارات من منظمين وقادة حرصوا على ألا يُطلب كل ذلك من خلال الصدع بما تريده الأمة حقيقةً، وهو دون شك الإسلام في حياتها هويةً ودولةً ومجتمعاً بوصفه الحق من عند الله عقيدةً ونظاماً، إنما حرصوا على أن يُطلب من خلال إرادة الشعوب المستضعفة كحقوق تكفُلها الديمقراطية وتصدقها المواثيق الدولية كميثاق حقوق الإنسان وغيره. وبالتالي فهي في نظر كل العالم مطالب مشروعة، ولن يسع حكوماتِ الغرب -التي يحسبون لها ألف حساب – ولا شعوبَها إلا أن تقول إنها مشروعة! وقد قيل.
فمن يستطيع الوقوف في وجه من ينتفض ضد الديكتاتورية والظلم والقمع والاستبداد ويطالب بالكرامة والعدالة والحرية ورحيل الحكام الفاسدين المستبدين؟! وقد سمعنا ساسة الغرب عند أول شرر الانتفاضات – بل حكام البلاد العربية العملاء – يؤكدون على حق كل هذه الشعوب دون استثناء في الحرية والكرامة والرفعة والعيش الكريم! وأنْ لا رئاسة مدى الحياة! مع أن هؤلاء الحكام كانوا ظالمين لشعوبهم لعشرات السنين.
وبما أن الشعوب المنتفضة شعوبٌ إسلامية، فلن يكون – في نظر قادة الانتفاضات – ما يتحقق على أرض الواقع جراء هذه المطالب سوى ما يريده الإسلام وما تريده الأمة. فكأنهم خرجوا مطالبين بالإسلام بالمعنى لا باللفظ! أسلوب يبدو ذكياً يراه بعض منظمي ومسيري المسيرات في الميادين والساحات لئلا يؤلبوا عليهم العالم وشعوبَ الدول الغربية خاصةً إن هم جهروا بمرادهم، ما يمكِّن الساسة في الغرب والحكوماتِ من استنفار واستجماع القوة لدى شعوبهم ومنتخِبيهم في وجه التحركات الشعبية في بلاد المسلمين لإجهاضها وقطع الطريق على «الإسلام السياسي» ومنع التغيير المنشود. هذا من جهة.
ومن جهةٍ أخرى إذا ما استُبعد شعار الإسلام عن «الثورات» فإن هذه الأخيرة بحسب قادتها سوف تتمكن حينئذ من كسب الدعم من كل التيارات الفكرية والسياسية على اختلافها، ويتسنى لها حشد كل الطاقات من كل الطبقات في البلد في وجه الحاكم المستبد. إذ كلها تشترك في رفضها للنظام القائم وسخطها على من بيده الأمور، وفي توقها في نظرهم للديمقراطية والحرية والكرامة الإنسانية.
ولكن ما لم يُطرح كإشكال هو: ماذا بعد ذهاب الطاغية المستبد؟ وهل عندما تقر الدولُ الغربية بأن مطالب شعوب المنطقة هي بالفعل مطالب مشروعة، فهل هذا يعني أنها ستسهل أو على الأقل لا تمانع من التحول الديمقراطي لكي تتحقق للشعوب السيادةُ والعزة والكرامة والحرية والعدالة كما في الشعارات؟ وعلى حساب من سيكون هذا التحول؟ وهل ستساعد الشعوبَ لكي تزيل الحكام الجاثمين عليها عقودًا من الزمن؟ وهل ستزيل الظلم المسلط عليها وتطيح بالأنظمة القمعية الفاسدة؟ وهل ستأتي بحكم بديل ليس فيه ظلم ولا هضم ولا كبت ولا قمع؟! وهل فعلاً عندما يرحل الحاكم ويبقى النظام سوف تتغير الأمور؟ وهل سيكون إرساء الديمقراطية في مصر تحديداً خطوةً في اتجاه التحرير؟ هذا ما يجب أن يُطرح.
يا ويل من يفكر بهذا المنطق! ويا ويل من ينشد الحق والعدل والتحرر والكرامة والعزة في غير الإسلام!! وهل هنالك حق وعدل غير الإسلام؟!! ألا فليعلموا أن من كان يريد العزة فلله العزة جميعاً.
إن هذا المنطق من التفكير ينطوي على مصيبتين:
الأولى مفادها أن التغيير في بلادنا الإسلامية لا يمكن أن يحصل إلا بموافقة الغرب وفي نطاق ما يسمح به الغرب. لذا وجب على منشديه أن يخاطبوا شعوبهم بما يكون مقبولاً لدى هذا الغرب مسموحاً به، وهو ما يسمونه المطالب المشروعة (في شريعة الغرب) ، وهذا هو منطق المهزوم فكريًا وسياسياً وحضارياً. كما يتجاهل هذا المنطق أن عنجهية أميركا وهيبة أميركا زعيمة الغرب قد دُفنت في ساحات الوغى في أفغانستان والصومال والعراق ومؤخراً في ميدان التحرير، وهم ما زالوا يقيمون صنمًا مترنحًا منذ أمد يوشك أن يتهاوى.
أما المصيبة التي هي أكبر من أختها فإن منطق التفكير هذا يقفز على حقيقة عظمى، وهي أن هذه الأنظمة القمعية هي من صنع الغرب، وأنها كانت تتقاسم مع الغرب والاحتلال المنافع طويلاً، وأن هؤلاء الحكام الفاسدين الذين يُراد إزالتهم لاسترداد سلطان الأمة وسيادة مبدئها يمثلون أدواتِ البطش التي مارس الغرب طوال عقود خلت وما زال يمارس بواسطتها كلَّ هذه الهيمنة والظلم والقهر وسلب الحقوق والاستبداد والاستعباد والسرقة وجميع أصناف الفساد.
أقرَّ الرئيس الأميركي أوباما في الخطاب الذي ألقاه (في طبعته الجديدة) يوم 19/05/2011م وحدد فيه رؤى وسياسات الولايات المتحدة تجاه المنطقة العربية، فيما بدا كأنه مراجعة لسياسات أميركا في البلاد العربية في ضوء التغيرات الجارية فيها، والذي صدر منه على ما يبدو في وقت لم يكتمل فيه بعد «المشهد الثوري» ، وعينه على الانتخابات الرئاسية المقبلة، أقر أنهم بحسب قوله كانوا يدعمون ديكتاتوريات عندما راهنوا على الاستقرار في المنطقة على حساب حرية الشعوب. ويُفهم منه أنهم الآن تداركوا الأمر وتيقظوا لإنصاف الشعوب بل ولتقديم دعم مطلق للتغيير وعدم إعاقة منطق التغيير! فالغرب الاستعماري ممثلاً اليوم في أميركا وبريطانيا تحديداً هو العدو قبل هؤلاء الحكام وقبل هذه الأنظمة. ثم إن هذا المنطق من التفكير – الذي يقفز على كون الأنظمة من صنع الغرب وكون الحكام عملاء للغرب، والذي هو غريب عن الأمة الواعية – لا يوجد إلا عند صنفين من الناس:
الصنف الأول هم من أبناء الأمة ويخفى عليهم مدى عداوة الحكومات الغربية وساسة الغرب للأمة الإسلامية، وينظر هؤلاء للأمور والعلاقات بين الدول والشعوب بسذاجة محزنة. مع أن الإسلام يطلب منهم أن يتصدروا الأممَ في الفكر والوعي والسياسة وفي العلوم والمعارف والأخلاق والعمران وفي كل شيء. فهم لا يرون في حكومات الغرب وحوشاً ضارية وذئاباً متيقظة متربصة، مع أن الله تعالى قد نبأنا من أخبارهم. ولا يرون في المنظومة السياسية الدولية أداة للقهر والإذلال لدى الدول الغربية الكبرى على رؤوسهم، ولا للمؤسسات الدولية أدواتٍ لتغطية ما يمارَس عليهم من تسلط وإجرام من هذه الدول، فتارة يستنجدون بما يسمى المجتمع الدولي، وتارة بالحلف الأطلسي وتارة يستجيرون بالاتحاد الأوروبي، من أجل إصلاح أوضاعهم، أو من أجل إزالة الحكام الفاسدين الذين هم من صنعهم. كما يقصر نظرهم عن إدراك نفاق الدول الغريبة، وأنها هي التي تمنعهم من التحرر والانعتاق، وتمنعهم من الوحدة ومن إقامة دولتهم، كما يرون أن هذه الدول القزمة القائمة في بلادهم تفي بالحاجة إذا ما تم إصلاحها أو ترقيعها، وهي تمثلهم في المجتمع الدولي على كل حال!
أما الصنف الثاني فهم الذين يمارسون النفاق السياسي من السياسيين المنتفعين، وهم أرباب الانتهازية والمغرضون من توابع الغرب، سواء من العلمانيين أو ممن يُسمون إسلاميين. وهؤلاء لا يبحثون سوى عن موقع في واقع ما بعد الانتفاضة كما كانوا في واقع ما قبلها، بغض النظر عن الإسلام والمسلمين من قبلُ ومن بعد. فلا يهمهم أن يتغير النظام جذرياً لكي يقوم على أساس الإسلام؛ لأن هذا يكون خارج الإطار المرسوم فهم اليومَ مع «الثورة» يجلبون لها الدعم من الغرب على أساس الديمقراطية في مقابل الدكتاتورية بحسب زعمهم، ويسعون في المنابر الدولية لتحقيق أهدافها النبيلة، أو في العواصم الغربية لكسب الشرعية. وهم بالأمس القريب كانوا من ركائز منظومة الحاكم المستبد ويداً للنظام على شعبه ظلماً واستعباداً. يقابل هذا النفاق السياسي نفاقُ الحكومات الغربية التي تتقن نفاقها وتتفنن في إخفاء عداوتها لأمة الإسلام من أجل مصالحها، فهي مع الحكام ومع الشعوب حسب الظرف وحسب الطلب وحسب الحاجة والمصلحة.
ونحن إذا كنا لا نشك في أن حالة الاحتقان الشديدة، وحالة التردي الفظيعة التي تولدت في الأمة جراء أزمنة طويلة من قهر الحكام العملاء وأنظمة الطواغيت وضغط النظام الدولي على المسلمين هي التي جعلت الأمة الإسلامية اليوم تفكر بجد في ماضيها وفي حاضرها ومستقبلها، وتتهيأ لتصحو من غفلتها، وتنهض من كبوتها، بفضل العاملين من أبنائها، أضف إلى ذلك ما طرأ من متغيرات على الساحة الدولية بحكم ناموس التدافع والصراع والاحتكاك، على صعيد العلاقات بين الدول وما اعترى بعضها من ضعف وانكسار، وعلى صعيد الأفراد في مجال التواصل عبر القارات واستعمال وسائل الاتصال في شتى الميادين، وما كان من دور كبير لأدوات الإعلام، في زخم التناطح الحضاري واحتدام الصراع على النفوذ السياسي والاقتصادي والعسكري بشكل غير مسبوق…
وإذا كنا لا نشك في أن شرارة الانفجار لم يكن ينقصها سوى التوقيت، وأن الذي يجري اليوم هو فعلاً مطلب الشعوب في البلاد الإسلامية من أجل التغيير وإزالة الأنظمة الفاسدة، فإننا نؤكد أن أيادي الغرب الحاقد ليست في منأى عن التدخل المباشر في المجريات. كما أن أياديه المسمومة ليست في منأى عن توظيف واحتواء وتوجيه الأحداث نحو بر أمانه. وقد كان هذا وما زال واضحًا في تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا وفي كل الأقطار التي انتفض فيها الناس على الأوضاع. ولكن في الحقيقة كلمة التدخل تفقد معناها عندما نتذكر مثلاً أن توني بلير رئيس وزراء بريطانيا الأسبق كان مستشارًا للقذافي ونظامه، فالنفوذ الغربي متغلغل في البلاد والعباد منذ زمن بعيد.
ثم نقول إن اختلاف التيارات الفكرية والأحزاب السياسية في أوساط هذه الشعوب في البلاد الإسلامية لا يبرر بحالٍ كتم صوت الإسلام، ولا يبرر إفراغ الشعارات والساحات مما يستفز الغرب أو ما قد يثير فتاه المدلل الكيان المسخ (إسرائيل) ، ولا يبرر أبداً إخفاء مبدأ الأمة. صحيح أنه في بعض البلاد الإسلامية يوجد أناس من غير المسلمين يعيشون مع المسلمين، ولكن القضية في البلاد الإسلامية اليومَ هي قضية إنهاء هيمنة الغرب الرأسمالي الاستعماري على المنطقة برمتها، فالقضية أن ينهض المسلمون بوصفهم أمة عريقة صاحبة رسالة وذات هوية وحضارة هي حضارة الإسلام الشامخة لأجل هذه الغاية لا أن ينهض غيرهم، لا أن يكون المطلب هو الديمقراطية أولاً لتحرير هذه الشعوب ثم بعد ذلك تقرر الشعوب بعد التحرر ماذا تريد. وإذا ما كان من دور لغير المسلمين – من أبناء المنطقة – فلا أقل من أن يكونوا سنداً في إنجاز هذا المبتغى بمعنى عدم التعطيل، لا أن يكونوا عوناً للاستعمار الدخيل البغيض على المسلمين، لئلا يدفعوا الثمن باهظاً حاضراً ومستقبلاً كما ستدفعه (إسرائيل) قريباً بإذن الله – لو كانوا يعقلون. ولهم عبرة فيما مضى، فقد عاشوا منصَفين في ظل الخلافة الإسلامية مع المسلمين قروناً عديدة.
فمتى يستيقظ المسلمون ليدركوا أن الله تعالى عندما يخاطبهم: (إِن تُطِيعُواْ فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ) ، وعندما يقول لهم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ) إنما يعني ذلك على أرض الواقع – مما يعني – أن حلولنا يجب أن تكون من مبدئنا وهو الإسلام، فلا أقل في معاملة الكافرين من أن لا نأمنهم على ديننا وأن لا نقبل لهم رأياً أو مشورة، وهؤلاء هم اليومَ الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وروسيا وغيرها…ناهيك عن عدم جواز استدعاء التدخل الأجنبي المباشر في كل شؤوننا.
إلا أنه رغم كل هذه الاعتبارات نذكر الأمور الآتية سواء مما هو من جانب الإيجاب فيما انتاب المنطقة من حراك سياسي قوي في اتجاه التحرر عند هبوب رياح التغيير وفي أجواء الانتفاضات التي توشك أن تعم كل الأقطار، أو مما هو من قبيل المراوغة والنفاق السياسي الذي تمارسه الدول الغربية تجاه المسلمين وبلادهم مما لا يمكن أن لا نلاحظه. فقد برز بوضوح سواء على صعيد مجريات الأحداث أو على صعيد تداعياتها ما يلي:
اكتشفت الشعوب الإسلامية مقدار ما فيها من حياة وما فيها من قدرة على التغيير من حالها (على تواضع ما تحقق حتى الساعة) إن هي تحركت، واكتشفت الأمة مقدار ما فيها من حيوية وطاقة كامنة مستمدة من مبدئها إن هي عزمت، وتفطنت لما للجيوش من أهمية في تحركاتها نحو التغيير، كما أيقنت أن أوضاعها وتطلعاتها في جميع أقطارها واحدة. وبدأ ينمو فيها الوعي السياسي بالفعل – وقد يكون هذا من أهم ما ستنميه وتحققه هذه الانتفاضات – ليصل إلى ما تصبو إليه الأمة من تغيير جذري في حالها بقيام الخلافة الإسلامية، واستلام زمام أمرها، واسترجاع عزتها، وعودتها إلى المسرح الدولي من أجل حمل رسالتها.
شوهدت حالة كبيرة من الارتباك والترقب والتردد لدى الدول الغربية إزاء ما يحدث، خصوصًا في مصر. وهو ما أظهر أن ما حدث فيها مثَّل صدمةً كبيرة لأميركا بوجه خاص، وراحت تتعامل مع الأحداث كأنها تريد أن تضمن أن لا يكون على الأقل نظام العهد الجديد مغايرًا كثيرًا. وانكشف ما كان يمثله حاكم مصر ونظامه من أهمية قصوى في كل المنطقة لأميركا في وجه منافسيها على المنطقة، على حساب شعوبها، كما ظهر كم كان «ثميناً» هذا العميل ونظامه سنداً لدولة يهود المزروعة في جسد الأمة لحساب الغرب – ولحساب أميركا بالذات في هذه المرحلة التاريخية. بينما فرنسا مثلاً تأخرت في مباركة تحرك الشارع في تونس، وتلكأت في بداية الأحداث هناك حتى انكشفت.
بدت الولايات المتحدة في خضم هذه الانتفاضات كأنها أُمسك بها في مرحلة حرجة، ما جعل خطاب أوباما الأخير لا يحمل في الحقيقة أيةَ استراتيجية أو سياسة مستقبلية غير محاولة احتواء الانتفاضات التي هي في الواقع كانت غير متوقعة بالمرة.
ما أن بدأت الأحداث في مصر وتنحى حاكمها – وسيأتي الدور عاجلا أم آجلا على حكام وأنظمة دول الطوق الذين هم دعامة أمن وحياة (إسرائيل) لحساب جهة العمالة بحسب البلد – حتى بدا كأن مصر الشعبية بدأت تعود إلى موقع الريادة في الأمة، وأن العد التنازلي لكيان يهود في اتجاه الزوال قد بدأ بالفعل. وستكشف الأيام المقبلة مقدار ما تبقى لحكام مصر من قدرة على المناورة في انتظار هبة جماهيرية أخرى يدعمها المخلصون في الجيش، بالتأكيد سوف تأتي على أسس التبعية هناك.
انكشف جلياً ما لـ (إسرائيل) من شبه علاقات فوقية استعلائية مع بعض أنظمة الحكم مقابل رفض كلي من جانب الأمة. ففي ذكرى يوم النكبة ولأول مرة نرى مناكفة الاحتلال عند الحدود بهذا الشكل، ولأول مرة منذ عقود نشهد اندفاعاً نحوها بهذا الحجم، فمن جهة الناقورة مع لبنان في الجنوب إلى رفح مع مصر تحركت الجبهات شعبياً في وجه (إسرائيل) على الحدود، وبدأ الناس يزحفون إليها، لا ينقصهم سوى الحوت من جهة البحر لينقض على يهود، مما كان له تأثير كبير على الداخل (الإسرائيلي) ، ما كشف حالة الرفض التام والقطيعة الحقيقية بين كيان اليهود وشعوب المنطقة. مع أن الفعل كان رمزياً لم تُحرك فيه جيوش ولا حصل فيه زحف جماهيري. وما أن تحركت الجبهة السورية التي كانت هادئة منذ عقود حتى تداعى كيان يهود ليقول: هذا أمر خطير جداً! (وهو فعلاً كذلك عليهم) ، وهم يعلمون أنه إذا ما حصل مثلُ هذا مستقبلاً واندفعت الجموع بالملايين والجيوش بالأسلحة وصيحات الله أكبر فلن يكون بوسع هذا الكيان أن يصد أو يرد!
تداعى الأميركيون والأوروبيون كل بأساليبه الخاصة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وللمحافظة على نفوذهم في جميع الأقطار المنتفضة على الحكام المجرمين، وتصرفوا بواقعية سياسية ظهرت خلالها معاييرهم المزدوجة في التعامل مع شعوب البلاد الإسلامية ومع الأحداث احتواءً وتوظيفاً، وتعرت أساليبهم الشيطانية في سبيل تحقيق مآربهم أو الإبقاء على مصالحهم ولو بالحد الأدنى. وما تفعله بريطانيا وفرنسا في بنغازي مع المجلس الوطني الانتقالي هو نموذج لهذا التحرك.
سارع بعض حكام المنطقة إلى استباق الأحداث بالإعلان عن إصلاحات لصالح الشعوب بحسبهم كما حدث في المغرب والجزائر وموريتانيا والأردن وغيرها، في محاولة ظاهرة لاحتواء الاضطرابات أو تفادي وقوع ما يخشى. ففي الجزائر على سبيل المثال سارعوا بالقول إن البلد قد مر عليه الطوفان من قبلُ وتجاوز ما يحدث الآن في البلاد العربية، وأقبلوا على رفع حالة الطوارئ (ولو شكلياً) وكلفوا من سيشرف على حواراتٍ مع القوى السياسية من أجل تعديلات شكلية في الدستور وقانون الإعلام والأحزاب. ومن اللافت أنهم أوعزوا إلى بعض سيئي الصيت والسمعة من زبانية النظام الممقوتين لدى الناس فيما سمي بالتنسيقية الوطنية للقيام بمسيرات تطالب بالتغيير والديمقراطية، كان لها أثر عكسي على ما يتطلع إليه الناس، في أجواء من اليأس والإحباط في ظل انعدام الثقافة السياسية لدى الشباب، المعول عليهم في “تفجير الثورات” وفي دفع عجلة التغيير.
وفي هذا المضمار أقبل مجلس التعاون الخليجي في ضوء ما حدث في مملكة البحرين على فتح الباب للأردن والمغرب للانضمام في خطوة تبدو مستغربة، واضحٌ فيها الاستقواء بهما على الأخطار الآتية من الشعوب والاستفادة المتبادلة من التجارب المختلفة، خصوصًا في القمع، ودفع التدخل وزعزعة الاستقرار ودرء ما يسمونه الفتن الآتية من الخارج (الدول الكبرى المنافسة وأدواتها المحلية) . كما يظهر فيها بوضوح إبراز “ميزة” نظم الحكم عندهم وإضفاء قداسة على النظم الملكية وما يشبهها، ووضعها في مأمن من سخط الجماهير، للقول بأن لعنة الثورات لا تطال سوى الجمهوريات كما وقع في تونس ومصر ما بعدهما. كما باشروا بإصلاحات قد تفضي في بعض الأقطار إلى التحول إلى الملكية الدستورية أو ما يشبه، كل ذلك من أجل تفادي موجة التغيير.
بعد ظهور الشعوب في صدارة دول المنطقة على حساب الحكام العملاء وأنظمتهم بدا لأول مرة على أميركا، منذ صعودها في المسرح الدولي عقب الحرب العالمية الثانية (على حساب بريطانيا وفرنسا فيما يتعلق بمنطقتنا) ، أنها تُراجع حساباتها تجاه كيان يهود وتجاه المنطقة ككل. وبدأ الداخل الأميركي ينظر أن (إسرائيل) باتت عبئاً على أميركا إذ صارت تتسبب في تشويه صورة الولايات المتحدة في العالم بسبب التزام هذه الأخيرة بأمنها. وهذا بالدرجة الأولى كما يرى كثير من ساستها لا يخدم أميركا التي تسعى دوماً لإخفاء وجهها القبيح وأسنانها المكشرة ومخالبها السامة عن فرائسها. وهذا في نظر المراقبين ما سيفرض حتماً تغييرًا على أجندة كل الدول الكبرى على ضوء مصالحها في ما يسميه الغربيون الشرق الأوسط. وبدأ الجميع يرقب ضيق هامش الحركة والمناورة وما ستفعله أميركا مستقبلاً إزاء هذا الرفض ل (إسرائيل) في محيطها، بعد أن اعترف قادة كيان يهود أن كيانهم بات مهدداً في حدوده لا بل في وجوده، ولسان حالهم يقول: هل لنا من مستقبل في هذه المنطقة؟..، رغم المبالغة والابتزاز من جانبهم.
ما أن بدأت الانتفاضات في وجه الحكام حتى أجمعت الدول الغربية على أن مطالب الشعوب في البلاد العربية بالحرية والكرامة والديمقراطية هي بالفعل مطالب مشروعة، وأن حكام المنطقة مستبدون بالفعل، ويجب حقاًّ وفعلاً أن يرحلوا فوراً! واقتربوا من الاعتذار من الشعوب نفاقاً! كل دولة غربية تستعمل لغتها الجديدة إزاء الأحداث بحسب علاقتها بالبلد المنتفض بما يخدم توجهها ومصلحتها، وصارت ترحب بل وتستقبل المعارضة أو «الثوار» أو الشباب وتوجه وتدعم في اتجاه التغيير! وفي بلدان أخرى تتجاهل ما يحدث كأن شيئاً لم يكن!
فجأةً أصبح لدعم الولايات المتحدة لرجل الشارع في البلاد العربية أولوية قصوى في استراتيجية أميركا في المرحلة المقبلة، كما جاء على لسان أوباما في الخطاب يوم 19/05/2011م. وأعلن هذا الرئيس أنهم سيقفون إلى جانب هذه الثورات الشعبية، التي حيَّاها وقال إنها فرصة لتحقيق الذات والأمل! وأكد أن أميركا ليست هي من أخرج الناس إلى الشوارع، وأن حراك التغيير العربي كما وصفه إنما هو راجع إلى الاستبداد السياسي والفشل الاقتصادي في هذه الدول. قال هذا بعد أن بدأت النظم تتداعى ورموزها ورؤوسها تتهاوى تحت ضربات الشعوب الغاضبة، وليس قبل ذلك!
كما بدا على لسانه في لغة أميركية جديدة قديمة وكأنهم سيقفون مع المظلوم ضد الظالم المستبد (منذ متى؟) ، وأنهم سيقدمون مساعدات ماليةً من أجل اجتياز مرحلة وآثار التحولات، ومن أجل تعزيز الديمقراطية وتشجيع الإصلاح في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، إذ مستقبل الولايات المتحدة كما ذكر في الخطاب مرتبطٌ بالمنطقة، مع رفضٍ لاستعمال العنف ضد الشعوب من قبل الحكام! (أليست المساعدات هي من أجل كسب وضمان الولاء السياسي في المرحلة المقبلة؟) وختم أخيرا بتأكيده كذباً ونفاقاً أن مصالح أميركا لا تتناقض مع آمال شعوب المنطقة في التحرر!
رغم كل التطمينات التي قدمها الرئيس الأميركي لكيان يهود في الكلمة التي ألقاها يوم 22/05/2011م أمام اللجنة الأميركية- (الإسرائيلية) للشؤون العامة (أيباك) إلا أنه بدا للعيان أنه وبلده في مأزق، وأنه بات أمام خيارات صعبة، وبدا مدافعاً عن نفسه. يحاول جاهداً أن يوقظ (إسرائيل) على محيطها وعلى التحديات المستقبلية الكبيرة التي سوف تواجهها في محيطها، وسوف تواجه أميركا قبلَها. فكأنه يقول لقادة هذا الكيان إن الأمور في المنطقة تتبدل بسرعة، ألا ترون أن أمامنا تحديات، وأن من حولكم «شرق أوسط» جديد، وأن الديموغرافيا تزيد لغير مصلحتكم، وأن الزمن لا يسير لصالح دولتكم على المدى البعيد، فانتبهوا! ويقول لهم إن هنالك جيلًا جديداً من الشباب في البلاد العربية بالملايين ينشد التحرر ولن يقبل بقاء الاحتلال، وإن العالم من حولكم يفقد صبره، ورغم محبتنا لكم والتزامنا المطلق بأمنكم ودعمكم وتفوقكم إلا أن هنالك متغيرات على الساحة، وإن مصلحتنا ومصلحتكم تقتضي شجاعة منكم فقرروا!
وأما على صعيد ما يجب على المسلمين القيام به في مقابل هذا المكر والكيد والنفاق فنرى أنه لابد من:
1- تعرية الرأي العام الغربي المنافق، لنقول لهم: قد نبأنا الله من أخباركم.
2- التسلح بالوعي السياسي والثبات على المواقف المبدئية، والخروج للناس برأي مفاده أن الأمة الإسلامية أمة واحدة تتوق للوحدة تحت راية خليفة واحد يحكمها بالإسلام، ولو كره الكافرون.
3- كشف استحالة الوصول إلى التغيير الجذري الذي تريده الشعوب الإسلامية حقيقةً عبر المطالبة بالديمقراطية الغربية (في مقابل الدكتاتورية) في تجاهل تام للإسلام الذي يتناقض معها كلياً، أو في محاولة بائسة يائسة للتوفيق بينهما.
4- كسر التعتيم الإعلامي وكشف حقيقة التواطؤ من جميع الجهات الرسمية وغير الرسمية على كتم أصوات من ينادون بتطبيق الإسلام وبعودة الخلافة من أبناء الأمة (في مقابل وهم الدولة المدنية الديمقراطية العادلة) كحل جذري لإنهاء النفوذ الأجنبي والهيمنة الغربية، ولتحرير الأمة من قيودها وحل كل المشاكل في البلاد الإسلامية.
نعلم أن هذه الأعمال تحتاج إلى كثير من الجهد والوعي والصبر والتوكل على الله عز وجل. هذا هو الطريق، حتى يأتي نصر الله.
وأخيرًا لا بد من الإجابة عن الأمة الإسلامية على السؤال: ماذا تريد الأمة حقيقةً؟ في سطرين:
إن ما تريده الأمة حقيقة هو الإسلام الذي يعلو ولا يعلى عليه منهجاً ونظاماً للحياة. تريد الخلافة دولةً وطريقةً للوحدة. وتريد الجهاد في سبيل الله طريقاً للعزة ودعوةً لإخراج البشرية من ظلمات الجاهلية الرأسمالية الديمقراطية إلى نور الإسلام. بكلمة مختصرة: تريدها خلافة راشدة على منهاج النبوة قال تعالى: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)
2011-08-06