الانعتاق والتحرر الحقيقي
2011/04/01م
المقالات
1,619 زيارة
الانعتاق والتحرر الحقيقي
حمد طبيب
ما زالت قوى الاستعمار الكبرى كأميركا وفرنسا وبريطانيا وألمانيا تحاول التشبث بالسيطرة السياسية على بلاد المسلمين، بعد هذه الثورات العارمة ضد الظلم والقهر والتسلط، لذلك خرج الساسة وقواد الجيش في مصر وتونس بتمثيلية هزليّة اسمها (تنحّي النظام الحالي) واستبداله بمجلس عسكري، أو بحكومة انتقالية من بقايا النظام السابق يدير شؤون البلاد لفترة مؤقتة من الزمن، ففرح الناس في مصر وتونس وأقاموا الأعراس، وفرح معهم كثير من أبناء المسلمين في الدول المجاورة!
والسؤال الذي يرد هنا من أصحاب الفكر والسياسة والوعي هو: هل هذا هو الانعتاق الحقيقي الذي سالت من أجله الدماء الزكية الطاهرة، وحصلت المعاناة الكبيرة؟! وما هو الطريق الصحيح للانعتاق والتحرر الحقيقي؟!
إن هذه الأحداث التي جرت وما زالت تجري في ساحة المسلمين فيها أمران ؛ الأول: مفرح ويبشر بالخير القريب بإذنه تعالى، والثاني: محزن مبكٍ يدمي القلب ويُسيل العيون.
أما الأمر الأول فهو يذكرنا بأن هذه الأمة معدنها أصيل، تحب الإسلام، وتكره الظلم والظالمين، وتحب الشهادة في سبيل الله تعالى ضد الظلم والظالمين والطغاة، وأن هذه الأمة بدأت تشعر بمعنى الكرامة المسلوبة، وتشعر بالظلم والضيم ، وتضع إصبعها في نفس الوقت على سبب الظلم من رموز الأنظمة الحاكمة في بلاد المسلمين، وأنها أخذت تتحرك من أجل الانعتاق بعد أن خمدت تحت الظلم والذل سنوات طويلة!
وأما الأمر الثاني، وهو المبكي المحزن، فهو: عدم اتخاذ الأمة لدينها قاعدةً للانطلاق في أعمالها وأقوالها وكافة تصرفاتها، وتضع بدل ذلك شعارات تظنها -بسبب عدم الوعي- أنها من الدين؛ مثل القومية والعروبة والحرية والديمقراطية.. وغيرها ، وأنها -أي الأمة- لا تنظر للأحداث السياسية نظرة المبصر الواعي لمؤامرات الغرب وألاعيبه الشيطانية الماكرة!
والحقيقة أن أميركا، ومعها الكثير من الدول الكافرة تستغل هذه البادرة الطيبة من الأمة، وتركب موجتها، وتمسك بخطام راحلتها، وتوجهّها يميناً وشمالاً، دون أن ترى الشعوب الثائرة، ودون أن تدرك ذلك!
فما المعنى من تنحّي طاغية مجرم ووضع الأمور كلها في يد صاحبه وساعده الأيمن من الجهاز العسكري وهو قائد الجيش، أو أحد وزرائه السابقين وشريكه في الظلم، وهل هذا القائد أو الوزير الذي كان يحرس الظلم ومخططات وأعمال الظلم في طول البلاد وعرضها هو أهل للثقة من قبل هذه الشعوب الثائرة ضد الظلم؟!
ولماذا لم نسمع أحداً من القادة الموجهين لهذه الثورة يقول: إننا مسلمون، والأصل أن نحتكم للدستور الإسلامي؟! وكنا نسمع بدلاً من ذلك من يقول: نريد استبدال الفقرات كذا وكذا.. من الدستور المصري أو التونسي، ونريد انتخابات ديمقراطية على أساس هذا الدستور!
لماذا لم نسمع أحداً من هؤلاء القادة يقول: إن أميركا وكيان يهود، والمعاهدات الدولية، ومنها معاهدة السلام، هي كفر وشر على أمة الإسلام، يجب أن ننبذها وراء ظهورنا، وإن المؤسسات الدولية كمجلس الأمن وهيئة الأمم هي مؤسسات كافرة لا يجوز التعامل معها لأنها جزء من الدول الكافرة ؟
إن هذه الأحداث المفرحة المبكية لتضعنا أمام بعض النقاط المهمة نذكر منها:
أولاً: إن الانعتاق الحقيقي والتحرر، لا يكون باستبدال الحكام الظالمين في بلاد المسلمين فحسب، إنما يكون باستبدال النظم التي يسير عليها هؤلاء الحكام، والدساتير التي يستندون إليها في حكمهم، وإن الانعتاق الصحيح يكون فقط باتخاذ الدستور الإسلامي أساساً لهذا العمل، وإلا فإن هذا الانعتاق لن يزيد عن استبدال (السادات) بعد مقتله و(شاه إيران) بعد إزاحته أو (زين العابدين) بعد خلعه وتولي حسني مبارك والخميني ومحمد الغنوشي بدلاً منهم!!.. أما أن نجعل الدستور الرأسمالي بقوانينه الكافرة أساساً للحياة في أرض مصر وغيرها، فإن هذا لا يجلب عدلاً لأهل مصر، بل تبقى الطبقة الرأسمالية مستحوذة على ثروات الأمة، وتبقى القوانين في النظام الاجتماعي تبيح السفور والتعري، وتبقى قوانين النظام الرأسمالي تبيح الربا والاحتكارات، وتبقى البلاد بطولها وعرضها نهباً للكافر، يفعل ما يريد كما كان يفعل من قبل!
فالعدل والسعادة والاستقامة لا يكون إلا بأمر واحد فقط وهو: أن نضع الدستور الإسلامي على الفور موضع التطبيق العملي، وأن ننزع الدستور المصري القديم أو التونسي ونضعه تحت أقدامنا، قال تعالى: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) [المائدة50]، وقال عليه الصلاة والسلام: «تَرَكْتُ فِيكُمْ أَمْرَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا: كِتَابَ اللهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ» (الإمام مالك).
ثانياً: عملية التغيير الحقيقي تقوم بها الأحزاب المبدئية، ولا تقوم بها ثورات الشعوب فقط، حتى وإن كانت مخلصة في بعض نظرتها وتصوراتها، فان هذه الثورات سرعان ما تُركب ثورتها من قبل الكفار، وتخمد نيرانها بعد ذلك، تماماً كمال حصل في ثورات التحرّر التي كلفت الأمة الإسلامية ملايين الشهداء؛ في مصر والجزائر وليبيا وتونس.. وغيرها، وذلك في بدايات القرن الماضي وأوسطه، فاستبدلت هذه الثورات الكافر المستعمر بعملاء آخرين يحرصون على خدمة الكافر أكثر من حرصه هو على مصالحه، وما زالت الأمة حتى اليوم تكتوي بنار هؤلاء العملاء أمثال هؤلاء الحكام في بلاد المسلمين!
فلو نظرنا إلى ثورة تونس أو مصر، أو غيرها مما سيحدث مستقبلاً لرأينا أنه لم يكن هناك أية قيادة مبدئية في هذه الثورات تطرح مبدأً متميزاً، وإنما كل الأطروحات والأفكار كانت في دائرة المبدأ الرأسمالي الكافر الذي اكتوت الأمة بناره وشروره!
ومثل هذه الأحزاب والتجمعات ستسخّر وللأسف الشديد في خدمة الاستعمار، ودساتيره ومخططاته السياسية، وبشكل أقوى هذه المرة من السابق؛ أي عن طريق زخم الجماهير الثورية الصاخبة!
وأول من يُسخر في خدمة مشاريع الاستعمار الفكري والسياسي -وللأسف الشديد- هي بعض الحركات الإسلامية في مصر وتونس عندما تنخرط في العمل السياسي على أساس الفكر الغربي وما يرتضيه الكفار؛ كأميركا وفرنسا وبريطانيا ، ولعل هذا هو ما كان يعنيه ساسة هذه الدول الرأسمالية من مشاركة الحركات الإسلامية والشعوب لأنظمة الحكم القائمة في العالم الإسلامي على أساس الديمقراطية؛ وذلك كما قال أوباما في خطابه في جامعة القاهرة العام الماضي، وكما قالت وزيرة خارجية أميركا عندما صرحت على الملأ بأنها تريد مشاركة الحركات السياسية، ومنها الإسلامية في العالم الإسلامي!
فلا يصطدم أهل مصر أو تونس أو غيرهم في المستقبل، وهم ينظرون إلى النظم الجديدة، وهي تحرس السفارة (الإسرائيلية) في القاهرة تحت ذريعة المعاهدات الدولية، ويحرسون معاهدات السلام مع اليهود ويقوّونها أكثر مما سبق، ويقيمون العلاقات التجارية مع كل الدول الكافرة ومنها أميركا وبريطانيا وفرنسا أعداء الإسلام!!.
ثالثاً: الحقيقة الثالثة التي نحب أن نذكرها في هذا المقام، والقلب يعتصره الألم، والعين تدمع من شدة الأسى هي عدم الوعي السياسي والفكري على الإسلام وعلى الكفر عند الشعوب في العالم الإسلامي، وهذه هي الطامّة الكبرى والمصيبة العظيمة؛ فقد استطاعت أميركا في إيران عن طريق الشعوب الثائرة المريدة للتغيير؛ استطاعت أن تأتي بحكم أخطر على الإسلام والمسلمين، وأن تلبسه عمامة الإسلام والدين؛ ليقوم بخدمة مشاريع أميركا في منطقة الشرق الأوسط، وليقوم أتباعه من بعده بإكمال المشوار السياسي على نفس الطريق؛ فقد استطاعت أميركا عن طريق هذه الثورة العميلة أن تستنفذ طاقات الأمة وأموالها في حروب طاحنة مع العراق لمدة عشرة سنوات متتالية، واستطاعت أن تسيطر على منطقة الخليج تحت ذرائع الحماية الأميركية لهذه الدول، واستطاعت بعد ذلك تدمير العراق واحتلال أفغانستان عن طريق عملاء هذه الثورة، وليس ذلك فحسب بل استطاعت أن تقسّم العراق عن طريق أيدٍ تمتد فروعها إلى الثورة في إيران، ونقول بكل وضوح: إن أميركا حققت عن طريق الثورة المسماة (إسلامية) ما لم تستطع تحقيقه الدول الكافرة من قبل عن طريق شاه إيران!
وما جرى في إيران يجري الآن بنفس الطريقة في تركيا، وذلك بخدمة مشاريع أميركا وكيان يهود تحت اسم الإسلام وإبقاء المعاهدات الأمنية، والدفاع المشترك مع هذا الكيان الشرير.. وجرى أيضاً في السودان عندما استطاعت أميركا أن تأتي بالبشير على رأس الجماعات الإسلامية، وحركات تحرير الجنوب ليقوم بعد ذلك بإعمال المبضع في جسم السودان، ويفصل الجنوب عن الشمال حسب مخططات أميركا كما هو حاصل الآن..، وجرى كذلك في الثورات الفلسطينية عندما قامت لتحرير فلسطين فاحتضنتها أميركا ودول أوروبا لتنفيذ قرار الاعتراف باليهود، وتثبيته على أرض الواقع باسم الثورية والوطنية، وسيجري في مصر وفي غيرها من بلاد المسلمين بنفس الطريقة وبنفس الكيفية كما جرى في تركيا وفي إيران والحبل على الجرار كما يقولون!!
لذلك نقول إن الوعي الفكري والسياسي هو حياة الأمة، وبدونه تبقى الأمة جسداً بلا روح، وبلاد إرادة، وبلا هدف، وبلا طموح، فتنقاد لعدوها من حيث لا تدري، تتقاذفها الأمواج يمنة ويسرة، وقد يصل الأمر في المستقبل -ونرجو أن لا يكون ذلك- إلى تسخير هذه الأنظمة والشعوب الثائرة إلى حد محاربة من يسعى إلى الإسلام الصحيح، ممن ينبذ الديمقراطية والرأسمالية والحريات وحقوق الإنسان، وغيرها من شعارات، ومن يسعى إلى تطبيق الإسلام الحقيقي الصحيح (بإقامة دولة الإسلام)… وأسأل الله عز وجل أن لا تصل الأمور إلى هذا الحد كما جرى في تركيا مؤخرا؛ً عندما وقف قادة حزب (الرفاه والتنمية) واتهم بعض الحركات الإسلامية المخلصة التي تعمل لإعادة حكم الإسلام- بالعمالة لكيان يهود، ولم يستطع أن يفعل ذلك من قبل ساسة تركيا العلمانيين…
وفي الختام نقول: إن الأمة ستدرك في نهاية المطاف، بعدما تهدأ الأمواج، وتستقر رياح العاصفة أنها لم تغادر مكانها الذي كانت فيه، وستدرك -بإذنه تعالى- أن هذه النظم لا تزيدها إلا عنةً وتعباً وفقراً وظلماً فوق ما هي فيه من ظلم، وستبحث عن طريق الخلاص الصحيح؛ وهو الإسلام في ظلّ دولة الإسلام، وستبحث في نفس الوقت عمن يدعو لهذا الأمر بصدق وإخلاص، ونقول أيضاً: إن أمانة وحي السماء هي أمانة عظيمة عند الله تعالى، ولا يعطيها إلا لمن يستحقّ حملها بحقٍ وحقيقة، ولا يعطيها لجاهلٍ ولا عميل. فهذه الأمانة العظيمة سخّر الله من أجلها خيرة ملائكة السماء (جبريل عليه السلام)، وسخر لنشرها في الأرض خيرة البشر من الأنبياء والرسل؛ ليحملوها للناس رسالة خير وهدى.. وهكذا سيكون.. فتُحملُ هذه الأمانة في دولة إسلامية تطبق الإسلام لتحملها إلى شعوب الأرض الضالة، ونقول كذلك: بأن الزبد يذهب جفاءً كما قال الحق تعالى: (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ ) [الرعد17].
فهذه الثورات مع أن فيها بعض الخير مثل نظرة الشعوب للتحرر والانعتاق، وإحساسها بالظلم وكراهيتها للظالمين، إلا أنها زبدٌ سرعان ما ينتهي لتذهب فقاعتها على سطح الماء، ولا تنفع الناس بشيء. أما من يحمل الإسلام بحق وصدق فان الله يبارك فيه وينّميه، ويهيئ له الأسباب ليحمل الأمانة كما أرادها الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم .
ونقول أيضاً: إن الله تعالى لا يضيع أجر المحسنين أبداً، إنما يهيئ لهم الأسباب، ولعل ما يجري في ساحة المسلمين هذه الأيام هو من تهيئة المولى عز وجل تماماً تماماً كما هيأ الله لسيدنا يوسف عليه السلام وهو في ظلمات السجن ليتولى مقاليد مصر كلها، وهيأ لسيدنا موسى عليه السلام، وهيأ لرسولنا عليه الصلاة والسلام أهل المدينة الطيبين قال تعالى: (قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) [يوسف90]، وقال: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) [العنكبوت69]، وقال: (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ) [الأعراف 137].
نسأله تعالى أن تفتح هذه الأحداث الجسام في بلاد المسلمين أبواباً كانت مغلقة على العاملين بحق وصدق من أجل الإسلام وحكم الإسلام، وأن يهيئ لهم الأسباب وقلوب العباد.. إنه على ما يشاء قدير، وبالإجابة جدير.. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
2011-04-01