تفاقم النـزعة الانعزالية لدى الشعب الأميركي
2006/06/30م
المقالات
1,904 زيارة
تفاقم النـزعة الانعزالية لدى الشعب الأميركي
تشير كثير من استطلاعات الرأي التي نشرت مؤخراً أن تداعيات الحرب الأميركية في العراق أثرت على الرأي العام الأميركي، وأصبح قسم لابأس به من الشعب الأميركي يطالب حكومته بالانكفاء على الداخل، وعودة أميركا إلى عزلتها، وتخفيف الأعباء الخارجية، وإنهاء التدخلات العسكرية، والاهتمام بالشأن الداخلي؛ لتحسين الوضع الاقتصادي، وعلاج المشاكل الاجتماعية التي يعاني منها الشعب الأميركي.
وفي هذا المقام سنركز على ظاهرة العزلة تاريخياً وبعض جوانبها، وكيف خرجت أميركا من عزلتها، وكيف نستطيع استغلال المطالبة بالعزلة في لجم السياسة الأميركية القائمة على الغطرسة.
إن الأعراف والتقاليد السياسية لأية دولة إنما هي المصدر الرئيسي لسياستها العامة، بل هي التي تحدد توجهات الدول السياسية، وتكون بمثابة البوصلة في تحديد منطلقاتها على الساحة الدولية، ولعل أغلب الأعراف والتقاليد السياسية الأميركية هي انعكاس لأعراف الشعب الأميركي، وأحد هذه الأعراف هو العزلة المتفاقمة حالياً لدى الشعب الأميركي، إذ تُعتبر من أعرق الأعراف والتقاليد التي كان ينادي بها الشعب الأميركي.
كانت أوروبا تمثل المسرح الدولي قبل الحرب العالمية الثانية، وكانت هذه الدول تخوض حروباً طاحنة ضد بعضها البعض مما أغرق أوروبا في بحر من الدماء لعدة قرون، وكانت أسباب هذه الحروب هي التسابق على الغنائم والاستعمار، فقد كان الشعب الأميركي يمقت هذه الحروب الأوروبية، ويرى أنها لا تعتمد على أسباب أخلاقية مقبولة؛ لذلك كان يفضل عدم التدخل في شؤون الدول الأوروبية، وكذلك كان الآباء المؤسسون لأميركا يرون بأن على أميركا أن لا تتدخل في هذه الصراعات الخارجية، وعليها الاهتمام بالشأن الداخلي، وبسط النفوذ في نصف الكرة الجنوبي. وقد قال الرئيس الأميركي جورج واشنطن في خطابه الوداعي: «لأوروبا مجموعة من المصالح الأساسية لا علاقة لنا بها، أو علاقتنا بها من بعيد؛ ولذلك تحتم عليها أن تدخل في نزاعات مستمرة أسبابها غريبة علينا وعلى مصالحنا» وأضاف أنه من غير الحكمة «أن نورط أنفسنا بروابط اصطناعية في تقلباتها السياسية، وتجمعاتها، وتصادمات صداقاتها وعداواتها. إن موقعنا البعيد والمنفصل عنها يدعونا إلى، بل ويمكننا من، اتباع سبيل آخر… لماذا نتنازل عن مزايا الموقع الفريد؟ ولماذا نترك أرضنا لنقف على أرض أجنبية عنا؟ لماذا نربط مصيرنا بمصير أوروبا فنورط أمتنا في طموحات الدول الأوروبية وتنافسها في مصالحها ونزواتها؟» وبذلك كان هناك تناغم بين الشعب الأميركي وقيادته السياسية في توجه العزلة. وقد امتدت هذه العزلة أكثر من قرن من الزمن بحيث أصبحت من أعرق الأعراف السياسية الأميركية، بل فكرة متأصلة في العقل الأميركي.
لقد برزت عراقة العزلة وعدم التدخل في شؤون الآخرين في بداية الحرب العالمية الثانية، حين قال الرئيس الأميركي روزفلت في خطاب له أثناء الحملة الانتخابية «إن أولادنا لن يذهبوا ولن يزج بهم في أية حروب أجنبية، وبالطبع إذا هوجمنا فإننا سنقاتل، فإذا قام أحدهم بمهاجمتنا، فعندئذ لن تكون الحرب أجنبية… أليس كذلك؟».
فما أن جاء العام 1941م حتى أصبح هتلر يسيطر على أوروبا بكاملها، وكذلك اليابان أصبحت تسيطر على مواطن الثروة في منشوريا، ومساحات ضخمة من الصين، بالإضافة إلى التوسع في جنوب شرق آسيا، كل هذه التغيرات جعلت الحاجة ملحة لدخول أميركا الحرب، وأصبحت الخارطة السياسية في الحرب تسير في تهديد المصالح الأميركية الاستراتيجية، ورغم كل ذلك كان الكونغرس الأميركي يعارض الدخول في الحرب، مما أوجد صعوبة في تمرير مسودة قرار “الإعارة التأجير”. هنا أدرك الرئيس الأميركي روزفلت أن الحلفاء سيخسرون الحرب إن لم تتدخل أميركا وتقف بجانبهم، إلا أن المعارضة السياسية لدخول هذه الحرب كانت عائقاً في وجه الرئيس روزفلت، الذي كان يقول: «ما لم ندخل الحرب فإن كل شيء سيذهب هباءً».
كان الرئيس الأميركي يريد مبرراً قوياً يقنع الأميركيين من خلاله بالخروج من العزلة ودخول الحرب، كان يريد هجوماً وحشياً وعنيفاً ضد أميركا يجعله ذريعة قوية تعطيه موقفاً أخلاقياً مقنعاً للمشاركة في الحرب، وقتها فقط يستطيع أن يقضي على العزلة المتأصلة عند الأميركيين ويوحد الأمة الأميركية خلفه في رغبة الانتقام والفوز.
بدأت أميركا تتحرش وتستفز ألمانيا من خلال أعمال عسكرية ضد السفن والغواصات الألمانية، لكن هتلر أدرك هذا الفخ؛ فلم يعلن الحرب على أميركا. توجهت أميركا حينها صوب اليابان، وبدأت بإجراءات ضد اليابان تتمثل في عقوبات اقتصادية ومقاطعة وحظر على الحديد، ومن ثم على النفط، ثم تجميد الأرصدة والموجودات اليابانية في الولايات المتحدة، مع أن اليابان كانت بحاجة ماسة للنفط والحديد، خاصة أنها في حالة حرب. كان الرئيس الأميركي يريد رد فعل عسكري ياباني على هذه الضغوط ليبرر لنفسه خوض غمار الحرب، وبالفعل جاء الهجوم على قاعدة بيرل هاربر المتواجدة قريباً منها، والذي أسفر عن مقتل 2400 جندي أميركي، وإصابة 1178، وتدمير 87 طائرة عسكرية، وإغراق خمس بوارج حربية، مبرراً ليدخل الرئيس الأميركي روزفلت الحرب بدافع الانتقام ويسكت المعارضين له. فقد غضب الشعب الأميركي وطالب حكومته بالرد والانتقام، وهكذا دخلت أميركا الحرب العالمية الثانية، وحصل ما كان يريده الرئيس روزفلت. وبهذه الطريقة خرجت أميركا من عزلتها التي امتدت فترة طويلة من الزمن.
انتهت الحرب العالمية الثانية بعد أن دُمرت أوروبا واليابان بالكامل وبرزت أميركا كقوة عظمى في الموقف الدولي، فتربعت على قمة الهرم كقائدة للدول الغربية، وبذلك خرجت أميركا من عزلتها بعد أن طمعت في أن ترث الدول الأوروبية في مستعمراتها، وسال لعابها من عظم تلك الثروات التي تتحفز لنيلها. إن نشوة النصر وعظم الثروة قد أنسى السياسيين الأميركيين فكرة العزلة التي كانوا ينادون بها؛ وبذلك أغفل عن هذه الفكرة فترة من الزمن.
ثم جاءت الحرب الفيتنامية، ونقلت وسائل الإعلام الأميركية صوراً لأعمال بشعة يقترفها الجيش الأميركي ضد الفيتناميين، وأخذت أعداد الجنود الأميركيين القتلى في تصاعد، وبدأت الصور المسيئة تحدث هزة شعبية واسعة في أميركا، ورافق ذلك تصدع في الوضع الاقتصادي وتشويه لصورة أميركا العالمية، كل ذلك أفرز حالة من الغضب الشعبي ضد الإدارة الأميركية، وبدأت فكرة العزلة تقفز من جديد لدى الشعب الأميركي بعد عشرات السنين من إهمالها، وبدأت المظاهرات تنادي «بالانكفاء على الداخل» و«لا فيتنام بعد اليوم» والمطالبة بترك دور الشرطي العالمي والاهتمام بالشؤون الداخلية.
لا شك أن الإدارة الأميركية لا تستطيع أن تخوض أي حرب خارجية تعارضها غالبية الشعب الأميركي، لكنها تحاول أن تغير من موقف الشعب كما حصل في الحرب العالمية الثانية.
وصل الرئيس الأميركي نيكسون إلى البيت الأبيض، وكان واضحاً للعيان مدى الهزة والجروح الكبيرة التي أحدثتها الحرب الفيتنامية في الأميركيين، فبدأ نيكسون بمداواة هذه الجروح، وتمت مراجعة شاملة للسياسة الخارجية الأميركية، وأعلن حينها عن استراتيجية عالمية جديدة لمواجهة التحديات، منها: «في حال وقوع أشكال أخرى من العدوان، فإن أميركا ستقدم المساعدات العسكرية والاقتصادية، وعلى الدول المعتدى عليها أن توفر القوة البشرية».
كانت الولايات المتحدة تقوم بأعباء الشرطي العالمي حفاظاً على مصالحها، وتقوم هي بنفسها بأعباء هذا الدور من قوة عسكرية وجيش وأموال، وجاءت استراتيجية نيكسون بتخفيف هذه الأعباء وخاصة الخوض في الحروب المباشرة بجنودها، وأبقت على تعهدها بدعم الحلفاء بالمال والسلاح، فهي استراتيجية تكرس دور الولايات المتحدة العالمي ولكن تخفف من أعبائه وتبعاته، وبذلك يكون الرئيس نيكسون قد تحايل على المطلب الشعبي بالعودة إلى العزلة وبدأ بمداواة الشعب الأميركي من العقد النفسية الناتجة من الحرب.
ثم لما جاء حدث الحادي عشر من سبتمبر الذي أعطى الإدارة الأميركية دفعة قوية في أعمالها الخارجية بحجة محاربة الإرهاب، ووقف الشعب الأميركي كله خلف الرئيس الأميركي بوش مؤيداً له في أعماله العدائية ضد المسلمين، وخاضت أميركا حروباً طاحنةً في العراق وأفغانستان، وبعد سنوات من هذه الحروب فشلت أميركا بحربها الوحشية في استتباب الوضع في بلاد المسلمين المحتلة، بل أصبحت الأمور تزداد اضطراباً يوماً بعد يوم، وبدأ السيناريو الفيتنامي يتكرر في العراق، وبدأ الشعب الأميركي يعاني من هزات نفسية من الصور التي تنقلها وسائل الإعلام من قتل للبشر وهدم للبيوت وتشريد للأطفال وتدمير شامل لكل مرافق الحياة، صاحب ذلك أعداد القتلى المتصاعد في صفوف الجيش الأميركي، والتوابيت التي تصل يومياً إلى أميركا، بالإضافة إلى العاهات المستديمة التي تصيب الجنود، والمشاكل والعقد النفسية التي يعاني منها الجنود العائدين من العراق، بالإضافة إلى الوضع الاقتصادي المتردي بارتفاع حجم الديون الأميركية إلى أرقام قياسية، والعجز المستمر في الميزانية العامة، كما أن سمعتها العالمية تتشوه يوماً بعد يوم، وزاد في ذلك إعصار كاترينا الذي بيّن حجم القصور في إنقاذ المتضررين والناجم من استنفاذ كل الطاقات في حروب أميركا الخارجية، ولذلك ليس غريباً أن ترتفع أصوات المطالبين للحكومة بالانكفاء على الداخل، وعودة أميركا إلى عزلتها، وتخفيف الأعباء الخارجية، وإنهاء التدخلات العسكرية، والاهتمام بالشأن الداخلي لتحسين الوضع الاقتصادي، وعلاج المشاكل الاجتماعية التي يعاني منها الشعب الأميركي.
ولعل أبرز الأمور التي تكشف عن وجود فكرة العزلة في العقل الأميركي هو ما طرحه مركز «بروجيكت إيرفورس» وهو أحد أقسام مؤسسة راند الشهيرة، وهو مركز البحوث والتطوير الذي تموله القوات الأميركية عن طريق الأموال الفدرالية المخصصة لإجراء الدراسات والتحليلات، ويقوم المركز بإجراء تحليلات مستقبلية عن بدائل السياسة العامة، وجاء في دراسة شاملة للوضع العالمي تحت اسم «التقييم الاستراتيجي» والذي عرضت فيه ثلاث خيارات لاستراتيجيات كبرى لأميركا في مواجهة مشاكلها العالمية هي:
1- التوجه الانعزالي الجديد.
2- العودة إلى تعدد القطبية وتوازن القوى.
3- استراتيجية الزعامة العالمية.
إن المشاكل الخارجية التي تواجه الولايات المتحدة، وما يتمخض عن ذلك من مشاكل داخلية، كل ذلك يؤدي إلى تفاقم النـزعة الانعزالية، ولن تستطيع أميركا اليوم الخروج مما هي فيه إلا إذا أعادت ترميم استراتيجية نيكسون، وبدأت بتخفيف الأعباء الخارجية، وباشرت بمداواة الجروح الداخلية العميقة التي عززت الفجوة بين الشعب والحكومة، ولا أظنها قادرة على فعل ذلك، بل الأمور تزداد سوءاً يوماً بعد يوم. وإن تفاقمت النـزعة الانعزالية وأصبحت مطلباً شعبياً عارماً يطالب بها الأميركيون، فإن ذلك يعني شل القوة العسكرية الأميركية مهما أوتيت من قوة، ويعني أن خيارات الإدارة الأميركية الخارجية تصبح محدودة ومقتصرة على الأعمال السياسية فحسب، ولعل نقطة الضعف هذه من أعظم نقاط الضعف في أميركا. وعلى دولة الخلافة القادمة استغلال هذا الضعف، والعمل على توسيعه وتعزيزه وتضخيمه بأعمال ذكية محددة لإعادة أميركا إلى عزلتها أولاً، ومن ثم بناء ذاتنا وإعداد قوتنا وتوسيع قدراتنا لنشر الخير في ربوع العالم، بدل الشر الذي تزرعه أميركا في كل مكان في العالم.
أبو إبراهيم ـ بيت المقدس
2006-06-30