The Clash of Civilization
بقلم: صموئيل هنتنكتون
تحت هذا العنوان كتبت مجلة «شؤون خارجية Foreign Affairs» الأميركية في عددها Vol.72 NO.3 مقالاً أحدث ردود فعل مختلفة عند كثير من المفكرين والسياسيين. وهذا المقال يتضمن أفكاراً ونظرات يجدر بنا نحن المسلمين الاطلاع عليها لأنها تزيدنا معرفة بعقلية الغرب وأسلوب تفكيره وخططه المستقبلة، خاصة ونحن نعمل للانعتاق من تسلطه علينا، ولحمل رسالتنا وحضارتنا الإسلامية للغرب وللعالم أجمع. ولذلك رأت «الوعي» اطلاع قرائها على ترجمة حرفية للمقال. وفيما يلي القسم الأول منه:
النمط القادم للصراع
إن السياسة الدولية تدخل مرحلة جديدة، والمثقفون لم يترددوا في طرح رؤى وأفكار كثيرة حول ما ستكون عليه هذه السياسة ـ نهاية التاريخ، عودة الخلافات التقليدية بين الدول القومية، ضعف الدولة القومية بفعل القوى المتنافرة للقبلية والعالمية، إضافة إلى طروحات أخرى. وكل من هذه الرؤى تصيب بعض أوجه الحقيقة البارزة. مع ذلك فجميعها تفتقد وجهاً حساساً، ومركزياً بكل تأكيد، لما يمكن أن تصبح عليه السياسة الدولية في السنوات القادمة.
أن نظريتي حول هذا الموضوع هي أن المصدر الرئيسي للصراع في هذا العالم الجديد سوف لن يكون أيديولوجياً ابتداءَ أو اقتصادياً ابتداءَ. إن الانقسام الرئيسي بين النوع الإنساني والمصدر الرئيسي للصراع سوف يكون ثقافياً. إن الدول القومية سوف تبقى أقوى اللاعبين في شؤون العالم، إلا أن الصراعات الرئيسية في السياسة الدولية سوف تحدث بين أمم وجماعات تنتمي لحضارات مختلفة. إن التصادم بين الحضارات سوف يهيمن على السياسة العالمية، والخطوط الفاصلة بين الحضارات سوف تكون خطوط المجابهة في المستقبل.
إن الصراع بين الحضارات سوف يكون المرحلة النهائية في تطور الصراع في عالمنا المعاصر. فلحوالي قرن ونصف بعد انبثاق النظام الدولي الحديث إثر معاهدة السلام في وستفاليا، كانت صراعات العالم الغربي تدور بشكل رئيسي بين الأمراء والأباطرة، ملكية مطلقة وأخرى دستورية تحاول كل منهما توسيع أجهزتها الإدارية، جيوشها، قوتها الاقتصادية، والأهم من ذلك كله، الأراضي التي تخضع لسيطرتها. وفي أثناء هذه العملية خلقت هذه الصراعات الدول القومية، وبدءاً من الثورة الفرنسية أصبحت الخطوط الرئيسية للصراع بين الأمم وليس الأمراء. ففي سنة 1737، على حد قول بالمر: «انتهت حروب الملوك، وبدأت حروب الشعوب».وقد استمر نمط القرن التاسع عشر هذا حتى نهاية الحرب العالمية الأولى. بعدها، وعلى أثر الثورة الفرنسية وردود الفعل ضدها، تحول الصراع إلى صراع بين الأيديولوجيات، أولاً بين الشيوعيين والفاشية ـ النازية والديمقراطية اللبرالية. وأثناء الحرب الباردة، تجسد الصراع الأخير بالتنافس بين الدولتين العظمتين، اللتين لم تكن أي منهما دولة قومية بالمفهوم الأوروبي التقليدي، وكانت كل منهما قومية بالمفهوم الأوروبي التقليدي، وكانت كل منهما تحد هويتها بمصطلحات نابعة من أيديولوجيتها.
كل هذه الصراعات بين الأمراء والدول القومية والأيديولوجيات حصلت بشكل رئيسي داخل الحضارة الغربية، «حروب أهلية غربية» كما وصفها وليام ليند. وينطبق هذا أيضاً على الحربين العالميتين والحروب السابقة في القرون 17 و18 و19. ومع انتهاء الحرب الباردة تتحرك السياسة الدولية خارج مرحلتها الغربية، لتصبح ركيزتها التفاعل بين الحضارات الغربية وغير الغربية، أو بين الحضارات غير الغربية نفسها. وفي سياسة الحضارات فإن شعوب الحضارات غير الغربية وحكوماتها لم تعد كالسابق: مجرد أهداف تاريخية للاستعمار الغربي، لكنها أصبحت تشارك الغرب كمحرك وصانع للتاريخ.
طبيعة الحضارات
أثناء الحرب الباردة كان العالم مقسماً إلى: أول وثان وثالث. هذه التقسيمات لم تعد لها قيمة الآن. إنه من المفيد جداً أن نصنف الدول، ليس حسب أنظمتها السياسية أو حسب مستوى تطورها الاقتصادي، ولكن حسب ثقافتها وحضارتها.
ماذا نقصد عندما نتحدث عن حضارة ما؟ إن الحضارة عبارة عن كيان ثقافي. فالقرى والمناطق والمجموعات العرقية والقوميات والمجموعات الدينية، كلها تمتلك ثقافات مميزة على مستويات مختلفة من التنوع الثقافي. فثقافة قرية في جنوب إيطاليا قد تختلف عن القرى الألمانية مثلاً. والمجتمعات الأوروبية بدورها تشترك بملامح ثقافية تميزها عن المجتمعات العربية أو الصينية. والعرب والصينيون والغربيون لا يشكلون أجزاء في كيان ثقافي أوسع. إنهم يشكلون حضارات. فالحضارة إذن هي أعلى تجمع ثقافي للشعوب، وهي أوسع مستوى للشخصية الثقافية التي يمتلكها الناس، باستثناء تلك الصفات التي تميز النوع الإنساني عن باقي الأنواع. ويمكن تعريفها بعناصر موضوعية مشتركة، كاللغة والتاريخ والدين والعادات والمؤسسات، وكذلك بعنصر ذاتي هو «تمييز الذات» لدى أي شعب من الشعوب. فأي شعب لديه مستويات من الشخصية، فشخص مقيم في روما قد يعرف نفسها بدرجات متفاوتة القوة بأنه روماني أو إيطالي أو كاثوليكي أو مسيحي أو أوروبي أو غربي، فالحضارة التي ينتمي إليها هي أوسع مستوى من التمييز الذي يستطيع تمييزه. فالناس يستطيعون، بل يفعلون، إعادة تعريف هوياتهم، ونتيجة لذلك فإن تركيب وحدود الحضارات تتغير.
والحضارات قد تشمل أعداداً ضخمة من الناس، كما هو الحال في الصين (حضارة تتظاهر بأنها دولة على حد تعبير لوسيا ياي)، أو عدد صغير جداً من الناس كما في جزر الكاريبي الناطقة بالإنكليزية. والحضارة قد تشمل عدة دول قومية، كما هو الحال في الحضارات الغربية والأميركية اللاتينية والعربية، أو تشمل دول واحدة كما هو الحال في الحضارة اليابانية. والحضارات، كما هو واضح، تتمازج وتتداخل، وقد تشمل عدة حضارات ثانوية، فالحضارة الغربية تشمل فرعين رئيسيين الأوروبية والأميركية الشمالية، والإسلام له تقسيماته الثانوية: العربية والتركية والملاوية. مع ذلك فإن الحضارات كيانات ذات معنى، ورغم أن الخطوط الفاصلة فيما يبنها نادراً ما تكون حادة إلا أنها حقيقة. والحضارات متحركة (ديناميكية)؛ فهي تنهض وتسقط؛ تنقسم وتندمج. وهي، كما يعرف أي دارس للتاريخ، يمكن أن تزول وتدفن تحت رمال الزمن.
إن الغربيين يميلون إلى اعتبار الدول القومية اللاعب الرئيسي في الشؤون العالمية. وهي قد كانت فعلاً كذلك لعدة قرون. إلا أن الأبعاد الرئيسية للتاريخ الإنساني كانت تاريخ الحضارات، وفي كتابه «دراسة في التاريخ» ميز أر نولد توينبي 21 حضارة رئيسية؛ يوجد منها الآن فقط ست في عالمنا المعاصر.
لماذا ستتصادم الحضارات؟
إن الهوية الحضارية ستتزايد أهميتها في المستقبل، كما أن العالم سيتشكل عموماً اعتماداً على التفاعل القائم بين سبع أو ثمان حضارات رئيسية. وهذه تشمل الحضارة الغربية والكونفوشية واليابانية والإسلامية والهندوسية والسلافو ـ أرثوذكسية والأميركية اللاتينية ويحتمل الحضارة الأفريقية. وأهم الصراعات في المستقبل سوف تحدث على امتداد الخطوط الفاصلة بين هذه الحضارات.
ولكن لماذا سيكون الأمر كذلك؟
أولاً: لأن الخلافات بين الحضارات ليست فقط حقيقية، بل إنها أساسية. فالحضارات تتميز عن بعضها البعض بالتاريخ واللغة والثقافة والعادات، والأهم من ذلك هو الدين. فشعوب الحضارات المختلفة لها وجهات نظر مختلفة عن العلاقات بين الله والإنسان، الفرد والمجموع، المواطن والدولة، الآباء والأبناء، الزوج والزوجة. إضافة إلى اختلاف وجهات النظر حول الأهمية النسبية للحقوق والواجبات، الحرية والمسؤولية، المساواة والتسلسل الهرمي للناس. وهذه الحلافات هي نتاج القرون. إنها لن تزول قريباً. وهي أكثر جوهرية من الخلافات بين الأنظمة والأيديولوجيات السياسية. لا يعني بالضرورة العنف. مع ذلك، فعبر القرون تسبب الخلافات بين الحضارات بقيام أطول الصراعات أمداً وأكثرها عنفاً.
ثانياً: أن العالم أصبح مكاناً صغيراً. والتفاعل بين شعوب الحضارات المختلفة يتزايد، وهذه التفاعلات المتزايدة تصعد وتزكي الوعي أو الشعور الحضاري والوعي بالاختلافات والفوارق بين الحضارات. فالهجرة من شمال أفريقيا إلى فرنسا ولدت مشاعر عدوانية بين الفرنسيين وفي الوقت نفسه زادت من الاستعداد لتقبل هجرة البولنديين الأوروبيين الكاثوليك «الجيدين». والأميركيون يتفاعلون سلبياً تجاه الاستثمارات الأكبر للكنديين والأوروبيين. كذلك، وعلى حد تعبير دونالد هورويتز Donald Horwitz، «فان ايبو قد يكون… من الاويري Owerri أو Onitsha فيما كان يعرف بالمنطقة الشرقية من نيجيريا. وفي العاصمة لاغوس هو فقط ايبو. وفي لندن هو نيجيري. وفي نيويورك هو أفريقي». إن التفاعل بين شعوب الحضارات المختلفة يزيد من الشعور الحضاري لهذه الشعوب مما يؤدي إلى إذكاء خلافات وعداوات تمتد، أو يعتقد أنها تمتد في عمق التاريخ.
ثالثاً: أن عملية التحديث الاقتصادي والتغيرات الاجتماعية الحاصلة في أنحاء العالم تفصل الناس عن الهويات المحلية الدائمية. وهي تضعف الدولة القومية كمصدر للهوية. وفي معظم بقاع العالم تحرك الدين ليملأ هذا الفراغ، غالباً بصورة حركات تسمى «أصولية». وحركات كهذه تشاهد في النصرانية الغربية وفي اليهودية وفي البوذية والهندوسية، إضافة إلى الإسلام. وفي معظم البلدان ومعظم الأديان فإن الناس النشطين في الحركات الأصولية هم الشباب، وخريجو الجامعات، وتقنيو الطبقة الوسطى، وأصحاب التخصصات ورجال الأعمال. أن «عدم علمنة العالم» unsecularization كما أشار جورج ويغل George Weigel، «هي إحدى الحقائق الاجتماعية المهيمنة في نهاية القرن العشرين». أن الصحوة الدينية توفر أساساً للهوية والالتزام بتجاوز الحدود القومية ويوحّد الحضارات.
رابعاً: أن تنامي الشعور الحضاري Civilization – Consciousness يشجعه الدور الثنائي للغرب. فمن ناحية يتربع الغرب على قمة القوة. وفي الوقت نفسه، وقد يكون ذلك نتيجة، فإن ظاهرة العودة إلى الجذور تحدث لدى الحضارات غير الغربية. ويستطيع المرء أن يسمع باستمرار إشارات إلى اتجاهات نحو الانغلاق و«الأسيوية» Asianization في اليابان، إلى انتهاء عهد نهرو و«هندكة» الهند، إلى فشل الأفكار الغربية المتمثلة في الاشتراكية والقومية وبالتالي «إعادة أسلمة» الشرق الأوسط، وما نسمعه الآن حول الحوار بين التغريب والروسنة في بلاد بوريس يلتسين. فهناك غرب في أوج قوته يواجه «لا غرب» تتزايد رغبته وإرادته وموارده لتشكيل العالم بطريقة لا غربية9.
وفي الماضي كانت النخبة في المجتمعات غير الغربية تتكون عادة من الناس الذين يرتبطون بالغرب، الذين تخرجوا من جامعات أوكسفورد أو السوربون أو ساندهيرست، والذين تشبعوا بالأفكار والقيم الغربية. وفي الوقت نفسه كان عامة الناس في البلدان غير الغربية متشبعين بشكل عام بالثقافة المحلية. أما الآن فقد انقلبت هذه العلاقات. فهناك عملية «لا تغريب» وعودة إلى الثقافة المحلية لدى النخب تحدث في كثير من البلدان غير الغربية في نفس الوقت الذي تتزايد فيه شعبية الثقافية (والموضة) والعادات الغربية، خاصة الأميركية، بين جماهير الناس.
خامساً: أن الخصائص والاختلافات الثقافية أقل قابلية للتحول أو التبدل وبالتالي أقل إمكانية للمساومة والحل من الخصائص السياسية والاقتصادية. ففي الاتحاد السوفياتي سابقاً، من الممكن أن يصبح الشيوعيون ديمقراطيين، والأغنياء يمكن أن يصبحوا فقراء أو بالعكس، إلا أن الروس لا يمكن يصبحوا استونيين والآذريين لا يمكن أن يصبحوا أرمن. وفي الصراعات الطبقية والعقائدية كان السؤال الرئيسي: «في أي جانب أنت؟» وكان بإمكان الناس، وقد فعلوا، اختيار الجانب أو تغييره. وكما نعرف، من البوسنة إلى القفقاس إلى السودان، فإن الجواب الخطأ لهذا السؤال قد يعني رصاصة مستقرة في الرأس. والأكثر من العرقية فإن الدين يميز بشدة ووضوح بين الناس. فقد يكون الإنسان نصف فرنسي ونصف عربي، أو حتى أن يكون مواطناً في دولتين. إلا أنه من الصعب أن يصبح المرء نصف كاثوليكي ونصف مسلم.
أخيراً فإن ظاهرة المناطق الإقليمية الاقتصادية تتزايد. فنسب التجارة الإجمالية ضمن المناطق الإقليمية قد زادت بين 1980 و1989 من 51% إلى 59% في أوروبا، ومن 33% إلى 37% في شرق آسيا، ومن 32% إلى 36% في أميركا الشمالية. أن أهمية الكتل الاقتصادية الإقليمية يحتمل أن تتزايد في المستقبل. فمن ناحية سوف تزيد هذه الظاهرة في حال نجاحها من الشعور الحضاري. ومن ناحية أخرى فإن هذه الظاهرة يمكن أن تنجد فقط عندما تتجذر ضمن حضارة مشتركة. فالجماعة الأوروبية قد أنشئت على أساس مشتركة من الثقافة الغربية والمسيحية الغربية. ونجاح منطقة التجارة الحرة لأميركا الشمالية يعتمد على التقارب الحاصل الآن بين الثقافة المكسيكية من جهة والكندية والأميركية من جهة أخرى. واليابان، على العكس، تواجه صعوبات في خلق كيان اقتصادي مماثل في شرق آسيا، لأن اليابان مجتمع وحضارة خاصة. ومهما بلغت قوة العلاقات التجارية والاستثمارية بين اليابان وباقي دول شرق آسيا إلا أن الاختلافات الثقافية مع هذه البلدان تثبطها وقد تمنعها من تطوير تكامل اقتصادي إقليمي كما هو حاصل في أوروبا وأميركا الشمالية.
على العكس من ذلك فإن الثقافة المشتركة تسهم بشدة في التوسع السريع في العلاقات الاقتصادية بين جمهورية الصين الشعبية وهونغ كونغ وتايوان وسنغافورة والمجتمعات الصينية فيما وراء البحار في باقي الدول الآسيوية. فمع انتهاء الحرب الباردة بدأت العوامل المشتركة الثقافية تتغلب تدريجياً على الخلافات الأيديولوجية، وازداد التقارب بين البر الصيني وتايوان. فإذا كان العامل المشترك الثقافي هو الشرط الأساسي للتكامل الاقتصادي فإن الكتلة الاقتصادية الرئيسية في شرق آسيا ستتمركز مستقبلاً على الأكثر حول الصين. وهذه الكتلة قد بدأت بالظهور في عالم الواقع. فكما يلاحظ موري وايدنبوم Murry Weidenbaun:
«رغم الهيمنة اليابانية الحالية على المنطقة إلا أن الاقتصاد الآسيوي المرتكز على الصين يبرز بشكل سريع كمركز جديد للصناعة والتجارة والتحويل. فهذه المنطقة الاستراتيجية تحتوي على كميات مهمة من القدرات التقنية والصناعية (تايوان)، وعلى مستوى بارز من الخدمات والتسويق وإدارة الأعمال (هونغ كونغ)، وشبكة اتصالات متطورة (سنغافورة)، مع مصادر كبيرة للرأسمالي (الدول الثلاث)، وثروات هائلة من الأرض والموارد الطبيعية والأيدي العاملة (البر الصيني)… فمن غوانغزو إلى سنغافورة، ومن كوالا لامبور إلى مانيلا توصف هذه الشبكة ذات النفوذ ـ التي ترتكز غالباً على امتدادات القبائل التقليدية ـ بأنها الصمود الفقري لاقتصاد شرق آسيا».
إن الثقافة والدين يشكلان أساس منظمة التعاون الاقتصادي التي تضم البلدان الإسلامية غير العربية: إيران، باكستان، تركيا، أذربيجان، كازخستان، كيرغيزستان، تركمانستان، تاجيكستان، ازبكستان وأفغانستان. وأحد المحفزات لبعث وتوسيع هذه المنظمة، التي أنشئت أساساً في الستينات من قبل تركيا وإيران وباكستان، هو إدراك قادة عدد من هذه الدول أنه لا أمل لديهم بالانضمام إلى الجماعة الأوروبية. وكذلك تستند الكاريكوم Caricon، السوق المشتركة لأميركا الوسطى، على أسس ثقافية مشتركاً. أما الجهود المبذولة لإنشاء كيان اقتصادي كاريبي ـ أميركي وسطي لردم الثغرة الانكلو ـ لاتينية فقد باءت بالفشل إلى يومنا هذا.
وكلما عرّف الناس هويتهم بمصطلحات عرقية ودينية فإنهم سيلاحظون وجود علاقة «نحن» مقابل «هم» بينهم وبين أفراد الأعراق والديانات المختلفة. وانتهاء الدولة ذات الهوية الأيديولوجية في أوروبا الشرقية والاتحاد السوفياتي سابقاً يسمح للكيانات والعداوات العرقية التقليدية بأن تأتي إلى المقدمة. فالاختلافات في الثقافة والدين تولد اختلافات حول المسائل السياسية، من حقوق الإنسان إلى الهجرة إلى التجارة وإلى البيئة. فالتقارب الجغرافي يؤدي إلى مطالب إقليمية متعارضة، من البوسنة إلى ميندناو. والأهم من ذلك أن جهود الغرب لتشجيع قيمة في الديمقراطية واللبرالية كقيم عالمية، وللحفاظ على هيمنة العسكرية ولتوسع مصالحه الاقتصادية تخلق ردود فعل مضادة من باقي الحضارات. ونظراً لتناقض قابليتها على تعبئة وحشد الدعم وتكوين التحالفات على أسس أيديولوجية سوف تزيد الحكومات والمجموعات من محاولاتها إنجاز ذلك بمخاطبتها الهوية الحضارية والدينية المشتركة.
إن التصادم بين الحضارات يحصل إذن على مستويين: على المستوى الصغير حيث تتنازع المجموعات المتجاورة على امتداد الخطوط الفاصلة بين الحضارات، غالباً باستخدام القوة والعنف، من أجل السيطرة على الأرض أو واحدة على الأخرى. وعلى المستوى الكبير ستتنافس الدول من مختلف الحضارات من أجل الحصول على القوة العسكرية والاقتصادية، وتتنازع من أجل السيطرة على المؤسسات الدولية والأطراف الثالثة، وتتنافس لدعم ونشر قيمها السياسية والدينية الخاصة.
الخطوط الفاصلة بين الحضارات
إن الخطوط الفاصلة بين الحضارات تحل تدريجياً مكان الحدود السياسية والأيديولوجية لفترة الحرب الباردة كنقاط انفجار للأزمات وسفك الدماء. فالحر بالباردة بدأت عندما قسم الستار الحديدي أوروبا سياسياً وأيديولوجيا. وهي قد انتهت مع سقوط ذلك الستار. ومع زوال التقسيم الأيديولوجي لأوروبا عاد التقسيم الثقافي للقارة بين المسيحية الغربية من جهة وبين المسيحية الأرثوذكسية والإسلام من جهة أخرى إلى الظهور. وأهم خط للتقسيم في أوروبا، كما اقترح ويليام والاس William Walla، قد يكون الحدود الشرقية للمسيحية الغربية في سنة 1500م. وهذا الخط يمتد على طول الحدود الحالية بين فنلندا وروسيا وبين دول البلطيق وروسيا ثم يقطع روسيا البيضاء وأوكرانيا ليفصل الأجزاء الغربية ذات الغالبية الكاثوليكية في أوكرانيا عن الأجزاء الشرقية ذات الغالبية الأرثوذكسية، ثم يميل الخط إلى الغرب ليفصل ترانسلفانيا عن باقي رومانيا، ثم يمر عبر يوغسلافيا تقريباً على نفس الحد الفاصل حالياً بين كرواتيا وسلوفينيا وباقي يوغسلافيا. وفي البلقان ينطبق هذا الخط طبعاً على الحدود التاريخية بين الدولتين الهابسبرغية (النمسا) والعثمانية. فالناس الذين يقطنون شمال وغرب هذا الخط هم بروتستانت أو كاثوليك؛ فهم قد عاشوا التجارب التي مر بها التاريخ الأوروبي: الإقطاع، النهضة، الإصلاح الديني، التنوير، الثورة الفرنسية، والثورة الصناعية، وهم عموماً في وضع اقتصادي أفضل من القاطنين في الشرق؛ وهم قد يطمحون الآن إلى زيادة ارتباطهم باقتصاد أوروبي مشترك وإلى تقوية أنظمتهم السياسية الديمقراطية. أما الناس القاطنون جنوب وشرق هذا الخط فهم أرثوذكس أو مسلمون؛ وهم يتبعون تاريخياً الدولة العثمانية أو القيصرية الروسية ولم يتأثروا إلا قليلاً بالأحداث المؤثرة في باقي أنحاء أوروبا؛ وهم عموماً أقل تطوراً اقتصادياً، ويبدون أقل احتمالاَ أن يطوروا أنظمة سياسية ديمقراطية مستقرة. إن الستار المخملي للثقافة قد حل محل الستار الحديدي للأيديولوجية كأهم خط فاصل في أوروبا. وكما تثبت الأحداث في يوغسلافيا فهو ليس خط فوارق واختلافات؛ إنه أحياناً خط صراعات دموية أيضاً.
إن الصراع على طول الخط الفاصل بين الحضارتين الغربية والإسلامية مستمر منذ 1300 سنة. فبعد ظهور الإسلام لم تتوقف اندفاعة العرب والمغاربة نحو الغرب والشمال إلا في تور Tours في سنة 732م. ومنذ القرن الحادي عشر وحتى الثالث عشر حاول الصليبيون وبنجاح مؤقت أن يخضعوا الأرض المقدسة لحكم المسيحية والمسيحيين. ومنذ القرن الرابع عشر وحتى السابع عشر قلب العثمانيون الأتراك الموازين ومدوا نفوذهم إلى الشرق الأوسط والبلقان، واحتلوا القسطنطينية وحاصروا فيينا مرتين. وفي القرنين التاسع عشر والعشرين، ومع اضمحلال القوة العثمانية ثبتت بريطانيا وفرنسا وإيطاليا سيطرة الغرب على معظم شمال أفريقيا والشرق الأوسط.
وبعد الحرب العالمية الثانية بدأ الغرب بدوره بالتراجع؛ اختفت الإمبراطوريات الاستعمارية؛ بدأت القومية العربية أولاً ثم الأصولية الإسلامية بالظهور؛ أصبح الغرب أكثر اعتماداً على دول الخليج الفارسي في توفير ما يلزمه من طاقة؛ دول النفط المسلمة أصبحت غنية بالمال، وغنية بالسلاح إن شاءت. حدثت حروب عدة بين العرب وإسرائيل (التي خلقها الغرب). فرنسا خاضت حرباً دموية شرسة في الجزائر طول الخمسينات؛ القوات البريطانية والفرنسية غزت مصر سنة 1956؛ القوات الأميركية ذهبت إلى لبنان سنة 1958؛ بعد ذلك عادت القوات الأميركية إلى لبنان، هاجمت ليبيا واشتبكت في عدة مجابهات مسلحة مع إيران؛ الإرهابيون العرب والمسلمون، المدعومون من قبل ثلاث حكومات شرق أوسطية على الأقل، استخدموا سلاح الضعفاء وفجروا الطائرات والمنشآت الغربية وأخذوا رهائن غربيين. وهذه الحرب بين العرب والغرب توجت سنة 1990 حينما أرسلت الولايات المتحدة جيشاً كثيفاً إلى الخليج الفارسي لحماية بعض البلدان العربية ضد عدوان بلد آخر. وعقب هذه الحرب ازدادت توجهات خطط حلف الناتو نحو التهديدات وعدم الاستقرار المحتمل على طول الضلع الجنوبي.
إن الاحتمال ضعيف جداً بأن تضعف هذه المجابهة العسكرية المستمرة منذ قرون بين الغرب والإسلامي. بل إنها من الممكن أن تزداد شراسة وحدة. فحرب الخليج قد جعلت بعض العرب يشعرون بالفخر لأن صدام حسين هاجم إسرائيل ووقف في مواجهة الغرب. كما أنها جعلت الكثيرين يشعرون بالمهانة والامتعاض من التواجد العسكري الغربي في الخليج الفارسي، ومن التفوق العسكري الغربي الكاسح، ولعدم قدرتهم الواضحة على صنع مصيرهم بأيديهم. والعديد من البلدان العربية، إضافة إلى المصدرة للنفط منها، قد وصلت مستويات من التطور الاجتماعي والاقتصادي أصبحت معها الأشكال الاتوقراطية (الاستبدادية) للحكم غير مناسبة، وازدادت معها الجهود لإدخال الديمقراطية. وقد حصلت بالفعل بعض الانفتاحات في الأنظمة السياسية العربية. والمستفيدون الرئيسيون من هذه الانفتاحات كانت الحركات الإسلامية. ففي العالم العربي، وباختصار، تؤدي الديمقراطية الغربية إلى تقوية الاتجاهات السياسية المعادية للغرب. وهذه الظاهرة قد تكون عابرة، إلا أنها تعقد بالتأكيد العلاقات بين البلدان الإسلامية والغرب.
إن هذه العلاقات تتعقد أيضاً بفعل العوامل السكانية. فالنمو السكاني المذهل في البلدان العربية، خاصة في شمال أفريقيا، قد أدى إلى ازدياد الهجرة إلى أوروبا الغربية. والتحرك داخل أوروبا الغربية نحو تقليص الحدود الداخلية قد زاد من حدة الحساسية السياسية تجاه هذا التطور. ففي إيطاليا وفرنسا وألمانيا يتزايد بروز العنصرية، وردود الفعل السياسية والعنف ضد المهاجرين العرب والأتراك قد ازدادت حدة وانتشاراً منذ سنة 1990.
وينظر إلى التفاعل بين الإسلام والغرب لدى الجانبين كتصادم بين الحضارات. «فالمجابهة القادمة» للغرب، كما يلاحظ م.ج. أكبر M.J. Akbar وهو كاتب مسلم هندي، «ستأتي حتماً من جانب العالم الإسلامي. فعلى امتداد الأمم الإسلامية من المغرب إلى باكستان تسود الفكرة بأن النضال من أجل نظام عالمي جديد سوف يبدأ». ويصل برنارد لويس Bernard Lewis إلى نفس الاستنتاج: «إننا نواجه مزاجاً وحركة تتجاوز بشدة مستوى الأمور والسياسيات والحكومات التي تتبعها. إن هذا ليس بأقل من تصادم حضاري ـ رد الفعل الذي قد يكون غير عقلاني لكنه بالتأكيد تاريخي ـ لتنافس قديم ضد ارثنا المسيحي ـ اليهودي ، ضد حاضرنا العلماني، وضد الانتشار العالمي لكليهما».
وتاريخياً فإن التفاعل المضاد الكبير الآخر للحضارة الإسلامية العربية كان مع الوثنيين وعبدة الحيوان، وحالياً مع النصارى المتزايدين بين الشعوب السوداء في الجنوب. وفي الماضي كان هذا التضاد متجسداً في صورة تجار العبيد العرب والعبيد الأفارقة. وقد انعكس ذلك في الحرب الأهلية الدائرة الآن في السودان بين العرب والزنوج، القتال في تشاد بين المتمردين المدعومين من ليبيا والحكومة، التوترات بين النصارى الأرثوذكس والمسلمين والنصارى في نيجيريا. إن عملية تحديث أفريقيا وانتشار النصرانية يحتمل أن تزيد من احتمالات العنف على امتداد الخط الفاصل هذا واحد أعراض ازدياد حدة هذا الصراع كانت الكلمة التي ألقاها البابا يوحنا بولس الثاني في الخرطوم في شباط (فبراير) 1993 والتي هاجم فيها الإجراءات التي اتخذتها حكومة السودان الإسلامية ضد الأقلية النصرانية هناك.
وعند الحدود الشمالية للإسلام فإن الصراع ازداد تفجراً بين الأرثوذكس والمسلمين، ويدخل ضمن ذلك المعاناة في البوسنة وسراييفو، العنف الذي يغلي ببطء بين الصرب والألبان، العلاقات المعقدة بين البلغار وأقليتهم التركية، العنف بين الاوسيتيين والانجوش، المذابح المتبادلة بين الأرمن والاذريين، العلاقات المتوترة بين الروس والمسلمين في آسيا الوسطى واستخدام القوات الروسية لحماية المصالح الروسية في القفقاس وآسيا الوسطى. إن الدين ينشّط انبعاث الهويات العرقية وثير من جديد مخاوف الروس حول أمن حدودهم الجنوبية. وهذا القلق عبر عنه بشكل جيد آرتشي روزفلت Archie Rosvetl.
«إن جزءاً كبيراً من تاريخ روسيا يتعلق بالصراع بين الشعوب السلافية والتركية على الحدود الفاصلة بينهم، والتي تعود إلى فترة تأسيس الدولة الروسية منذ أكثر من ألف سنة. ففي المجابهة المستمرة منذ ألف سنة بين السلاف وجيرانهم الشرقيين يكمن مفتاح الحل لفهم ليس فقط التاريخ الروسي وإنما الشخصية الروسية. ولفهم الوقائع الحالية في روسيا يجب على المرء أن يمتلك تصوراً للمجموعة العرقية التركية الكبيرة التي شغلت تفكير الروس عبر القرون.
إن الصراع بين الحضارات يتجذر بقوة في مكان آخر من آسيا. فالتصادم التاريخي بين المسلمين والهندوس في شبه القارة الهندية يتجلى الآن ليس فقط في التنافس بين باكستان والهند ولكن أيضاً في النزاع المتصاعد داخل الهند بين الجماعات الهندوسية المتشددة والأقلية المسلمة المهمة في الهند. إن تهديم مسجد ايودهيا في ديسمبر 1992 دفع إلى المقدمة مسألة بقاء الهند دولة ديمقراطية علمانية أو تحولها إلى دولة هندوسية. وفي شرق آسيا فإن الصين لها منازعات إقليمية بارزة مع معظم جيرانها. وهي قد اتبعت سياسة قاسية ومتشددة مع البوذيين في التيبت، كما أنها تتبع سياسة تتزايد شدة مع الأقلية المسلمة التركية. ومع انتهاء الحرب الباردة فإن الخلافات بين الصين والولايات المتحدة قد أصبحت تتركز في مجالات كحقوق الإنسان، التجارة وانتشار الأسلحة. ولا يحتمل أن تتناقض هذه الحلافات، فهناك «حرب باردة جديدة» كما ذكرت التقارير نقلاً عن الزعيم الصيني دنغ هسياوبنغ سنة 1991، تدور رحاها بين الصين والولايات المتحدة.
ونفس العبارة تستخدم بشكل متزايد لوصف العلاقات التي تزداد صعوبة بين اليابان والولايات المتحدة، فهنا تزيد الاختلافات الثقافية من الصراع الاقتصادي. فكلا الطرفين يتهم الآخر بالعنصرية، إلا أنه من الجانب الأميركي على الأقل فإن التنافر ليس عنصرياً وإنما ثقافي. إذ ليس من الممكن أن تكون القيم الأساسية والمواقف وطرز السلوك في المجتمعين أكثر اختلافاً مما هي عليه فعلاً. فالمسائل الاقتصادية بين الولايات المتحدة وأوروبا ليست أقل جديةَ وخطورة من تلك التي بين الولايات المتحدة واليابان، إلا أنه ليس لها نفس البروز السياسي والقوة العاطفية وذلك بسبب كون الفوارق بين الثقافة الأميركية والأوروبية أقل كثيراً من تلك التي بين الحضارة الأميركية والحضارة اليابانية.
إن التفاعل بين الحضارات يختلف كثيراً في درجة العنف التي يمكن أن يتصف بها. فالتنافس الاقتصادي يسود بشكل واضح بين الحضارتين الفرعيتين الأميركية والأوروبية للغرب، وكذلك بينهما واليابان. أما في القارة الأوروآسيوية فإن انتشار الصراع العرقي، الذي يتجلى في أشد صورة «بالتطهير العرقي»، لم يكن ظاهرة عشوائية تماماً. فهو كان أكثر تكراراً وأشد عنفاً بين المجموعات التي تنتمي إلى حضارات مختلفة. ففي أوروآسيا التهب مرة أخرى الخط الفاصل التاريخي بين الحضارات. وهذه يصدق بشكل خاص على امتداد أمماً من وسط أفريقيا وحتى وسط آسيا. فالعنف حاصل بين المسلمين من ناحية، والصرب في البلقان، واليهود في إسرائيل، والهندوس، والبوذيين في بورما، والكاثوليك في الفلبين. فالإسلام حدوده دامية Islam has bloody borders
(يتبع)